الجراحة درة العلوم الطبية في التراث العربي
مارسها العرب وسبقوا العالم بوصفها وصنع أدواتها ونسبها الغرب لأنفسهم
الطب من العلوم التي أفاض فيها المستشرقون بأنَّ نصيب العرب منها لا يكاد يُذكَر، وفي هذا يقول المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان C.Brockelmnn في كتابه الأشهر «تاريخ الأدب العربي » يتحدث فيه عن الطب عند العرب: «كان عامة الناس في زمن الجاحظ يصدفون عن الأطباء المسلمين (انظر البخلاء للجاحظ) . وهو هنا يشير إشارة خبيثة إلى تلك القصة الهزلية التي أوردها الجاحظ في «البخلاء»، وجاء فيها على لسان بطل القصة قوله: «إنَّ المسلمين لا يفلحون في الطب».
ومن العجيب في الأمر أنَّ معظم المستشرقين قد استشهدوا بما قاله الجاحظ كدليل على أنَّ نصيب العرب من الطب قليل. وفي غمرة هذا التعصب ضد العرب نسي المستشرقون أمرين؛ الأول: أنَّ الطب من العلوم التي تتقاسمها الشعوب فهي من الحاجات الملحة للإنسان؛ لأنها من أساسيات بني البشر مهما كان نصيبهم من التحضُّر والمدنية قليلاً. والثاني: لم يلتفت المستشرقون إلى أنَّ ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء » ذكر كثيراً من الأطباء من العصر الجاهلي، وهذا دليل على أنَّ الطب كان حاضراً لدى العرب في العصر الجاهلي.
علم التشريح
وفي سياق مماثل لما قاله الجاحظ، الذي اتخذه المستشرفون دليلاً على ضعف الطب عند العرب، كان علم التشريح؛ لأنَّ الإسلام -في زعمهم- حرَّم التشريح؛ فهو من العلوم التي أفاض المستشرقون في أنها يونانية لحماً ودماً، ولم يكن للعرب فيها نصيب يُذكَر، فما من مؤرخِ علمٍ ذكر التشريح إلا وذكر تحريم الإسلام له.
ومن المعروف أنَّ الإسلام قد نهى عن التمثيل بالجثث. والفرق واضح وكبير بين التشريح والتمثيل بالجثث؛ فالتشريح إنما هو فضول علمي ملازم للإنسان، وهو بدايات الطريق إلى المعرفة، بينما التمثيل بالجثث عمل بربري دافعه الانتقام، كما أنَّ التشريح علم، بينما التمثيل بالجثث جريمة. وعلى سبيل المثال، فإنَّ جوستاف جرونيباوم G.Grunepaum يرى أنَّ الطبَّ لدى المسلمين كان عالة على طب الإغريق، حيث يقول: «كان أذكى الباحثين من الأطباء المسلمين يقبلون على ما خلفه الإغريق من علوم التشريح والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والباثولوجيا (علم الأمراض) قانعين بتصحيح بعض التفاصيل، وكانت رغبتهم ببدء البحث تكاد تكون غير معروفة ».
وقد شايعه فيما ذهب إليه مؤرخ آخر، وهو كراوذر Krawther إذ يقول: «وكانت الزيادات التي أضافها المسلمون إلى التشريح وعلم وظائف الأعضاء قليلة، وذلك لأنَّ الإسلام حرَّم تشريح جسم الإنسان والحيوان، ما منعهم من إجراء التجارب الفسيولوجية والكشف عن أخطاء جالينوس. وفي الواقع لم يضيفوا شيئاً » . أما كارا دو فو Cara de Vaux المستشرق الفرنسي فكتب يقول في دائرة المعارف الإسلامية في مادة «التشريح": «لم يقبل المسلمون على التشريح، إذ كان تصوير الإنسان محرماً عندهم، وكان التشريح لا يرضى عنه الدِّين، ولم يمارسه المسلمون، بل الأقدمون، اللهمَّ إلا في الإسكندرية حيث انتهز جالينوس الفرص التي أتيحت له لتعلُّم تشريح الإنسان.
