الكمامات وفاعليتها بين الأوساط العلمية العالمية
دراسات بحثية عكفت على فحصها وتجربتها على آلاف الأشخاص... بل والحيوانات
تشهد الساحة العلمية العالمية، فضلاً عن الأوساط الشعبية، جدالات واسعة حول فاعلية الكمامات في الوقاية من الأمراض القابلة للانتقال عبر الهواء. حتى إن من طريف نواتج نظرية المؤامرة أن شركات الكمامات هي التي عملت على تطوير فيروس كوفيد- 19 ، لغزو العالم بهذه الأقنعة الواقية، وزيادة مبيعاتها بحيث تكون أكثر أهمية من أي كماليات أو حتى أساسيات ترافق الناس عند خروجهم من منازلهم.
لين بيبلز، الصحفية العلمية المقيمة في مدينة سياتل بواشنطن، طافت حول الأبحاث التي أجريت على فاعلية
الكمامات في الوقاية من الأمراض، من خلال تحقيق نشر في «نيتشر »، سلط الضوء على نتائج مهمة لهذه الأبحاث والدراسات التي لا تعترف إلا بالتجارب المخبرية والعلمية مصدراً لنتائجها.
كريستين بِن باحثة في الصحة بجامعة جنوب الدنمارك، حين اقترح زملاؤها الدنماركيون لأول مرّة توزيع كماماتٍ قماشية واقية على المواطنين في جمهورية غينيا بيساو، لوقف انتشار فيروس كورونا الجديد في هذا البلد الأفريقي، لم تكن متيقِّنةً من جدوى تلك الخطوة، وإزاء اقتراح زملائها هذا، قالت: حسناً، قد يكون ذلك مفيداً، لكنَّ البيانات التي تجزم بفاعلية الكمامات محدودة.
انخفاض نسبة الإصابات في
التجمعات التي التزم المشاركون
بارتدائها يدل على فاعليتها
بعد ذلك توصلت بن وفريقها البحثي إلى طريقةٍ يتسنَّى لهم بها توفير بعض البيانات الضرورية عن الكمامات، ومساعدة الناس في غينيا بيساو كما يأملون. فوزَّع الفريق على المواطنين آلافاً من الكمامات القماشية المصنوعة محليّاً، كجزٍء من تجربةٍ عشوائية مقارِنة، قد تكون الأكبر على مستوى العالم لاختبار فعالية الكمامات في وقف انتشار مرض كوفيد- 19 .
فاعلية الكمامات غير الطبية
في بداية الجائحة، كان خبراء الطب لا يملكون أي أدلَّةٍ قوية توضح طرق انتشار الفيروس، ولم تكن لديهم المعرفة الكافية لتقديم توصياتٍ مقْنِعة بشأن الكمامات ضمن توجيهات الصحة العامة. ومن بين أنواع الكمامات المختلفة، فإنَّ النوع القياسي المُعَد للاستخدام في مَرافق الرعاية الصحية هو قناع التنفُّس N95 ، المُصمَّم لحماية مُرتديه عبر ترشيح 95 % من الجسيمات التي يحملها الهواء، ويبلغ قطرها 0.3 ميكرومتر فأكثر. ومع تفشِّي الجائحة، سُرعان ما تضاءلت الكمية المتاحة من تلك الأقنعة. وأدّى هذا إلى إثارة السؤال الذي يثير حالةً من الجدل في الوقت الحالي، ألا وهو: هل يتعيَّن على العامّة أن يحرصوا على ارتداء الكمامات الجراحية البسيطة أو القماشية؟ وإذا كان ينبغي لهم ذلك، ففي أي ظروفٍ عليهم أن يرتدوها؟ في هذا الصدد تقول كايت جرابوسكي، خبيرة عِلْم وبائيات الأمراض المعدية بكلية طب جامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية: هذه هي الأسئلة نجيب عنها عادةً في التجارب الإكلينيكية، لكنَّنا ببساطة لم نملك الوقت لإجرائها.
من هنا، اعتمد العلماء على الدراسات القائمة على الملاحظة، وتلك التي تُجرَى في المختبرات للإجابة عن هذا السؤال. وتَرِدنا أدلةٌ غير مباشرة على مدى فاعلية الكمامات من الدراسات حول الأمراض المعدية الأخرى. وتقول جرابوسكي عن ذلك: إذا نظرتَ في أيّ دراسةٍ مُفرَدة، فلن تجد ضالتك بسهولة، لكنْ إذا أخذنا الدراسات كافة في الاعتبار، فأنا على يقينٍ من أنَّنا سنكتشف أن الكمامات مفيدة.
