الفصحى في وسائل التواصل تستعيد حيويتها

  • محمد سعيد القصيباتي

أكاديميون وإعلاميون يرون أن الثقافة اللغوية وأساليب التعليم من أهم التحديات

تشرق الشمس في كل يوم على مليارات البشر الذين يتحدثون ويتفاهمون فيما بينهم بآلاف اللغات واللهجات التي تميز قوم عن الآخر. إلا أن القليل من هذه اللغات استأثر على السواد الأعظم من الناس، وأضحت وسيلة التفاهم بين أكثرهم، لعدد من الأسباب قد تكون السيطرة الاقتصادية والعلمية هي الطاغية على تلك الأسباب.

فنجد أن اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، أصبحت لغة المال والأعمال والتخاطب والبرمجة، والتي قد لا يخلو منهج دراسي في العالم عن تدريسها والاهتمام بها. من هنا كان انتشار اللغات منوطاً بعوامل مؤثرة. إلا أن اللغة العربية تميزت عن سائر اللغات العالمية بأنها لغة لا تندثر مهما مر عليها من عوامل ضغط أو تراجع على مستوى المتحدثين بها. وهي لغة عالمية ارتبطت بالقرآن الكريم. فهي من أشهر لغات العالم، وأكثرها انتشاراً، ولها أهمية خاصة عند المسلمين بالذات، كما أنّها أثَّرت في العديد من اللغات الأخرى على مر العصور.

وإننا إذ نتحدث عن اللغة العربية، التي كانت لغة العلوم لقرون مضت، وتأسست عليها النهضة الحضارية والعلمية الحديثة باعتراف القاصي والداني، فإننا نعني اللغة العربية الفصحى، التي حفظت من الاندثار بفضل التراث الإسلامي الزاخر، بدءاً من القرآن الكريم، ومروراً بالميراث العلمي الذي خطه العرب على مدى قرون مضت، وهو الآن كنز زاخر تكتنز به المكتبة العربية ويرجع إليه الباحثون والأكاديميون، وهو ما جعل اللغة العربية الفصحى لغة عالمية بامتياز، تستخدم على نطاق واسع في الجامعات ووسائل الإعلام والمنصات والمؤتمرات والخطابات الرسمية. إلا أن سيطرتها على منصات التواصل الاجتماعي تضاءلت في زحمة اللهجات المحلية الخاصة بكل بلد أو إقليم. وهو ما دفعنا إلى طرح استطلاع رأي حول استخدام العربية الفصحى في التخاطب على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع انتشارها على المنتديات وفي الكتابات التي يراد بها تدوين الآراء، إلا أنها تكاد تصبح مندثرة في التخاطب عبر الكتابة العابرة في وسائل المراسلات الشخصية، بعد أن طغت تلك المراسلات على حياتنا اليومية واستغنينا بها عن الخطاب الصوتي، وذلك في زحمة الانشغال بالأعمال وزيادة تكاليف المكالمات الصوتية.

سيطرة العامية على لغة
التخاطب أورثت اعتقاداً بأن
المتحدث بالفصحى لا يواكب
الحداثة

آراء الجماهير

وقد جاء السؤال على حسابات التواصل الاجتماعي لمبادرة «بالعربي » لمعرفة مدى استعمال عموم الناس للغة العربية الفصحى على وسائل التواصل الاجتماعي بالشكل التالي: «هل تستخدمون اللغة العربية الفصحى في محادثاتكم على وسائل التواصل الاجتماعي »؟ وكانت النتائج مبشرة بأمل جديد في استعادة تواصل العرب على مواقع التواصل كتويتر بالعربية الفصحى. خاصة في كتاباتهم لآرائهم وتعليقاتهم. ولعل بروز عدد من القنوات الفضائية الرائدة في ذلك، وبعض الإعلاميين المحترفين للتواصل بالفصحى والجاذبين للجماهير أغرى كثيراً من الشباب بذلك.

فقد جاءت الإجابات على «إنستغرام » متساوية، إذ قال 50 % من المستطلعة آراؤهم إنهم لا يستخدمون الفصحى في وسائل التواصل (مطلقاً)، أما الآخرون فقالوا إنهم يكتبون بالفصحى (دائماً). أما في حساب المبادرة على «تويتر » فكانت الآراء أكثر تنوعاً؛ إذ عبر %19 من المشاركين في الاستطلاع أنهم يستخدمون اللغة العربية الفصحى (دائماً)، وقال 39 % منهم إنهم (غالباً) ما يستخدمونها، أما 30 % فعبروا عن كتابتهم بالفصحى (نادراً) في تواصلهم، بينما أفاد 12 % أنهم لا يستخدمون اللغة العربية الفصحى في التواصل على حسابات التواصل الاجتماعي (مطلقاً).