وما مرَّ بالمسلمين ظرفٌ مواتٍ إلا واغتنموه للترقي بهذا العلم، ولتجدن مثالاً على ذلك في رحلة عبد اللطيف البغدادي، فقد علم أنَّ بالمقس من أعمال مصر تلاً من بقايا إنسانية، فأخذ في تفحص هذه الهياكل وكتب مشاهداته » . وقد لقيت هذه الأفكار انتشاراً واسعاً وعدّت من ثوابت الحقائق إلى درجة أن مؤرخاً بحجم وقدر ول ديورانت . W Durant يقول في مؤلفه الموسوعي الضخم «قصة الحضارة": «إنَّ علم التشريح عند المسلمين قد اقتصر على ما جاء في كتب جالينوس، أو على دراسة الجرحى من الناس، ومن أجل هذا كان أضعف فروع الطب الإسلامي هو الجراحة».
إلمام العرب بالتشريح
وعلى الرغم من هذا فقد ثبت بالبحث في بعض مؤلفات الأطباء العرب أنهم مارسوا قدراً من التشريح، يقول الدكتور توفيق الطويل: وقد قيل إنَّ الشريعة تحرم تشريح الجثث، ومن هنا جاء تأخر العرب في التشريح والجراحة. ولكن من درس مؤلفاتهم في هذا الميدان عرف أنهم ألموا بما كتبه أئمة التشريح القدماء من أمثال جالينوس، وأنهم نبهوا إلى أخطاء أسلافهم في ضوء خبراتهم الشخصية في التشريح، وحسبنا أن نستشهد في هذا الصدد بابن النفيس، الذي كان يجاهر بأنه لا يقوم بتشريح الجثث استجابة لتعاليم الشريعة، ومع هذا يقول في كتابه «شرح تشريح القانون » في نقد جالينوس وابن سينا: «والتشريح يكذبهما ».
لدى معرفة بما كتبه أئمة
التشريح القدماء كجالينوس
وقد نبهوا إلى أخطاء أسلافهم
في ضوء خبراتهم الشخصية
وفي موسوعة تاريخ العلوم العربية، الذي توافر على تأليفها لفيف من المستشرقين ومؤرخي العلم، نجد في الجزء الخاص بالجراحة فقرة جاء فيها: «إن الرسوم الواردة في المخطوطات العربية عن الولادة القيصرية، قد توهم المطلعين بأن الجراحين العرب قد مارسوا مثل هذه العمليات. وفي الواقع لم تُجْرَ أية عملية قيصرية على امرأة حية لإنجاب جنينها، لأنَّ عملية كهذه كانت تودي بالأم إلى الموت المحتم. كذلك ليس هناك من إشارة في الأدب الطبي إلى محاولة إجراء عملية بعد موت الأم لإنقاذ جنينها؛ فالمحاولات لإنقاذ الجنين بعد موت الأم كانت مدانة من الفقهاء والمتشددين المسلمين. ويظهر الواقع أنَّ فقهاء المسلمين قد حظروا ممارسة العملية القيصرية بعد موت الأم، وهذا يعني أنَّ حالات كهذه كانت قد واجهت الأطباء وتمَّ إجراء عمليات لها، على الرغم من أنها لم تذكر في النصوص الطبية».
ولنا تعقيبان على ما قاله هذا المستشرق:
الأول: إنَّ المسلمين كانوا على دراية تامة بالعملية القيصرية، وإنهم قد تمكنوا من إجرائها لولا ما يزعم هذا المستشرق من حظرها من قبل الفقهاء.
الثاني: إنَّ هذا المستشرق لم يأتِ بدليل أو نصٍّ من نصوص التراث الإسلامي يؤيد ما ذهب إليه، حتى ولو في معرض الإشارة العابرة، بل إن واقع الإسلام يكذبه فكيف لفقهاء أن يحظروا أمراً ورد صراحة في القرآن الكريم في قوله تعالى [يخرج الحي من الميت. (آل عمران: 27 ).
