كسوف شمس
في هذه الصفحات تنشر مجلة «ومضات » القصص الفائزة في «مسابقة القصة القصيرة » التي أطلقتها الجامعة الأمريكية في دبي، لطلبة الثانوية العامة في مدارس الدولة الحكومية، والتي تمحورت حول كتابة قصة قصيرة من وحي الخيال بعنوان (الحياة في الإمارات بعد 50 عاماً).
كسوف شمس
بقلم الطالب: عبدالله داود علي أحمد
كانت ظهيرةً من غير شمس، فترة وجيزة حُرمتُ فيها من التمتع بأشعة شمسنا الذهبية. كانت الرياح باردة، والسماء سماء فجر. كان الهواء نقياً، نقياً جداً لدرجة أني استطعت أن أشم رائحة مياه الخليج المالحة في المولدات المائية المحلية. لاحظت أيضاً الطيور وهي تغير (سمفونياتها) تظن أن الليل حل باكراً؛ مساكين، كانت الأوضاع كارثية بالنسبة لهم؛ لكن، بالنسبة لي، كانت الأجواء المرعبة شاعرية، لأنني كنت عاشقاً للكسوفات الشمسية.
على سطح البناية، مددت جسدي مستلقياً وأنا أنظر إلى الشمس وهي تهدي القمر نجومية هذه الساعة، لافتين الحجاب عن سماء مرصعة بالنجوم، وكأنهم -نوعاً ما- يطعمونني ملعقة مطفحة من صغري وقلة أهميتي في عيونهن.
كان تأملي في النهاية مقطوعاً بسبب صوت صرير باب السطح. استغربت؛ لم أسمع صوت المقبض، هل كان الباب مفتوحاً؟ ولكن ترك الأبواب مفتوحة لم يكن من عاداتي. «من يتجسس عليَّ في هذه الساعة؟! » تساءلت في نفسي.
لففت رأسي نحو الباب لأرى من كان هناك، ثم رأيت ذلك الوجه. لقد كان (أندرويدا)، أحد تلك الروبوتات الحديثة التي تصنعها شركتنا: إحدى أكبر شركات التصنيع والبرمجة في الإمارات العربية المتحدة، الإمارات التي عرفت دائماً بتصنيع الروبوتات نظراً لتركيزها على الابتكار والتكنولوجيا في نظامها التعليمي. كان عبارة عن صفيحة معدن، عيناه حمراوان، وصغير الحجم، عكس باقي نسخه، كان مجرد نسخة تجريبية، تم تشكيله وتزيينه ليبدو كغيره، كانت عملية لا حاجة لها، ولهذا السبب، بدا غريباً، وقبيحاً بعض الشيء.
« أنا هنا من أجل الاختبار الأولي » قال الروبوت. كنت منزعجاً. صحيح أني نسيت أعمالي معه؛ وأن ينسى المرء أعماله وأشغاله المهمة قد يكون بغيضاً بعض الشيء، ولكن لم يكن ذلك سبب انزعاجي؛ ربما انقطاع موعدي مع الشمس والقمر هو ما أدى لحالة ضجري الطفيفة، أو ربما كان صوت الأندرويد الحاد؟ لم أعلم قط.
« نظام تحديد المواقع الخاص بك جيد جداً » ! قلت له، «لقد اتبعتني بدقة تامة حتى وصلت إلى مكاني السري، لقد دُرست ملفاتي الشخصية بامتياز ». «أنت تجاملني أيها السيد » قال الروبوت.
لم أكن أجامله. تلك الآلات كانت تتطور بشكل مخيف في كل ثانية، وكان ذلك أمراً مقلقاً. ماذا لو تفوقوا علينا وسيطروا على العالم؟ سيتخلصون منا لأننا سيئون للبيئة، أو ربما سينتقمون منا ويعاملونا كما عاملناهم بالضبط؛ حيوانات أليفة. إن تجنب مستقبل بائس كهذا مهمة صعبة، تلك الآلات دائماً كرهتنا وكرهت أساليبنا، من الطبيعي أن ينتقموا منا؛ ولكن، لم يكن بإمكانهم رفع إصبع، في الواقع، لم يكن بإمكانهم فعل شيء إلا الابتسام؛ لأننا قمنا ببرمجتهم لفعل ذلك؛ لا حقد، لا كراهية، لا انتقام، ابتسام فقط.