دور المناهج

وفي سبيل استخلاص الفائدة من تجارب أصحاب الرأي والإعلام والأكاديميين وآرائهم في هذا الشأن، وجهنا أسئلتنا إلى الإعلامي محمد أبو عبيد، الذي أوضح أن اللهجات العامية نكلت بالفصحى، واقترفت مجازر بحقها، ما أثر في مدى معرفة الجيل الجديد بلغته وفهمها. وفيما يتعلق بهجران الشباب والناس عامة التخاطب بالفصحى، أوضح أبو عبيد أن أساليب تعليم اللغة أسهمت في نفور كثير عن لغتهم، والطريقة التي يظهر بها من يعلمون اللغة كانت سبباً أيضاً في ابتعاد الكثير عن فهم اللغة وقواعدها. مبيناً أنه من المحال عودة الفصحى على ألسن العامة للحديث بها لعوامل كثيرة؛ فالأب في البيت مثلاً لا يخاطب أسرته إلا باللهجة العامية، والبرامج الترفيهية لن تكون بالفصحى.

نظرة خاطئة

وأكد الإعلامي في قناة العربية أن هذه السيطرة العامية على لغة التخاطب بين الناس أورثت اعتقاداً بأن المتحدث بالفصحى هو شخص لا يواكب الحداثة، أو أنه متحذلق. مبيناً أنه ليس من السهل محو هذه النظرة، لكن على الأقل يمكن تقزيمها من خلال التشجيع على استعمال الفصحى بطرائق مستحدثة ومستعذبة.

وفي الوقت نفسه، طالب أبو عبيد باستعمال اللغة العربية الصحيحة في السياقات التي تتطلب ذلك؛ كالإعلام، والبيانات الرسمية وغير الرسمية، واللافتات، والتعليمات والإرشادات، والإعلانات. مؤكداً أنه لا يمكن الاعتماد في نشر العربية الفصحى على مشاهير التواصل الاجتماعي، الذين لا يجيدون، بحسب أبو عبيد، حتى عاميتهم، فكيف سنعتمد عليهم في دعم الفصحى، لذلك فإنه لا بدد من دعم وتكريم من يستعملون ويجيدون الفصحى من الجهات الرسمية والمؤسسات غير الرسمية.

هوية عربية

الدكتور فكري عبد المنعم النجار، الأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية بجامعة الشارقة، رأى أن اللغة العربية هي لغة الهوية للأسرة العربية الكبرى، وبناء على ذلك فإن انتشار العامية على وسائل التواصل الاجتماعي خطير جداً، ومن شأنه أن يؤدي إلى استخفاف الناس بلغتهم الأم. لذلك فالعربي الذي يفضل العامية على الفصحى يخدم فكرة أعداء العربية الذين يريدون أن يقضوا على هويتنا من خلال القضاء على الفصحى.

وعن رأيه في سبب هجر الفصحى، أوضح الدكتور فكري النجار أن ضعف الثقافة اللغوية، عامل أساسي في ذلك، كما أن الاقتداء ببعض الإعلاميين الذين يفضلون العامية ولا يتقنون الفصحى أثر كذلك في هجر التخاطب والمراسلة باللغة الأم، هذا فضلاً عن انتشار الأعمال الفنية التي تنتَج بالعامية، وغياب الأعمال التي تسلك نهج التخاطب بالفصحى واقتصارها على الأعمال التاريخية.

دور لغة الإعلام

وعن السبُل المقترحة لتمكين الفصحى بين الأجيال، يرى الدكتور النجار أن توجيه لغة الإعلام إلى الفصحى عنصر في غاية الأهمية لتعزيزها بين فئات المجتمع. ومما يقدَّر أن هناك وسائل إعلامية التزم مذيعوها بالتحدث بالفصحى إلا إذا كانت طبيعة البرنامج تستوجب اللهجات المحلية كالبرامج التراثية. كما أنه يتوجب على معلمي اللغة العربية خاصة وغيرها بشكل عام أن يلتزموا بالفصحى في التحدث مع الطلبة في المدارس، وتشجيعهم على ذلك بأسلوب محبَّب ومبتكر. كما أن الأسرة تتحمل مسؤولية مهمة في ذلك، من خلال تشجيع الأبناء على التخاطب بالفصحى، واختيار أعمال أدبية لهم تعينهم على تعلم الأساليب العربية الجاذبة، بحيث تتناسب مع أعمارهم، وتحتوي عناصر الجذب التي تساعد على تحبيب الأجيال بلغتهم.

لا بد من إعادة النظر في
أساليب تدريس العربية
لتحبيب الأجيال في لغتهم

استعداد نفسي

ويرى الدكتور فكري النجار أن تشجيع الطلبة على حفظ النصوص العربية، ولا سيما القرآن الكريم، إضافة إلى النصوص الأدبية التي تكتنز بالمعاني الراقية، يقوي الملكة اللغوية، ويسهم في دعم تذوق جماليات لغتنا الخالدة. وفي هذا الصدد، أوضح أن الناس بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى رحاب الفصحى، ولكن يجب أن تكون لغة سهلة يفهمها كل الناس. كما أشار إلى أن لكل مقام مقالاً، وهذا من شأنه ألّ يولِّد النظرة السلبية تجاه اللغة العربية في نظر الأجيال.

بالعربي

نجحت مبادرة بالعربي، التي تبنتها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، في وصل العرب بلغتهم الفصحى، وصبغت حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي بالفوائد اللغوية والأدبية العربية التي تسعى من خلالها إلى إعادة العربية الفصحى إلى تألقها، وإظهار اللآلئ والجماليات التي غابت على الكثير من الناطقين بالعربية في زحمة اللهجات واللغات الأخرى.