كانت مصر مركز التشريح
والجراحة في التاريخ القديم
بسبب عملية التحنيط التي
اشتهر المصريون بها
التشريح... اعتبارات تاريخية
من طبائع الأشياء أنَّ الأمور المغلوطة تتحوَّل بالتدريج إلى حقائق مسلّم بها ما لم تجد من يفندها ويصححها ويبيّن وجه الزيف بها. وأوَّل وجه من وجوه الزيف في أقوال المستشرقين أنَّ العرب قد نقلوا تراث الإغريق في الطب والتشريح دون مساهمة فعّالة منهم أو إضافة تذكر وقد غاب عن فطنة هؤلاء المستشرقين أنَّ الطب من العلوم التي تشترك فيها الشعوب، خلافاً للرياضيات والهندسة والفلسفة والمنطق، وجميعها من العلوم التي برز فيها اليونانيون القدماء، أي إنَّ العرب القدماء كان لهم علم بالطب يتوافق مع البيئة الصحراوية.
وثاني وجه من وجوه الزيف أنَّ المستشرقين ومؤرخي العلم من الغربيين يرون أن أمثال «أبقراط » و"جالينوس » من أرباب الطب في العالم القديم، وأن العالم كله قد تعلم وأخذ الطب عنهما، وخاصة العرب عن طريق ترجمة مؤلفاتهما. وحقيقة الأمر أنَّ هذا من الأمور المبالغ فيها إلى درجة أقرب إلى الكذب والتدليس منها إلى الحقيقة الصادقة. ف"أبقراط » لا يحق له أن يعرف ب"أبو الطب »، وإنما الأجدر بهذا اللقب هو الطبيب المصري «أمنحوتب».
يقول مؤرخ العلم الشهير جورج سارتون :G.Sarton «أما في الطب فإن إله الطب عند اليونان، إنما كان من أخلاف الإله المصري (أمنحوتب) الذي يمكن أن نرتد بتاريخه عند بداية القرن الثلاثين ق.م... لقد جرت عادتنا على أن نذكر (أبقراط) ونصفه بأنه أبو الطب. وإنه لأجدر بنا أن نحلّ (امنحوتب) محلّه».
وثالث وجه من وجوه الزيف أنَّ اليونان لم تشتهر يوماً بالتشريح لسببين؛
الأول: إن التشريح عمل يدوي وليس عملاً ذهنياً كالهندسة والفلسفة والمنطق، وهي العلوم التي اشتهرت بها اليونان، أما العمل اليدوي أو التجارب العملية فليس لها أدنى نصيب عند اليونان، فقد كان العمل اليدوي من أعمال العبيد لذا لم يكن لهم في علوم مثل الكيمياء والطبيعة والميكانيكا نصيب يذكر، فقد «عجز الإغريق عن السير في طريق التقدم بعلوم الكيمياء والطبيعة والميكانيكا، لأنهم لم يعيروا أعمال العبيد الفنية أدنى التفات». حتى إن أرشميدس الذي اشتهر باختراعاته كان يرى أنَّ الأعمال الميكانيكية أو أي نوع من الفن النفعي، أعمال حقيرة وغير شريفة، وهذا نموذج للتفكير اليوناني.
أما السبب الثاني فإنَّ التشريح كان حكراً على المصريين القدماء لاشتهارهم بالتحنيط، وهي عملية جراحية تشريحية بالدرجة الأولى، وأولى خطواتها أن يفرغ الدماغ من مادة المخ عن طريق الأنف، ثمَّ يُشقّ البطن ويخلى من كل ما فيه من المواد الرخوة وتعزل الأحشاء كالقلب والأحشاء، ثمَّ يخاط الشق فيصبح الجسد جلداً على عظم . وعلى هذا الأساس يمكننا القول دون مغالاة: إنَّ مصر كانت مركز التشريح والجراحة في التاريخ القديم. أما جالينوس الذي يعده مؤرخو العلم أسطورة الجراحة في التاريخ القديم، والذي نقل العرب كتبه في الجراحة والتشريح أسوة بمؤلفات التراث اليوناني القديم إبان حركة الترجمة التي حدثت في العصر العباسي، فقد أمضى شطراً من حياته في مصر أسوة بكثير من أساطين العلم اليوناني؛ لأن الإسكندرية حينذاك كانت مركز العالم العلمي ، أي إن علمه بالتشريح مستمد من الحضارة المصرية القديمة.