تزايدت الثقة بارتداء الكمامات عندما أكدت بعض الأحداث فاعليتها. على سبيل المثال، لم ينتشر المرض في أوساط التجمعات التي التزم المشاركون فيها بارتداء الكمامات، بالمقارنة مع انتشاره في تلك التي أهمل المشاركون فيها ارتداءها.
يقول جيريمي هوارد، الباحث العلمي من جامعة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، الذي شارك في فريقٍ راجَع الأدلة على فاعلية ارتداء الكمامات في مسودٍة أولية، جرى تداولها على نطاقٍ واسع: لا تحتاج إلى التفكير كثيراً لتقول: إنَّ ارتداء هذه الكمامات فكرةٌ جيدة بالطبع. لكنَّ مِثْل هذه الدراسات يعتمد بالفعل على افتراضاتٍ بأنَّ تعليمات ارتداء الكمامات تُنفَّذ في الواقع، وأنَّ الناس يرتدونها كما ينبغي. كما أنَّ فَرْض استخدام الكمامات يتزامن غالباً مع تغييراتٍ أخرى، مثل فرض القيود على التجمُّعات.
أوشحة الرقبة الرقيقة القابلة
للتمدد تُقلِّل حجم القطيرات
التي تَعْبُر وهي أفضل من
عدم ارتداء أيّ شيء
اختبارات على الحيوانات
وفي حين يتعذَّر على العلماء أن يأخذوا في اعتبارهم عديداً من المتغيرات المُربِكة في المجموعات السكانية البشرية أثناء دراسة تلك التأثيرات، فإنَّ ذلك يصبح ممكناً في الدراسات التي تُجرَى على الحيوانات. ففي تجربةٍ أجراها باحثون بقيادة كووك يونج يون، عالِم البيولوجيا الدقيقة بجامعة هونج كونج، وضع العلماء حيوانات هامستر مصابة بالعدوى، وأخرى غير مصابة في أقفاصٍ متجاورة، وفصلوا بين بعضها بعضاً بحواجز من الكمامات الجراحية. وحسب ورقة الدراسة التي نُشرت في مايو الماضي، ففي غياب هذه الحواجز انتقل فيروس «سارس-كوف » إلى حوالي ثلثي الحيوانات التي لم تكن مصابةً بالمرض، مقارنةً بنسبةٍ بلغت فقط نحو 25 % بين الحيوانات المحمية بمادة الكمامات، وكانت الإصابات في الحيوانات المحمية أقل حدةً منها بين الحيوانات التي لم تفصل بينها الكمامات.
وتوفر تلك النتائج مبرِّراً للإجماع الذي بدأ يظهر مؤخراً حول فاعلية الكمامات في حماية مُرتديها وغيرهم من الناس أيضاً. وتشير هذه الدراسة كذلك إلى فكرٍة أخرى قد تقلب الموازين، وهي أنَّ «ارتداء الكمامات ربما لا يحميك من العدوى فقط، بل أيضاً من الإصابة بمرضٍ حاد »، حسبما تقول مونيكا غاندي، طبيبة الأمراض المعدية بجامعة كاليفورنيا، التي تعكف هي وزملاؤها على تحليل مُعدّلات إيداع مرضى كوفيد- 19 في المستشفيات قبل فَرْض ارتداء الكمامات في ألف مقاطعةٍ أمريكية، وبعده أيضاً، لمعرفة ما إذا كانت حدّة
المرض قد تراجعت بعد ورود توجيهات بارتداء الكمامات في الأماكن العامة، أم لا.
أثبتت التجارب زيادة انتقال
الفيروس بين الحيوانات التي
نزعت منها الحواجز بنسبة
الثلثين
وحول ذلك، يقول بول ديجارد، عالِم الفيروسات بجامعة إدنبرة في المملكة المتحدة: إنَّ فكرة تزايُد حدة العدوى بسبب التعرض لكميةٍ أكبر من الفيروس منطقية تماماً، وهي حُجَّةٌ أخرى تدعم ضرورة استخدام الكمامات. وتشير غاندي إلى فائدٍة أخرى مُحتمَلة للكمامات؛ وهي أنَّه في حال إصابة عددٍ أكبر من الناس بحالات العدوى الطفيفة، قد يساعد ذلك على تعزيز المناعة على مستوى السكان، دون زيادة العبء الناتج عن حالات العدوى الحادة والوفيات.
