«التداوي بالفلسفة » في مواجهة ضراوة العيش
تجعلنا قادرين على صنع الحياة قبل أن تمنحنا القدرة على قراءة النصوص
«إذا لم تنفعك الفلسفة في مواجهة أشد ظروف الحياة قسوة وضراوة فمعناه أنَّ دراستك لها - إن كنت تدرسها- مجرّد مضيعة للوقت، وعليك أن تعيد النظر في أسلوب التعلّم ». عبارة بدأ بها الباحث سعيد ناشيد كتابه الصادر عن دار التنوير للطباعة والنشر في تونس «التداوي بالفلسفة »، والذي صدر في طبعته الأولى سنة 2018 ، في 176 صفحة من القطع المتوسط.
يرى ناشيد أنَّ كتابه هذا هو محاولة للدفاع عن دور الفلسفة في صنع الحياة، والفلسفة إن كانت لا تحتاج إلى من يدافع عنها، فإننا نحن من يحتاج لتبيان أهميتها في حياتنا، وذلك حتى تمارس دورها المنسيّ، والذي هو الدور الأكثر حيوية: ليس دور الفلسفة أن تمنحنا القدرة على قراءة النصوص وحسب، بل دورها بالأساس أن تجعلنا قادرين على الحياة.
أسلوب حياة
بعد هذه الملاحظة ينتقل سعيد ناشيد إلى صلب الكتاب الذي افتتحه بموضوع «الفلسفة والحضارة » وهنا نجده يؤكد أنَّ الفلسفة هي السلّم الذي ارتقته الحضارة المعاصرة صعوداً متدرجاً نحو تحسين قدرة الإنسان المعاصر على التفكير في مواجهة الأوهام، وتحسين قدرته على العيش في مواجهة الشقاء، وتحسين قدرته على التعايش في مواجهة عنف الإنسان ضد أخيه الإنسان.
الفلسفة حسَّنت قدرة الإنسان
المعاصر على التفكير في
مواجهة الأوهام
وفي معرض الحديث عن «الفلسفة كأسلوب للحياة » يرى أنَّ المبدأ الذي تقوم عليه فلسفات فن العيش بسيطٌ ومتَّفقٌ عليه في تاريخ الفلسفة: التفكير هو أداة تحرير الإنسان من الانفعالات السلبية والغرائز البدائية (الغضب، الخوف، الكراهية، الغيرة، الإحباط..) والتي هي العامل الأساسي في تعاسته وشقائه.
خطأ شائع
وهنا يرى سعيد ناشيد أنَّ هناك خطأً شائعاً يعترضنا، مفاده أنَّ التفكير إن لم يؤدِّ إلى الشقاء فإنه لا يقود إلى السعادة. يقول ناشيد: «والنتيجة أنَّ هذا الصنف من الناس ينشد السعادة عبر تعطيل قدرته على التفكير. هنا لا يكون الوصول إلى هذه النتيجة سوى تعبير عن الفشل في مواجهة مصاعب الحياة، وتعبير عن الانعزال، بل هو مجرّد جُبن وكس ». مؤكداً في الأخير على أنَّ أصل المشكل هو طريقة تفكيرنا، وليس الشقاء إلا شيئاً يعده الإنسان بنفسه.
وهنا يتساءل: لما نشعر بالملل؟ حيث يرى أنه لا توجد حياة لا تشوبها فترات من الملل، ولا توجد رواية لا تتخللها فقرات تبعث على الشعور بالملل وتتطلب الصبر على القراءة، ولا حديث لا تشوبه لحظت من الملل.. وكل هذه الحالات تتطلَّب الصبر والإصغاء.
هنا يتساءل: هل سعادتنا تتوقَّف على مواجهة الملل؟ يجيبنا قائلًا: «نعيد التذكير بالقاعدة الرواقية: لا تسوء الأشياء، لكن تسوء أفكارنا حول الأشياء. تصدق هذه القاعدة على حالة الملل أيضاً. ليس الملل شيئاً سيئاً في حدّ ذاته، فالملل قد يكون دافعاً للحيوية بالنسبة للإنسان. أسوأ مواجهة للملل حين نظن أنَّ بإمكاننا الهروب من الملل عن طريق التسلية، فنحاول قتل الملل بأمور تلهينا عن الإبداع في شروط حياتنا .
يمكن أن نستثمر مرحلة
الشيخوخة كي نعيش حياة
أكثر هدوءاً وجودة
شجاعة العيش
ومن سؤال الملل، توقَّف سعيد ناشيد عند نقطة مهمة وهي «الفلسفة كخلاص دنيوي » ويرى أنَّ الفلسفة ليس دورها هو أن تتخلى عن المعذّبين وتتركهم للكهّان والدجالين، ليس دورها أن تهجر الناس حين يشتد بهم الحال ويسوء المآل، بل دورها أن ترعاهم في كلِّ أحوالهم وأهوالهم، وأن تمنحهم شجاعة العيش في كل الظروف.
وإن كانت الفلسفة لا تملك أوهاماً تبيعها للمعذبين- هنا تكمن نقطة ضعفها- لكنها تقترح أسلوب عيش يجعل الحياة محتملة في كل الظروف، ومن دون حاجة إلى أوهام بالضرورة، هنا بالذات يكمن البعد الخلاصي للفلسفة.
فرصة للحياة
لم يغفل سعيد ناشيد إثارة موضوع «الشيخوخة كفرصة للحياة » متسائلاً هنا: كيف نعيش مرحلة الشيخوخة؟ ويرى أنه من المؤكد أننا لا نحب أن نشيخ، لكن المؤكد أيضاً أنَّ بوسعنا أن نشيخَ بكل محبة وارتياح. ليست الشيخوخة بالشيء الذي نستحسنه، لكنها الشيء الذي يمكننا أن نجري عليه تحسينات دائمة، وبالأحرى يمكننا أن نستثمرَ مرحلة الشيخوخة لأجل أن نعيش حياة أكثر هدوءاً وجودة أيضاً، خاصة أننا نكون قد اكتسبنا من التجارب والمعارف ما يعيننا على نظرة أكثر حكمة وهدوءاً، ونكون قد تخفَّفنا من أعباء متطلبات تربية الأطفال وتعليمهم، حصلنا على نوع من الاستقرار مهما كان بسيطاً.
وبالتالي فإنه حين تتحرَّر طاقة العقل والجسد من الجشع والطمع في تكديس المغانم، ويتحرَّر الإنسان من أفكار كثيرة كان يظن أنها أساس العيش السعيد، ويكتشف الأوهام التي تحيط بها.. كل ذلك يحرِّر العقل كما يحرِّر الجسد ويمنحه آفاقاً أخرى قد تكون أكثر إنتاجية على مستوى المعرفة والخبرة والحب والصداقة.
نستخلص إذن ونحن نختم هذه الوقفة مع كتاب «التداوي بالفلسفة » أنَّ سعيد ناشيد قد أثار موضوعاً حساساً وهو عودة الدعوة إلى الاهتمام الفلسفة وتدارسها وتدريسها لما تقدمه من توجيهات ترشد العقل وتفتح له آفاق الإبداع بدلاً من إدخاله في دوامة الانغلاق والتقليد والجمود.