أسرار القوى المحرِّكة للحياة
يسعى العلماء لفك ألغاز العوامل الميكانيكية المؤثرة في الجسم بدءاً من تكوُّن الجنين
لم تزل معجزة الحياة حافلة بالأسرار التي يسعى العلماء إلى فك رموزها واكتشاف التفاصيل الدقيقة التي تحركها. وفي أحدث ما واكبت به الصحفية العلمية آمبر دانس للتطورات العلمية التي تهتم بدراسة نشأة الحياة وأسرار التكون الأولى للكائنات، تحقيق نشرته "نيتشر"، سلَّط الأضواء على مساعي العلماء إلى فك غموض دور العوامل الميكانيكية المؤثرة في الجسم، بدءاً من تكوُّن الجنين، حتى البلوغ.
في بدايات تَكَوُّن الجنين، لا يمكن تمييز جزء أمامي أو خلفي للمضغة الجنينية، ولا رأس، ولا ذَنَب، إذ تكون هذه المضغة مجرَّد كُرة من الخلايا، ولكنْ سرعان ما تطرأ تغيُّرات على هذه الكتلة اللينة، ويتجمَّع سائل في منتصف الكرة، وتتدفق الخلايا كالعسل، لتشغل مواضعها من الجسم الذي سيتشكل في المستقبل. وتُطوَى طبقات من الخلايا على غرار فن الأوريجامي الياباني، كي تنشئ القلب، والأحشاء، والدماغ.
ولا يمكن أن تحدث أيُّ عملية من هذه العمليات، دون عوامل مؤثرة تعمل على ضَغْط الحيوان الذي في طَوْر التكوُّن، وثَنْيه، وشَدّه، كي يتخذ شكله النهائي. وحتى عندما يصل الحيوان إلى مرحلة البلوغ، تُواصِل خلاياه الاستجابة لعوامل الدفع والجذب هذه، التي تنجم عن تأثير من الخلايا نفسها، وكذلك عن عوامل من الطبيعة.
لغز التكوّن
ومع ذلك، فإن الطريقة التي تتكوَّن بها أجسامنا وأنسجتنا وتتخذ أشكالها لا تزال تمثِّل "أحد أهم ألغاز عصرنا، التي يشوب القصور فَهْمنا إياها حتى الآن"، حسب ما ذكرته اختصاصية الأحياء التطورية إيمي شاير، التي تدرس التشكّل الحيوي في جامعة روكفِلر بمدينة نيويورك.
فعلى مدار عقود من الزمان، انصبّ تركيز اختصاصيي الأحياء على دراسة الآلية التي تعمل بها الجينات وغيرها من الجزيئات حيوية المنشأ على تشكيل أجسادنا. ويرجع ذلك في الأساس إلى أن الأدوات اللازمة لتحليل إشارات هذه العملية متوافرة بالفعل، وتشهد تحسينات مستمرة، بيد أن القوى الميكانيكية التي تسهم في هذا التشكُّل كان حظّها من الاهتمام أقل كثيراً.
لذا، على مدار العشرين عاماً المنصرمة، بدأ مزيد من العلماء يولون اهتماماً بالدور المهم الذي تلعبه القوى الميكانيكية في مجموعة متنوعة من المراحل التطورية، وفي مختلف الأعضاء الحيوية، والكائنات الحيّة. وقد تمكنوا من ذلك عن طريق ابتكار أدوات وحيل لهذا الغرض، تدخل فيها تقنيات الليزر، والماصّات الميكروية، والجسيمات المغناطيسية، والمجاهر المصممة لهذه الغاية. واليوم، يدرس أغلب الباحثين الإشارات الميكانيكية باستخدام خلايا أو أنسجة مستزرعة في طبق، بيد أن عدداً قليلاً من الفرق البحثية يدرس الحيوانات بأكملها، وأحياناً ما تكتشف هذه الفرق اختلاف المبادئ التي تؤثر في التشكّل الحيوي للحيوانات عن تلك التي تتضح من دراسات الأنسجة المعزولة.
لا يمكن أن تحدث عمليات
تكون الجنين دون عوامل
مؤثرة تعمل على ضَغْط
الحيوان وثَنْيه وشَدّه كي
يتخذ شكله النهائي
الطريقة التي تتكوَّن بها
أجسامنا وأنسجتنا وتتخذ
أشكالها تمثِّل أحد أهم ألغاز
عصرنا
عوامل مؤثرة
قبل أن يتخذ الجنين شكله، عليه أولاً كسر التناظُر الذي يميز كرة الخلايا الملساء سالفة الذكر. وتجدر الإشارة إلى أنه بعد أن بدأ العلماء في فك شفرة الضوابط الجينية والكيميائية التي تتحكم في هذه العملية، أخذوا في جمع المزيد من المعارف حول القوى الميكانيكية المؤثرة فيها.