التشريح عند المسلمين وشهادة من أهلها
من المعروف أنَّ الطب من العلوم كما مرَّ بنا التي تشترك فيها الشعوب بدرجة أو بأخرى، لذا فإنه من الطبيعي أن تكون المعلومات المتعلقة بالجراحة منتشرة عند العرب منذ القدم، فقد عرف العرب من الجراحة الكي والفصد والجراحة والحجامة، إضافة إلى تجبير الكسور.
وعندما بدأت حركة الترجمة في العصر العباسي اتسعت معارف العرب في الطب نتيجة لما ترجموه من تراث اليونان والفرس والهنود في الطب، إضافة إلى أنَّ المعلومات التشريحية والجراحية المكتسبة والتي تراكمت بفعل الزمن قد أسهمت إلى حد كبير في معرفة جسم الإنسان، ويعدُّ الرازي ( 925 م) من أوائل الذين تحدثوا في مؤلفاتهم عن الجراحة، فقد خصَّص جزأين من كتابه «الحاوي» المكوّن من اثنين وعشرين جزءاً، للجراحة وكتب عن جراحات العضل والعصب وفي خياطة جراحة البطن والأمعاء...إلخ، كما خصَّص أيضاً المقالة الثانية من كتابه «المنصوري » للجراحة في تسعة عشر فصلاً .
أما ابن سينا ( 1037 م) فقد ذكر فصولاً كثيرة خاصة في الجزء الأول من كتابه «القانون في الطب» مثل فصل في تشريح القحف يقصد الجمجمة وفصل آخر في تشريح الفكين والأنف وثالث في تشريح الفقرات ورابع في تشريح فقار الصدر... إلخ. وعلى الرغم من كثرة الأطباء العرب وكثرة مؤلفاتهم التي وجدت طريقها إلى حواضر أوروبا عبر ترجماتها العديدة إلى اللاتينية أحياناً أو الإيطالية أحياناً أخرى، غير أنَّ عالمين عربيين قد أحدث كل منهما حدثاً في تاريخ العلم وتحديداً في الجراحة والتشريح، بما يشبه الطفرة في كليهما، الأول: الزهراوي، والثاني: ابن النفيس.
أبو القاسم الزهراوي
هو أبو القاسم الزهراوي ( 1103 م) جرّاح عربي ولد بالزهراء، إحدى ضواحي قرطبة بالأندلس، أجرى العمليات الجراحية واستعان بالآلات، كان كتابه «التصريف لمن عجز عن التأليف» أعظم الأثر في النهضة الأوروبية مدة خمسة قرون، ويحوي أبواباً وفصولاً فيها أوصاف لعمليات منها عمليات استخراج حصى المثانة بالشق والتفتيت، ويمتاز الكتاب بكثرة رسومه ووفرة أشكال الآلات التي كان يستعملها وأكثرها من ابتكاره. يقول أنخل بالنثيا E.G. Palencia في كتابه «تاريخ الفكر الأندلسي» عن الزهراوي: «وكتابه المسمّى «التصريف لمن عجز عن التأليف» يعدُّ بحق موسوعة طبية، فالجزء الثلاثون من الكتاب وهو الجزء الخاص بالتشريح والجراحة الذي نشر في اللاتينية، كان أهم وأذيَعَ كتاب في تاريخ الطب كله، ويحوي رسوم الأدوات الجراحية، وهو أول مؤلف جعل الجراحة علماً بذاته مستقلاً عن الطب، وأقامها على أسس تعتمد العلم بالتشريح.
ويقول المستشرق الشهير ماكس مايرهوف M.Meyerhcf عن مؤلف الزهراوي في الجراحة: «إنَّ رسالة أبي القاسم الجراحية تضمنت وصفاً وصوراً للآلات الجراحية وساعدت على الأخص في وضع أسس الجراحة في أوروبا ». وعلى نفس النهج السابق يقول جان شارل سورنيا Ch.Sournia في كتابه «تاريخ الطب » متحدثاً عن الطبيب العربي الشهير الزهراوي: «فرض أبو القاسم الزهراوي نفسه على المرحلة كجراح متميز، وقد أكد بداية أنه لا يوجد أي فاصل بين الطب والجراحة؛ لأنَّ الجراح الجيد لا بدَّ أن يكون على دراية بالاثنين، وقد نسي هذا المبدأ في الغرب، كما نسيت ضرورة المعرفة بالتشريح.
