Dubai Digital Authority - هيئة دبي الرقمية

Contrast

Use toggle below to switch the contrast

Contrast

Read Speaker

Listen to the content of the page by clicking play on Listen

screen reader button

Text Size

Use the buttons below to increase or decrease the text size

A-
A
A+

أنصتوا إلى الوباء

فيديريكا موغيريني

ميلانو ــ قبل بضعة أسابيع، ما كان لأحد أن يجادل في أنَّ الاتجاه الأكثر أهمية ووضوحاً في السياسة العالمية في عصرنا هو "الانهماك في الشؤون الوطنية الداخلية". وبدا الأمر كما لو أنَّ الممارسات الأحادية ومنطق "المنافسة ذات المحصلة الصِفرية" أصبح الوضع المعتاد الجديد: "لكي أفوز أنا، يجب أن تخسر أنت"، و"أنا أولاً".

بدت مثل هذه العبارات وكأنها العلامة الفارقة التي لا لبس فيها ولا جدال لهذا القرن. وهي فضلاً عن ذلك علامة فارقة تكاد لا تحدها أي حدود جغرافية أو إيديولوجية: وهي متوافرة في أشكال عديدة، في كل قارة، وفي كل توجُّه سياسي (بما في ذلك العديد من أشكال الحركات السياسية غير المصنفة)، وعبر نطاق عريض من الأنظمة المؤسَّسية، بل وحتى داخل بعض المنظمات الدولية. وبدا هذا الاتجاه وكأنه يتوطَّد يوماً بعد يوم، مع قِلة ضئيلة من الأصوات التي تحاول الدفاع عن نهج دولي تعاوني، والتعددية، والحلول التي تضمن الفوز للجميع، والبحث عن أرضية مشتركة، وسياسات قائمة على المجتمع بدلاً من رؤى فردانية بحتة للمجتمع.

اليوم، مع انتشار وباء فيروس كورونا إلى مختلف أنحاء العالم، وتعرض أرواح كثيرين منا للخطر، وتزعزع أركان طريقة حياتنا اليومية، يتعيَّن علينا أن نتساءل ما إذا كان هذا النموذج من المرجح أن يظلَّ هو السائد. هل تزداد قوة الوباء؟ هل نتعلَّم أيَّ دروس منه؟

هل يتحدى الفيروس بعض الافتراضات التي يقوم عليها المشهد السياسي العالمي الحالي؟ هل يحملنا على التركيز على ما يهمُّ حقاً، على ما يوحدنا كبشر، أو يغذي مشاعر الخوف والارتياب بين المجتمعات وداخلها، فيجعلنا أشدَّ انقساماً ويزيد من مستوى الخطاب السام والسلوكيات السامّة التي أفسدت مجتمعاتنا بالفعل، وشلت جزئياً قدرتنا الجماعية على التصرُّف بكفاءة؟ هل نغتنم الفرصة التي تتيحها هذه الأزمة للاعتراف ببعض أخطاء السنوات الأخيرة على حقيقتها، وتعديل مسارنا أخيراً بالاستعانة ببوصلة الواقع؟

ينبئنا هذا الوباء بوضوح شديد بعدد من الأمور. وإذا كنا راغبين في الإنصات إليه، فهذه بعض الحقائق الشديدة البساطة.

أولاً: المجتمع العالمي موجود. فما يحدث بعيداً يخلف أثراً (بالغ الأهمية) هنا والآن. وعطسة واحدة على إحدى القارات قد تفضي إلى تداعيات مباشرة على قارة أخرى. نحن متصلون، نحن واحد. وكل محاولات اعتبار الحدود خطوطاً تقسمنا، وتصنيف الناس حسب الجنسية، أو العِرق، أو النوع الاجتماعي (الذكر والأنثى)، أو المعتقد الديني ــ كل هذا يفقد معناه على الفور، لأنَّ أجسادنا معرضة بذات القدر للفيروس، أيا كانت الفئة التي ننتمي إليها بمقتضى هذه التصنيفات.

ثانياً: أنا مهتم برفاهة جاري. فإذا كان أيٌّ من جيراني يواجه مشكلة، فإنها تصبح مشكلتي أنا أيضاً. وبالتالي، فإذا لم تكن مصلحة جاري تشكِّل لي أي أهمية، فيجدر بي أن أهتمَّ بمصلحتي الشخصية. في عالَم مترابط مثل عالَمنا، تصبح الطريقة الفعّالة الوحيدة لرعاية نفسك هي رعاية الآخرين. أي إنَّ التضامن هو الأنانية الجديدة.

ثالثاً: نحن في احتياج ماس إلى حلول عالمية منسقة، وهذا يتطلب الاستثمار في المنظمات الدولية المتعددة الأطراف. وإذا كنت تظن أنك قادر على الاستجابة بفاعلية لأزمة كهذه بمجرد اتخاذ تدابير وطنية، فأنت بهذا تفعل ما يشار إليه في الثقافة الإيطالية بمحاولة "إفراغ البحر بملعقة": قدر هائل من العمل دون نتائج.