يقول جان-ليون مِتر اختصاصي الأحياء من معهد كيوري بباريس: "شيئاً فشيئاً، تتجمع معالم الصورة الكاملة للدور الذي تؤديه القوى الميكانيكية في النمو". وعلى سبيل المثال، للخصائص الفيزيائية، مثل ضغط السوائل وكثافة الخلايا، دور محوري خلال تشكيل أجنة الثدييات لمقدمات أجسادها، وظهورها، ورؤوسها، وأذنابها.
دَرَس فريق اختصاصي الأحياء جان-ليون مِتر الكيفية التي ينشأ بها تجويف كبير مليء بالسوائل، يسمى اللُّمعة Lumen من كرة الخلايا البدئية التي تتألف منها أجنة الفئران في مراحلها الأولى. وتبين أنه مع امتلاء هذا التجويف بالسوائل، تندفع معاً الخلايا التي ستكوّن الجنين إلى أحد الجوانب.
وتضمن هذه الخطوة الأولى لكسر تناظُر المضغة الجنينية انغراس الجنين في جدار الرحم بشكل صحيح، كما تنظّم أي جانب من الجنين سيشكّل ظهره، وأي جانب سيشكّل بطنه، بيد أنه لم يتضح كيف يتكون هذا التجويف ويتحدد موضعه في الجنين.
وعندما قام فريق جان-ليون مِتر بتصوير هذه العملية بالتفصيل، وقع على اكتشاف غير متوقع. ويوضحه جان-ليون مِتر قائلاً: "لاحظنا فقاعات صغيرة، أو جيوب الماء الصغيرة هذه التي تتكون بين الخلايا. وهي تختفي سريعاً، حتى إنك قد تفوت عليك ملاحظتها إذا لم تتمكن من التقاط الصور بالسرعة الكافية".
ويأتي السائل في هذه الفقاعات من السائل المحيط بالمضغة الجنينية، الذي يُدفع إلى داخل الفقاعات، نظراً إلى أن تركيز جزيئات الماء خارجها أعلى. بعد ذلك، لاحظ الفريق ماءً يتدفق من كل من هذه الفقاعات، ربما عبر الفجوات بين الخلايا ليشكل لُمعة أو جوفاً وحيداً في المضغة، حسبما يعتقد مِتر.
وقد تحقق الباحثون من الكيفية التي تَحْدُث بها هذه العملية بدراسة البروتينات المنتشرة عبر الفجوات بين الخلايا، وتتصل ببعضها بعضاً كي تلصق الخلايا معاً بإحكام فمع ظهور هذه الفقاعات، بدا أن هذه البروتينات اللاصقة تتكسر خلال ابتعاد الخلايا عن بعضها بعضاً. وقد كانت الخلايا التي احتوت على بروتينات لاصقة أقل أسهل في دفعها إلى الابتعاد عن بعضها بعضاً.
نمو الذَّنَب
وفي مرحلة لاحقة من عملية النمو، تخرق المضغة الجنينية تناظرها في اتجاه آخر، ليتمايز الرأس عن الذَّنَب. ومن هنا، تتبع أوتجر كامباس، اختصاصي الفيزياء الحيوية من جامعة كاليفورنيا، في مدينة سانتا باربرا الأمريكية، عملية نمو الذَّنَب لدى أجنة سمك الدانيو المخطط، وقام فريقه بقياس القوى المؤثرة على هذه العملية عن طريق حقْن قطيرات زيت محمّلة بجزيئات نانوية مغناطيسية في المساحات بين الخلايا، ثم استخدم الباحثون مجالاً مغناطيسيّاً لتغيير شكل القطيرات، بحيث يمكنهم قياس كيف تتفاعل الأنسجة مع عملية دفع الخلايا هذه، فاكتشفوا أن طرف الذَّنَب النامي كان في حالةٍ يصنّفها الفيزيائيون بأنها "سائلة"؛ إذ كانت الخلايا به تنساب بحُرّية، وعندما تعرضت لضغط، تغيّر شكل نسيج الذَّنَب بسهولة.
وبالابتعاد عن طرف الذيل، وجد العلماء أن صلابة أنسجة الأجنة قد تزايدت. ويعود كامباس بذاكرته إلى هذا الاكتشاف قائلاً: "وَعَيْنا إلى أن الذيل يتصلب، لكننا لم نعرف الآليّة التي تسبب ذلك".
لم يكن بين الخلايا ما يمكن أن يضفي صلابة؛ إذ لم تكن هناك جزيئات بينها تشكِّل مصفوفة بنيوية، بيد أنه عندما قاس الباحثون المساحات بين الخلايا، اكتشفوا أنها كبيرة جدّاً في طرف الذَّنَب الليّن، لكنها كانت أصغر بالقرب من الرأس. وعند تزاحم الخلايا مع بعضها، تصلّب النسيج.