وقام بتطوير الآلات الجراحية، وشرح إكلينيكياً الأنواع المختلفة لكسور العظام وذكر العديد من الطرق المتنوعة لاستخراج رأس سهم من اللحم... إلخ. ونستطيع إذاً أن نعدُّه واحداً من المؤسَّسين الحقيقيين لعلم الجراحة، وذلك بفضل حكمته وقدرته على الملاحظة. أمّا الجراحون الذين أتوا من بعده مثل جي دو شولياك Guy de Chauliac وأمبرواز باريه Ambroise Paret فقد نقلوا عنه دون أمانة ولم يعترفوا له بما يستحقه إلا نادراً».
ابن النفيس
هو علي بن أبي الحزم بن النفيس القرشي ( 1288 م) أحد أطباء دمشق المشهورين، صنف كتاب «الشامل » في الطب، ولكتابه «شرح تشريح القانون » أهمية قصوى لأنه في وصفه للرئة سبق غيره. كشف الدورة الدموية الرئوية ووصفها وصفاً علمياً صحيحاً، فتقدَّم بذلك على سرفيتوس الذي يعزو الأوروبيون إليه هذا الكشف، ولا ريب أنَّ هذا أعظم كشف في التشريح قام به العرب.
تحدث الرازي في كتابه «الحاوي »
عن جراحات العضل والعصب
وخياطة جراحة البطن والأمعاء
كتب ابن سينا في «القانون في
الطب » عن تشريح الجمجمة
والفكين والأنف والفقرات الصدرية
غير أنه من أغرب الأشياء وأكثرها إغراقاً في الغرابة ما حدث مع ابن النفيس الذي كشف الدورة الدموية في كتابه «شرح تشريح القانون». فبعد أن كشف ابن النفيس الدورة الدموية، فإنَّ تعاليمه أهملت بعده ثلاثة قرون من الزمان. ثمَّ ظهر خلال واحد وستين عاماً من ترجمة كتابه إلى اللاتينية ( 1547 م) ثلاثة من علماء أوروبا يصفون دورة الدم في الرئة بنفس الألفاظ التي استخدمها ابن النفيس، هم: ميشيل سرفيتوس Servitus (1553 م) الأسباني، وريالدو كولومبو Colombo (1559 م) الإيطالي، وهو أستاذ التشريح في جامعة بادوا، ووليم هارفي Harvey (1658 م) الإنجليزي.
وقد أثبت البحث العلمي أنَّ هؤلاء الروّاد من الغربيين لم يهتدوا إلى النظرية مستقلين عن ابن النفيس، فكتاب ابن النفيس قد ترجمه إلى اللاتينية طبيب إيطالي هو «الباجو Alpago » ونُشِرت الترجمة لأول مرة في مدينة البندقية عام 1547 م، وقد كان هذا على التحقيق مَرْجع هارفي الذي تُعْزى إليه اليوم هذه النظرية.
التراث العربي
ولا شَّك أنَّ هذا الأمر لا يدعو إلى الدهشة والغرابة فحسب، بل يدعو أكثر ما يدعو إلى الشك والريبة، فها هو عالمٌ عربيٌّ قد عالج موضوعاً ما وكتب كتاباً في ذلك الموضوع، وأُهْمل كتابه ثلاثة قرون، وفجأة تكالب على معالجة الموضوع نفسه ثلاثة من العلماء في خلال واحد وستين عاماً، وبنفس ألفاظ العالم العربي. إنَّ أبسط تعليل يخطر بالذهن حول هذا الأمر يتلخص في أنَّ التراث العلمي العربي صار غنيمةً في أيدي علماء أوروبا الذين كانوا من عوامل النهضة الأوروبية ينهلون من فيضه سطواً واقتباساً وانتحالاً.