لكي يتسنّى لك أن تكون فعّالاً، فأنت في احتياج إلى جهود نظامية منسقة على المستوى العالمي، مع الاستعانة بالقدر الكافي من الاستثمارات السياسية والمالية الجماعية في إطار السياق الدولي التعددي اللازم لرصد التطورات، والاستجابة لها، ومنعها من التفاقم. أما إذا عملت على تفكيك مصداقية المنظمات الدولية وقدرتها على العمل، فإنَّ احتمالية عملها بفاعلية تصبح أقلَّ ترجيحاً عندما تحتاج إليها، وأنت من سيدفع الثمن.

رابعاً: القرارات السياسية القائمة على العِلم هي الطريقة العقلانية والمفيدة الوحيدة للتحرك. والدليل هو المرجع الوحيد لدينا الذي يمكننا التعويل عليه. ما يدعو إلى التفاؤل أننا نستثمر في العلوم منذ آلاف السنين ــ في مختلف أنحاء العالم، دون استبعاد أي حضارة، ولأسباب بالغة الحكمة. وأي انحراف عن القرارات القائمة على الأدلة العلمية، بسبب اعتبارات سياسية أو اقتصادية قصيرة الأمد، يشكل ببساطة خطورة بالغة.

خامساً: الصحة منفعة عامة. وهي ليست مجرد قضية شخصية. إنها مسألة تتعلق بالأمن الوطني ــ بل وحتى الدولي ــ والرخاء الاقتصادي. وعلى هذا فإنها تستلزم تنفيذ استثمارات عامة كافية ومستدامة، وتتطلب حسّاً جماعياً بالمسؤولية التي ندعو كلَّ مواطن إلى تحمُّلها. إنَّ تجنُّب العدوى ليس ضرورة أساسية لإنقاذ حياة الأفراد وحسب، بل يشكل أيضاً مساهمة بالغة الأهمية في بقاء المجتمعات وقدرة خدمات الصحة العامة على أداء مهمتها، وفي النهاية قدرة الدولة على أداء وظيفتها.

سادساً: يحتاج الاقتصاد العالمي إلى البشر لكي يتمكَّن من صيانة صحته. الاستثمار في الصحة العامة، والعلوم، والبحوث، هو استثمار في الاقتصادات المزدهرة في مختلف أنحاء العالَم. فالإنتاج، والاستهلاك، والتجارة، والخدمات ــ الأساس الذي يقوم عليه نظامنا الاقتصادي ــ كلُّ هذا يحتاج إلى أناس يتمتعون بالصحة ويشعرون بالأمان. إنه الاقتصاد!

سابعاً: تشكِّل المؤسَّسات الديمقراطية العاملة أهمية بالغة لحياتنا. نحن نتعامل مع العديد من الأمور كَـمُـسَـلَّـمات إلى أن ندرك أننا نخاطر بفقدها. والطريقة التي تعمل بها عملية اتخاذ القرار (أو لا تعمل) هي الاختبار المطلق في أوقات الأزمات. وإذا كنا ننظر إلى الديمقراطية على أنها عبء يبطئ أو حتى يعرقل التدابير الفعّالة السريعة، فإننا بهذا نزيد من قوة الحجة لصالح أنظمة حكم أكثر استبدادية، مع كل العواقب السلبية المصاحبة لذلك على حقوقنا وحرياتنا. إنَّ إنجاح عمل المؤسسات الديمقراطية استثمار في صحتنا، وأمننا، وحرياتنا، وحقوقنا.

أخيراً وليس آخراً: لا شيء أغلى ثمناً وأكثر قيمة من الحياة. ونحن ننسى هذا أحيانا، وخاصة عندما تكون حياتنا هي محل التساؤل. هذا حس سليم ــ وربما حان وقت العودة إلى الأساسيات.

إنَّ كل أزمة يمكن استخدامها كفرصة لتعلم الدروس من أخطاء الماضي، وتعديل السياسات، وتغيير المسار، وإصلاح الأشياء التي لم نكن نعترف حتى بأنها مكسورة. الأمر برمته يتوقف على ما يقرر الأفراد في مختلف أنحاء العالم القيام به، بدءاً بأولئك الذين يتحملون مسؤوليات مؤسسية وسياسية. ولكن في نهاية المطاف، سيكون لزاماً علينا جميعا أن نقرِّر. هل نستغل هذه الأزمة لتحقيق مكاسب فردية قصيرة الأمد، في ظل ممارسة تقديم كباش الفداء المعتادة، أو هل نعدُّها نداء إيقاظ على الواقع؟ هذه ليست مثالية، بل هي واقعية محضة.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

فيديريكا موغيريني شغلت سابقا منصب الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، وكانت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، كما شغلت قبل ذلك منصب وزير الخارجية والتعاون الدولي في إيطاليا.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org