عصر الابتكارات الخلاقة
قُدِّمَت أخيراً على ناشيونال جيوغرافيك حلقات «أصول: رحلة البشرية » وهي أشبه باللحظات التي نعيشها الآن في ظل الثورة الصناعية الرابعة؛ حيث نبحث في أصل نشأة اللغات، وأصل نشأة الطب وأصل نشأة النقل، والآن بالطبع سنرى نشأة تقنيات تحويلية ستغير من مفهوم كوننا بشراً. وما يجول في خاطري الآن عبارة تقول: «هنالك عقود لا تشهد حدوث أي شيء، وهنالك أسابيع تشهد أحداثاً تحتاج إلى عقود».
هذا الاقتباس أفضل وصف لما يحدث بشأن التقنيات السريعة، وما يقال بشأن أن الثورة الصناعية تتجاوز حدود طاقتنا، والثورة الرقمية تتجاوز حدود عقولنا. يقول الفيلسوف مارشال ماكلوهان: إن الفنان هو من يرى المستقبل حاضراً ويستخدم عمله لتمهيد الطريق لحدوثه.
الفيلسوفان الإدراكيان دافيد جون كالمرز وآندي كلارك أشارا في نظريتهما إلى «العقل الممتد »، حيث إن التقنية تمثل حوامل لعقولنا، نستخدمها لبسط أفكارنا ومساعينا ورؤيتنا. والأمر دائماً يسير على هذا النحو؛ فإذا ذهبت إلى الوراء لآلاف السنين في غابات السافانا في إفريقيا عندما كان الإنسان البدائي الأول يستخدم العصا للوصول إلى الفواكه على الأشجار العالية؛ فالأمر أشبه باستخدام الأداة أو الوسيلة للوصول إلى مساعينا وإعادة تعيين حدودنا وتجاوُزها. لم نظل في الكهوف، ولم تقتصر أنشطتنا على الكوكب، وقريباً سنتخطى حدود العلوم الحيوية. فالتكنولوجيا تغير دائماً ما نحن عليه.
ويقول الفيلسوف مارشال ماكلوهان: «ونحن نبني الأدوات ولكن هل تصدق أن هذه الأدوات تبنينا أيضاً! .» مرة أخرى كل ما نصممه في هذا العالم يُصمِّمنا، الأمر أشبه بعملية مستمرة، ما يسمى بحلقات التعقيبات المضخمة ذاتياً )والمحسنة ذاتياً(، فنحن نبني الأدوات وهذه الأدوات تغيِّر ما هو متاح بالنسبة إلينا؛ فباستخدام هذه الأدوات لا نحتاج إلى أن ننشئ أدوات أخرى، وهذا الأمر أشبه بقطار على القضبان، إلى أي مدى سيصل وما سرعته؟
نحن الآن نعيش في عالم الابتكارات الخلاقة الجذرية، هذا هو اسم اللعبة الآن، وهذا هو العالم الذي نحبه، ومع أن الناس يحبون دائماً الجديد، إلا أن الأمر لا يخلو دائماً من الخوف من التغيير؛ لأن التغيير مخيف ويغيِّر من الحالة الراهنة، ومع أن التكنولوجيا من الابتكارات الخلاقة وتُحدِث التغيير، إلا أن الحال الآن تغير كثيراً فنحن نعيش في عالم التغيير الُسِّيِّ السريع؛ فالابتكارات الخلاقة الجذرية والتحولات التكنولوجية تجعل الأمر أشبه بزلازل تحت أقدامنا.
هنالك مستشرف للمستقبل ومهندس يعمل في غوغل اسمه راي كورزوايل، عندما قرأت كتابه عن التفرّدية التقنية بعنوان " The Singularity is Near "، تغيَّر عالمي بالفعل؛ لأنه كان أول من أوضح لي لماذا تتم التغييرات التقنية التي يشهدها العالم بهذه السرعة.
بالطبع سمعتم عن قانون مور الذي كان يُستخدم في وادي السيليكون، ويتعلق بأن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج يتضاعف تقريباً كل عامين، بينما يظل سعر الشريحة على حاله. وقد طوّر راي كورزوايل من هذه الفكرة "قانون العائدات المتسارعة" الذي أسهم في نجاحه بالتنبؤ بسرعة التطورات التقنية التي نشاهدها الآن. لقد استخدمت هذا المثال في 2016 ، ولكنني أود أن أوضح الفرق بين التغيير الخطي والتغيير الأسّي، حتى لا يكون هذا الزخم التكنولوجي مفاجئاً، لنكون جميعاً مستعدِّين للارتقاء بهذه الابتكارات الخلاقة لجعل العالم أفضل. هنا يكمن الفارق؛ فعقولنا البشرية تطوَّرت في عالم خطي ومحلي، وعندما نفكر في التغيير سنرى أنه فطري يتعلق بما نتمناه وخطي؛ فمنذ مئات السنين حين كان الأسد يهاجمنا ليفترسنا؛ اضطررنا للحساب الخطي لسرعة وصول الأسد إلينا، هذا غريزي، فالحساب الخطي والتغيير الخطي موجود على مدار الوقت.