بدأت الاختبار. تفقدت هيكله أولاً، ثم خصائصه الذهنية. كشفت عن قليل من المشكلات: صوت رديء، ردود أفعال بطيئة، والتحديق الطويل في عيون الآخرين؛ وهو شيء غير مريح إطلاقاً. تحدثنا أيضاً؛ الحوار كان جزءاً مهماً من الامتحان، تحدثنا عن الكثير من الأشياء، ولكن معظم الحوار كان عني شخصياً، حيث كان من المفترض من الروبوت أن يصبح مساعدي الشخصي، ويجب عليه أن يعلم كل شيء عني.
«وهكذا أصبحت مبرمج أندرويدات فخوراً » قلت له.
«يا لها من قصة مثيرة للاهتمام، أيها السيد ».
«شكراً » قلت له، «هل عندك أي تعليقات؟ ».
«نعم » قال لي «سيدي ليس مبرمجاً فخوراً، هو مبرمج فقط ».
لقد علم. علم بكذبتي. كانت من ذاك النوع من الأكاذيب، التي قد تقولها لأحد زملائك لتبدو أكثر إثارة وأهمية، كذبة بيضاء لا وزن لها. لكن هذه المرة كانت ثقل الحجر. مع أنني علمت أن الآلي قرأ كل ملفاتي وحتى مذكرتي، كلامه كان بمنزلة صفعة على الوجه. أحسست بقمة الإحراج والإهانة، لكن الأمر لم ينتهِ بعد، ظلت الصفيحة تبين لي أكاذيبي وتقلل من همّتي. جعلتني أعيش الندم مجدداً.
«سيدي لم يرد أن يكون مبرمجاً قط، أراد أن يكون لاعب كرة قدم ».
«لطالما كان سيدي حقوداً تجاه سيف، زميله الناجح ».
«لو استمع سيدي لكلام معلمه، لكان الآن في مكان أفضل ».
لقد كان بالفعل مليئاً بالغرائب والعجائب، لم أعرف أبداً سر تكوّن هذا الذكاء الاصطناعي الخارق، أكان خطأً في كتابة البرنامج؟ خللاً في الحسابات الخوارزمية؟ كان السبب مجهولاً. أردت أن أحقِّق أكثر، أن أعرف أكثر، أردت كشف الغطاء عن مزيد من عجائب وأسرار هذا الشيء اللامع، ولكن توقفت، لم أقدر على الإكمال، كانت همّتي منخفضة. ظل الخبيث يرقص على أعصابي حتى قال الجملة اللعينة:
« سيدي، بعد التحقيق والتدقيق، أنا أطلب منك أن تستقيل وأن تهديني إلى سيد من مرتبة أعلى. السبب هو أنك يا سيدي لست جيداً بما يكفي، لا أقصد الإهانة ».
تلك الجملة تسببت في غليان دمي. كنت شديد الغضب، لدرجة أني أحسست بال(نانوروبوتس) وهي تجرح جدران أوردتي. ها هو، أسوأ كوابيسي: أن يتم استبدالي؛ كان هذا الشعور وكأنه مخلوق يخرج من بين الظلال، صغير في الحجم، قبيح في الشكل، يرقد أسفل شراييني، ويتغذى في الظلام. هل حقاً عشت في بلاد خالية من النفايات؟ فكرت عميقاً في ذلك السؤال، لأني أحسست بأنني كومة من النفايات بنفسي. رأيت انعكاس وجهي في رأسه الفضي اللامع، وبدا كأنه جرح دموي ناشف وهو يتشقق من جديد.
« لقد انتهينا هنا، الاختبار الأولي انتهى » تمتمت له.
مشيت نحوه ببطء لإطفائه، كل خطوة مشيتها كانت أثقل من التي سبقتها. كانت عيناه مثبتتين على عينيَّ، أردت رؤية الخوف المخبأ فيهما، لكن لم أجد فيهما إلا التهديد. مع أنه علم أنه سيلاقي حتفه عما قريب، لم يتفوَّه بكلمة، لماذا؟ ربما آمن أنه بطريقة أو بأخرى، من خلال حسرتي، سيعيش، ولم يكن مخطئاً؛ لم أشعر بالأمان للحظة طوال عملية الإطفاء.
ذاك الشيطان، لم يتوقف للحظة عن التحديق بي.