وقد عقدت المستشرقة الألمانية زجريد هونكه Z. Honke فصلاً خاصاً حَكتَ فيه قصة اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية وملابساته التي غيَّرت بعض معطيات تاريخ العلم العربي واختتمته قائلة: «فإن أول من نَفَذَ ببصره إلى أخطاء جالينوس ونَقَدها ثم جاء بنظرية الدورة الدموية لم يكن سرفيتوس الإسباني ولا هارفي الإنجليزي، بل كان رجلاً عربياً أصيلاً من القرن الثالث عشر الميلادي وهو ابن النفيس، الذي وَصل إلى هذا الاكتشاف العظيم في تاريخ الإنسانية وتاريخ الطب قَبْل هارفي بأربعمائة عام وقبل سرفيتوس بثلاثمائة عام».
سرقة العلم
وعلى هذا الأساس فإنَّ التشريح عند العرب قائم وواقع بدرجة أو بأخرى، سواء أكان جهراً أم سراً، ولعلَّ أوضح ما تمخض عنه البحث العلمي لدى المستشرقين أنفسهم وخاصة إذا كانوا من الأطباء؛ انكشاف حالة السطو الصريح على التراث العلمي العربي إذ إنَّ هذا السطو هو السمة الغالبة على علماء أوروبا قبيل عصر النهضة وخلالها وبعدها أيضاً، فقد كشف مارتن بلسنر M.Plessner في الفصل الخاص بالعلوم ضمن فصول كتاب «تراث الإسلام » عن حالة سطو صريح على التراث العربي في التشريح رغم تلك اللغة المهذبة التي وصف بها هذا السطو بأنه «تأثير التراث الإسلامي على الغرب » فيقول: «لا بدَّ لنا أن نذكر مثالاً فريداً لتأثير التراث الإسلامي على الغرب.
ذلك أنَّ مؤسِّس علم التشريح الحديث اندرياس فيساليوس A.Vesalius نشر في عام 1538 م جداوله التشريحية كدراسة تمهيدية لمؤلفه الرئيس المعروف باسم «الصنعة » الذي كتبه عام 1543 م. وقد ورد في النص اللاتيني لهذه الجداول عدد كبير من المصطلحات العربية والعبرية. وقد قام بعض الباحثين ببحث دقيق عن هذه الجداول التي أظهرت كيف اهتدى فيساليوس إلى معرفة المصطلحات في اللغات السامية التي لم يكن هو نفسه ضليعاً فيها. وهكذا حملت جداول فيساليوس التشريحية التراث العربي إلى مطالع العصور الحديثة».
امتهان
من طريف المفارقات أن يكون هذا هو حال التشريح عند العرب، في الوقت الذي رأت فيه أوروبا أنَّ فن التشريح امتهان للجسم الذي خلقه الله، وأول عملية تشريح في أوروبا أجريت في باريس عام 1478 م أو 1494 م (أي بعد وفاة ابن النفيس بنحو مئتي سنة) وأجريت الأولى في بازل بسويسرا عام 1588م وفي بولونيا 1637م، وهكذا كُتِب للعرب السبق في التشريح، وفي ظل التشريح تقدمت الجراحة على أيديهم.
فضل الحضارة العربية
نخلص من هذا لنقول إننا بحاجة إلى مراجعة كل ما كتبه المستشرقون عن التراث العربي العلمي، حتى يعلم من لا يريد أن يعلم أنَّ الحضارة الإنسانية مدينة للحضارة العربية الإسلامية في المقام الأول، وليس كما يتوهم المستشرقون ومؤرخو العلم من الغربيين أنَّ الحضارة الإنسانية هي وليدة حضارة الإغريق، لسبب بسيط للغاية هو أنَّ الحضارة العربية الإسلامية قد وسعت كل تراث العالم القديم من علوم اليونان والفرس والهنود، ولقّحت كل هذا بالإبداع العلمي العربي، وأصلحته وصحَّحت ما به من أخطاء، ولاسيما التراث اليوناني، مما جعل العلماء العرب يجهدون أنفسهم وعقولهم في سبيل التوفيق بين المتناقضات التي لا تركب في عقل، وقضوا في ذلك قرنين ونصف قرن من الزمن بدليل ما كتبه العلماء العرب في هذا الشأن مثل كتاب الحسن بن الهيثم «الشكوك على بطليموس » وكتاب «الشكوك للرازي على جالينوس »، فأصبحت علوم الدنيا منقحة كلها في تراث العرب العلمي، وهي العلوم التي تلقفتها أوروبا فيما قبل عصر النهضة، في أطول حركة للترجمة فقد استمرت ترجمة التراث العربي من العربية إلى اللاتينية من بدء القرن الثامن الميلادي حتى نهاية القرن الثالث عشر.