هذا هو ما نعتقده، ولكن التغيير التقني ليس خطياً. ونعلم أننا في العالم نستخدم تعبير التغيير الُسِّيِّ، ومع أننا نواصل استخدامه، إلا إننا يجب أن ندرك الفارق. مثال راي كورزوايل يشير إلى أنك عند اتخاذ 30 خطوة خطية، تصل إلى الخطوة 30 ، فالأمر بسيط.. 30 خطوة خطية يعني ببساطة 30 خطوة، أما 30 خطوة أُسِّيَّة فتعني ملايين الخطوات؛ ولهذا السبب الهواتف الذكية صغيرة وأرخص بملايين المرات، وأكثر كفاءة بآلاف المرات. كنا نستخدم حاسوباً عملاقاً بحجم مبنى بقيمة ستين مليون دولار أميركي منذ أربعين عاماً حلَّ محله جهاز صغير تضعه في جيبك، وأكثر كفاءة بآلاف المرات.
«علينا أن نهيئ الأجواء ونحضر أنفسنا لمواكبة
التغيير الأُسِّي، وتعرفون ما المطلوب منا أيضاً؟ أن
نطوِّر من أنفسنا جذرياً، فإذا لم نغير من أنفسنا،
فسيأتينا التغيير من الخارج .
هذا هو التقدم السريع، هذا هو التغير الُسِّيُّ، وإنها لفرصة فريدة لتغيير العالم؛ لأنك تحتاج من أجل حل المشكلات إلى التحول من التغيير الخطي إلى الأسي. وأنا أرى أن دبي تُعد مثالاً على التغيير الُسِّيِّ. عندما نفكر في السرعة التي نهض بها هذا المكان بالنظر إلى العالم؛ أظن أن بقية العالم يجب أن يتعلم مما رأيته هنا من مظاهر للتغيير الُسِّيِّ. وأظن أن هذا الأمر يعتمد على وجود حاسوب عملاق في جيبك؛ فهذا الحاسوب العملاق سيتم إعادة تصميمه في غضون الخمسة والعشرين عاماً المقبلة إلى أجهزة بحجم الخلايا النبضية، ومن المحتمل أن تنتج الهندسة العكسية أجهزة تُركَّب في أعضاء الجسم الداخلية والمخ في شكل شرائح نانوية، تُضبط في شكل حزم برامجية قابلة للتحميل تعالجنا من الداخل، ولا شك في أن ذلك سيغير اللعبة؛ لأن اتجاهات التغيير الُسِّيِّ ستبقى مستمرة، وهذا ما يجعل الأمر أكثر إثارة.
إذن، ماذا يجب علينا أن نفعل الآن؟ علينا أن نهيئ الأجواء ونحضر أنفسنا لمواكبة هذا التغيير، وتعرفون ما المطلوب منا أيضاً، أن نطوِّر من أنفسنا جذرياً، فإذا لم نغير من أنفسنا، فسيأتينا التغيير من الخارج. والحقيقة أن هنالك ثلاث ثورات متداخلة ينبغي الانتباه إليها، هي: علم الوارثة، وتقنية النانو، والروبوتات والذكاء الاصطناعي.
نبذة عن جيسون سيلفا
كان جيسون سيلفا خبير علوم المستقبل (مواليد 1982) سفير المعرفة في 2017 ، وهو لقب منحته له مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة في دبي؛ وهو مقدم برامج على قناة ناشيونال جيوغرافيك، يقدّم سلسلة ألعاب العقل، البرنامج التلفزيوني الذي يتحدث حول الكيفية التي تعمل بها عقولنا، حيث تتعاطى العلوم العصبية مع كيفية إدراك الواقع، وكذلك عدم فهم الواقع، وهذا ما يهتم به، وخاصة عن كيفية سوء فهم الاتجاهات التقنية، وسوء فهم السرعة التي تغيِّر بها التكنولوجيا عالَمَنا.