كيفية انتقال العدوى
يرتبط الجدل حول جدوى الكمامات ارتباطاً وثيقاً بسؤالٍ آخر مُثير للجدل، وهو: كيف ينتقل الفيروس عبر الجو وينشر العدوى؟ عندما يتنفَّس الإنسان، أو يتكلم، أو يعطس، أو يسعُل، ينطلق منه رذاذٌ دقيق من الجسيمات السائلة، بعضها كبير الحجم، وربما يمكننا حتى رؤيته، ويُشار إليه باسم القُطَيْرات، وبعضها الآخر مجهري، ويُصنَّف كَهَبَاءٍ جوِّي. وتنتقل الفيروسات على متن تلك الجسيمات، التي يتحدد سلوكها حسب حجمها. فبإمكان القُطيرات الانطلاق سريعاً عبر الهواء، لتسقط على عين شخصٍ قريب، أو على أنفه، أو فمه، لتُصيبه بالعدوى، لكنَّ الجاذبية سرعان ما تسحب ذلك النوع من الجسيمات إلى أسفل. وعلى النقيض، فإنَّ جسيمات الهباء الجوِّي يمكنها أن تَعْلَق في الهواء لفتراتٍ تتراوح بين دقائق وساعات، وتنتشر في أنحاء الغرف عديمة التهوية على غرار دخَّان السجائر.
فما الذي يعنيه ذلك فيما يخص قدرة الكمامات على الحيلولة دون انتشار عدوى كوفيد- 19 ؟ إنَّ قُطْر الفيروس نفسه لا يتجاوز 0.1 ميكرومتر، لكنْ نظراً إلى أنَّ الفيروسات لا تُغادِر جسم الإنسان بمفردها، لا يلزم للكمامات أن تحجب الجسيمات الصغيرة إلى هذا الحدّ كي تتسم بالفاعلية. والأهم هو أنْ تحجب نواقل الممْرضات، كالقُطيرات، أو جسيمات الهباء الجوّي، التي تتراوح أقطارها بين 0.2 ميكرومتر، ومئات الميكرومترات. (لتقريب الصورة، يبلغ متوسِّط قُطر الشعرة الواحدة من شعر الإنسان نحو 80 ميكرومتراً). وأغلب هذه القطيرات والجسيمات يتراوح قطره بين ميكرومتر واحد، و 10 ميكرومترات، وبإمكانه البقاء في الهواء لفترٍة طويلة، حسبما أوضح خوسيه لويس هيمينيز، خبير الكيمياء البيئية من جامعة كولورادو بولدر، الذي أضاف: وهُنا تنتقل العدوى.
كما يعتقد كثيرون أنَّ انتقال العدوى من الحالات عديمة الأعراض هو السبب في قدر كبير من إصابات جائحة كوفيد- 19 . ولو صح هذا فقد يعني أنَّ الفيروسات لا تنتقل عادةً مع الجسيمات التي يفرزها السعال أو العطس. وفي تلك الحالة، ربما تكون جسيمات الهباء الجوِّي أهم سُبل انتقال العدوى. ومن ثم، من المهم أن نبحث ما أنواع الكمامات التي يمكنها حجْب تلك الجسيمات.
نسيج الكمامات
إنّ أقنعة التنفُّس التي تتوفر بمقاسات مناسبة تخفق أيضاً بدرجة طفيفة خلال الاستخدام الفعلي في تحقيق نسبة ترشيح الجسيمات المذكورة في تصنيفها، البالغة 95 %، إذ تحجب في واقع الأمر نحو 90 % فقط من جسيمات الهباء الجوِّي الواردة، باستثناء تلك التي يقل قطرها عن 0.3 ميكرومتر. وحسب دراسةٍ غير منشورة، فإنَّ أقنعة N95 التي لا تحتوي على صِماماتٍ لترشيح الزفير، أي تلك التي تطرد هواء الزفير دون ترشيحه، تَحجِب نسبةً مشابهة من جسيمات الهباء الجوي الخارجة مع الزفير. كما أنّ المعلومات المتوفرة عن الكمامات الجراحية والقماشية في هذا الصدد أقل بكثير، حسبما أوضح كيفن فينيلي، اختصاصي أمراض الرئة لدى المعهد الوطني الأمريكي لأمراض القلب والرئة والدم.