القوى الميكانيكية التي تسهم
في هذا التشكُّل كان حظّها
من الاهتمام قليلاً وتحتاج إلى
جهود واسعة لسبر أغوارها
تكوين القلب والدماغ
بمجرد أن يتحدد مخطط تكوُّن الجنين، يبدأ تشكيل كل عضو من أعضائه. ويقول تيموثي سوندرز، اختصاصي الأحياء التطوّرية من جامعة سنغافورة الوطنية: "في الواقع، يُعَد فهْمنا لكيفية تكوّن الأعضاء الداخلية غير وافٍ". وهذا الوضع بصدد أن يتغير. فعلى سبيل المثال، دَرَس فريق سوندرز تكوُّن القلب لدى أجنة ذبابة الفاكهة، ووجد أن ثمة حدثاً حاسماً يقع عندما تلتقي قطعتان من النسيج لتكوين أنبوب يصبح القلب في نهاية المطاف؛ فكل من هاتين القطعتين تحتوي على نوعين من خلايا عضلة القلب، ويجب أن تلتصقا بشكل صحيح، بحيث تتطابقان عند اقترانهما من أجل تكوُّن قلب سليم.
ضغوط متواصلة
يتحتم كذلك على الحيوانات مكتملة النمو أن تقاوم بعض العوامل المؤثرة فيها في أثناء مواصلتها النمو، أو لدى التغلُّب على الأمراض. فعلى سبيل المثال، عندما يتمدّد الجسم، ينمو الجلد كي يغطيه. ويستغلّ الجرّاحون هذه الميزة في جِراحات إعادة بناء الثدي، حيث تكون هناك حاجة إلى مزيد من الجلد لتغطية النسيج المخطط لاستزراعه.
فأولاً، يُدخِل الجراحون "بالوناً"، ثم ينفخونه تدريجيّاً بمحلول ملحي على مدار عدة أشهر، بحيث يتمدّد الجلد الموجود، إلى أن ينمو جلد جديد يكفي لاستخدامه في جراحة ثانية.
والسؤال الآن: كيف تستجيب خلايا الجلد إلى هذا الضغط وتتكاثر؟ أجابت اختصاصية بيولوجيا الخلايا الجذعية مارياسيليست أراجونا عن هذا السؤال في أبحاثها في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة بروكسل الحرّة في بلجيكا، خلال عملها مع سيدريك بلانبين، إذ قامت بزرع كُريَّة من هُلام مائي ذاتي التمدّد تحت الجلد لدى فئران. ومع امتصاص الهُلام المائي للسوائل، وصل إلى حجم نهائي يبلغ 4 ملِّيلترات، وتمدد الجلد من حوله. وفي غضون يوم واحد من زرع هذا الهلام، لاحظت أراجونا أن الخلايا الجذعية تحت الطبقة الخارجية من جلد الفئران بدأت في التكاثر، لتنتج بذلك المادة الخام التي بإمكانها التمايز والتحوُّل إلى جلد جديد.
غير أن الخلايا الجذعية لا تتكاثر جميعها استجابةً لهذا التمدد؛ إذ لم تبدأ سوى مجموعة فرعية -كانت غير مكتشَفة من قبل- في إنتاج خلايا جذعية جديدة بغزارة. وتعلّق أراجونا على ذلك قائلةً: "لا نعرف السبب حتى الآن". ويضيف بلانبين قائلاً: إنَّ فهْم هذه المنظومة قد يقودنا إلى اكتشاف أساليب من شأنها تحفيز نمو الجلد لأغراض الجراحات الترميمية، أو شفاء الجروح.
مواجهة السرطان
كما تلعب الخواص الميكانيكية للأنسجة دوراً في النمو غير الطبيعي للخلايا، مثلما يحدث في الأورام السرطانية. يقول خافيير تريبات: "الأورام الجامدة أكثر صلابة من الأنسجة الطبيعية". ويرجع هذا -في جزء منه- إلى وجود زوائد من شبكة ليفيّة تحيط بالخلايا، يُطلَق عليها المصفوفة خارج الخلوية، وإلى أن خلايا الورم السرطاني نفسها تتكاثر". ويضيف تريبات قائلاً: "هذه الصلابة تجعل الخلايا السرطانية أكثر خبثاً"، ويستطرد قائلاً إنه إذا استطاع العلماء فهْم السبب وراء ذلك، فربما يتمكنون من تصميم علاجات تعمل على تغيير تلك الخواص الفيزيائية، وتجعل الأورام السرطانية أقل خطورة.
وفي دراسة مشابِهة، اكتشف باحثون من جامعة روكفلر القوى الميكانيكية التي تفسر كون بعض أنواع سرطانات الجلد حميداً، وكون بعضها الآخر خبيثاً، إذ تتسبب خلايا الجلد الجذعية في نوعين مختلفين من السرطان: سرطان الخلايا القاعدية، الذي لا ينتشر متجاوزاً الجلد؛ وسرطان الخلايا الحرشفية الغَزوِيّ. وكلا النوعين يضغط على الغشاء القاعديّ أسفله، وهو طبقة من البروتينات البنيوية التي تفصل الطبقات الخارجية من الجلد عن النسيج الأعمق. وفي حين أن ورم الخلايا القاعدية الحميد نادراً ما يخرق الغشاء القاعدي، فإن نظيره الأكثر شراسة غالباً ما يتسلل عبر هذا الغشاء ليطوف في الجُملة الوعائية، ويستقر في أعضاء أخرى من الجسم.