ولعلنا لا نجد كلاماً مناسباً في هذا المقام سوى قول الدكتور عمر فروخ: «إن حياة الأمم رهينة بحياة تراثها، وإن الأمة التي لا تراث لها لا تاريخ لها، وإن الأمة التي لا تاريخ لها ليست إلا كتلاً بشرية لا وزن لها في ميزان الأمم». إنَّ العرب اليوم أشد الأمم حاجة إلى الدفاع عن تراثهم، ذلك لأنَّ الهجمات عليه قوية متوالية، ولم نعلم في تاريخ الإنسانية أنَّ ثقافة ما هوجمت بمثل العنف الذي هوجمت به الثقافة العربية؛ ذلك لأنَّ ثقافتنا بخصائصها وميزاتها سياج حقيقي لنا، والرغبات في تمزيق هذا السياج كثيرة ظاهرة للعيان لا حاجة إلى الدلالة عليها، ثم إنَّ الغاية من تمزيق هذا السياج تمزيق الأمة العربية نفسها.
* مصطفى يعقوب عبد النبي جيولوجي كبير باحثين بهيئة المساحة الجيولوجية (سابقاً)
1. تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، ترجمة د. عبد الحليم النجار، ج 4 ص 260 .
2 . البخلاء للجاحظ، تحقيق طه الحاجري، ص 102 .
3 . حضارة الإسلام، جوستاف جرونيباوم، ترجمة عبد العزيز جاويد، ص 430 .
4 . صلة العلم بالمجتمع، ج. كراوذر، ترجمة حسن خطاب، ص 172 .
5 . موجز دائرة المعارف الإسلامية، ج 7 ص 2207 .
6 . قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، ج 13 ص 189 .
7 . العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي، د. توفيق الطويل، ص 47 .
8 . موسوعة تاريخ العلوم العربية، لفيف من المستشرقين، ترجمة لفيف من الباحثين، إشراف د. رشدي راشد، ج 3 ص 1205 .
9 . موسوعة المستشرقين، د. عبد الرحمن بدوي، ص 315 .
10 . تاريخ العلم والإنسية الجديدة، جورج سارتون، ترجمة إسماعيل مظهر، ص 136 .
11 . صلة العلم بالمجتمع، ج.ج. كراوذر، ترجمة حسن خطاب، ص 65 .
12 . تاريخ العلم، جورج سارتون، ترجمة لفيف من الأساتذة، ج 4، ص 137 .
13 . الموسوعة العربية الميسرة، ص 938 .
14 . تاريخ العلم،جورج سارتون، ترجمة لفيف من الأساتذة، ج 4، ص 138 .
15 . تاريخ الجراحة عند العرب، د. عبد العزيز اللبيدي، ص 87 .
16 . الموسوعة العربية الميسرة، مصدر سابق، ص 1747 .
17 . تاريخ الفكر الأندلسي، أنخل بالنثيا، ترجمة د. حسين مؤنس، ص 465 .
18 . تراث الإسلام، إشراف سير توماس أرنولد، ترجمة جرجيس فتح الله، ص 474 .
19 . تاريخ الطب، جان شارل سورنيا، ترجمة د. إبراهيم البجلاتي، ص 93 .
20 . الموسوعة العربية الميسرة، مصدر سابق، ص 50 .
21 . شمس العرب تسطع على الغرب، زجريد هونكه، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، ص 266 .
22 . في تراثنا العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص 216 .
23 . عبقرية العرب في العلم والفلسفة، د. عمر فروخ، ص 130 .
24 . في تراثنا العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص 216 .
25 . عبقرية العرب في العلم والفلسفة، مصدر سابق، ص 22 .
26 . تراث الإسلام، شاخت وبوذورث، ترجمة د. حسين مؤنس وآخرين، ج 2 ص 261 . 24 العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي، مصدر سابق، ص 48 .