وخلال مُراجعةٍ لعدة دراسات رصدية، قدَّر فريقٌ بحثي دولي أنّ نسبة فاعلية الكمامات الجراحية والكمامات القماشية المكافِئة لها في حماية مَن يرتدونها تَبلغ 67 %. وفي دراسةٍ غير منشورة، وجدت الباحثة لينزي مار، المتخصصة في الهندسة البيئية من معهد فرجينيا للعلوم التكنولوجية والتطبيقية في مدينة بلاكسبِرج الأمريكية، وزملاؤها أنَّه حتى القمصان القطنية بإمكانها حجْب نصف جسيمات الهباء الجوِّي المستنشقة، وقرابة %80 من جسيمات الهباء الجوي الخارجة مع الزفير، التي يبلغ قطرها ميكرومترين. أما جسيمات الهباء الجوّي، التي يبلغ قطرها من 4 إلى 5 ميكرومترات، فتقول مار: إنَه يمكن لأي نوعٍ من النسيج تقريباً أن يحجب أكثر من 80 % منها، سواء في الشهيق، أَم الزفير.
وتضيف أنّ استخدام عدة طبقاتٍ من الأنسجة يوفر فاعليةً أكبر، وكلما كان النسيج مغزولاً على نحوٍ أكثر إحكاماً، كان أفضل في فاعليته. وتوصَّلت دراسةٌ أخرى 10 إلى أنَّ الكمامات التي تحتوي على طبقاتٍ من خاماتٍ مختلفة، مثل القطن والحرير، يمكنها حجْب جسيمات الهباء الجوِّي بفاعليةٍ أكبر، مقارنةً بتلك المصنوعة من خامةٍ واحدة.
فارق طفيف
وبالعودة إلى كريستين بِن، فقد تعاونت مع مهندسين دنماركيين في جامعتها، لاختبار تصميم كماماتهم القماشية ثنائية الطبقات حسب المعايير نفسها التي تُقيَّم بها أقنعة التنفس المُصمَّمة للاستخدامات الطبّية. ووفقاً لما ذكرته بِن، تبيَّن لهم أنَّ كماماتهم لم تحجب
لو ثبت انتقال العدوى من
الحالات عديمة الأعراض فهذا
يعني إمكانية الإصابة من غير
سعال أو عطاس
سوى نسبةٍ تراوحت بين 11 و 19 % من جسيمات الهباء الجوِّي التي يزيد قطرها على 0.3 ميكرومتر، بيد أنه بالنظر إلى أنَّ العدوى تنتقل على الأرجح من خلال الجسيمات التي لا يقل قطرها عن ميكرومتر واحد، حسبما أوضح كلٌّ من مار وهيمينيز، فإنَّ هذا قد يجعل الفارق الحقيقي في الفاعلية بين أقنعة N95 ، وأنواع الكمامات الأخرى طفيفاً.
فحص الليزر
كما نُشِرَت دراسةٌ أخرى شارك فيها إريك ويستمان، الباحث الإكلينيكي بكلية طب جامعة ديوك الأمريكية، وتستعرض هذه الدراسة طريقةً لاختبار فاعلية الكمامات، وقد استخدم فيها فريق ويستمان أشعة الليزر، وكاميرات الهواتف الذكية، لمقارنة مدى فاعلية 14 نوعاً مختلفاً من الكمامات القماشية والجراحية في حجْب القُطيرات أثناء تحَدُّث مرتديها. وقال ويستمان عن فاعلية أداء الكمامات القماشية والجراحية: لقد طمأنتني تلك التجربة إلى أنَّ كمامات كثيرة من تلك التي نستخدمها تؤدِّي الغرض منها بالفعل، لكنْ بدا من التجربة أنَّ أوشحة الرقبة الرقيقة القابلة للتمدد، المصنوعة من البوليستر والألياف اللدنة (السبانديكس)، التي يمكن لمُرتديها سَحْبها إلى أعلى لتغطية فمه وأنفه، تُقلِّل، في الواقع، حجم القطيرات التي تَعْبُر أنسجتها. وحول ذلك يقول ويستمان: قد يكون ذلك أفضل من عدم ارتداء أيّ شيءٍ على الإطلاق.