جيسون سيلفا: على العالم أن يتعلم من دبي مظاهر التغيير الأُسِّيّ

  • محمد سعيد القصيباتي

الابتكارات الجذرية تجعل الأمر أشبه بالزلزال وتقلب الطاولة على الخطوات التقليدية

مما يكتب لقمة المعرفة التي تنظمها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، تلك الكنوز المعرفية، والتجارب الخلاقة التي تجمع من خلالها عقول العالم على أرض دبي، لتداول شؤون العلم والمعرفة، والاطلاع على حصيلة مهمة من تلك الأفكار التي قد لا تتاح إلا في مثل تلك اللقاءات.

وقد كان جيسون سيلفا، تلك الشخصية التي حظيت بشعبية كبيرة، ولا سيما في أوساط الشباب، من خلال ما قدمه من أفكار وتجارب عملية عن «ألعاب العقل »، واحداً من أولئك المبدعين الذين ربطت القمة فيما بينهم وبين جمهورهم الشغوف بالمعرفة من العالم العربي والشرق الأوسط. والذي يرى أن مدينة دبي تُعد مثالً على التغيير الأُسِّيِّ. عندما نفكر في السرعة التي نهض بها هذا المكان بالنظر إلى العالم؛ أظن أن بقية العالم يجب أن يتعلم مما رأيته هنا من مظاهر للتغيير الأُسِّيِّ.

عالم متسارع

يبدأ جيسون بالحديث فيقول: ما يجول في خاطري الآن عبارة تقول: «هنالك عقود لا تشهد حدوث أي شيء، وهنالك أسابيع تشهد أحداثاً تحتاج إلى عقود. هذا الاقتباس أفضل ما يصف ما يحدث بشأن التقنيات السريعة، وما يقال بشأن أن الثورة الصناعية تتجاوز حدود طاقتنا، والثورة الرقمية تتجاوز حدود عقولنا. يقول الفيلسوف مارشال ماكلوهان: إن الفنان هو من يرى المستقبل حاضراً ويستخدم عمله لتمهيد الطريق لحدوثه. الفيلسوفان الإدراكيان دافيد جون كالمرز وآندي كلارك أشارا إلى «العقل الممتد » في نظريتهما أن التقنية تمثل حوامل لعقولنا، نستخدمها لبسط أفكارنا ومساعينا ورؤيتنا. والأمر دائماً يسير على هذا النحو؛ فإذا ذهبت إلى الوراء لآلاف السنين في غابات السافانا في إفريقيا عندما كان الإنسان البدائي الأول يستخدم العصا للوصول إلى الفواكه على الأشجار العالية؛ فالأمر أشبه باستخدام الأداة أو الوسيلة للوصول إلى مساعينا وإعادة تعيين حدودنا وتجاوُزها، لم نظل في الكهوف، ولم تقتصر أنشطتنا على الكوكب، وقريباً سنتخطى حدود العلوم الحيوية؛ فالتكنولوجيا تغير دائماً ما نحن عليه. يقول الفيلسوف مارشال ماكلوهان: «نحن نبني الأدوات ولكن هل تصدق أن هذه الأدوات تبنينا أيضاً».

إضاءة

قدم جيسون سلسلة ألعاب العقل على قناة ناشونال جيوغرافيك، وهو برنامج تلفزيوني يتحدث عن الكيفية التي تعمل بها عقولنا، حيث تتعاطى العلوم العصبية مع كيفية إدراك الواقع، وكذا عدم فهم الواقع، وخاصة كيف نسيء فهم الاتجاهات التقنية، وكيف نسيء فهم السرعة التي تغيِّر بها التكنولوجيا عالَمَنا. كما قدم أيضاً حلقات تتحدث عن رحلة البشرية، ونركز على لحظات تحوُّل مستقبل البشرية، اللحظات التي غيَّرت اللعبة، كالتي نعيشها الآن في ظل الثورة الصناعية الرابعة؛ حيث نبحث في أصل نشأة اللغات، وأصل نشأة الطب وأصل نشأة النقل.

الابتكارات الخلّاقة

مرة أخرى، كل ما نصممه في هذا العالم يُصمِّمنا، الأمر أشبه بعملية مستمرة، ما يسمى بحلقات التعقيبات المضخمة ذاتياً (والمحسنة ذاتياً)، فنحن نبني الأدوات وهذه الأدوات تغيِّر ما هو متاح بالنسبة إلينا؛ فباستخدام هذه الأدوات لا نحتاج إلى أن ننشئ أدوات أخرى، وهذا الأمر أشبه بقطار على القضبان، إلى أي مدى سيصل وما سرعته؟ نحن الآن نعيش في عالم الابتكارات الخلّقة الجذرية، هذا هو اسم اللعبة الآن، وهذا هو العالم الذي نحبه، ومع أن الناس يحبون دائماً الجديد، إلا أن الأمر لا يخلو دائماً من الخوف من التغيير؛ لأن التغيير مخيف ويغيِّر من الحالة الراهنة. ومع أن التكنولوجيا من الابتكارات الخلاقة وتُحدِث التغيير، إلا أن الحال الآن تغير كثيراً؛ فنحن نعيش في عالم التغيير الأُسِّيِّ السريع؛ فالابتكارات الخلاقة الجذرية والتحولات التكنولوجية تجعل الأمر أشبه بزلازل تحت أقدامنا.

الثورة الصناعية تتجاوز حدود
طاقتنا، والثورة الرقمية تتجاوز
حدود عقولنا

التفرّدية التقنية

هنالك مستشرف للمستقبل ومهندس يعمل في غوغل اسمه راي كورزوايل، عندما قرأت كتابه عن التفرّدية التقنية، The Singularity Is Near تبيَّن لي أنه تغيُّر عالمي بالفعل؛ لأنه كان أول من أوضح لي لماذا تتم التغييرات التقنية التي يشهدها العالم بهذه السرعة. بالطبع سمعتم عن قانون مور الذي كان يُستخدم في وادي السيليكون، ويتعلق بأن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج يتضاعف تقريباً كل عامين بينما يظل سعر الشريحة على حاله. وقد طور راي كورزوايل من هذه الفكرة قانون العائدات المتسارعة الذي أسهم في نجاحه بالتنبؤ بسرعة التطورات التقنية التي نشاهدها الآن. لقد استخدمت هذا المثال في العام الفائت، ولكنني أود أن أوضح الفرق بين التغيير الخطي والتغيير الأسّي، حتى لا يكون هذا الزخم التكنولوجي مفاجئاً، لنكون جميعاً مستعدِّين للارتقاء بهذه الابتكارات الخلاقة لجعل العالم أفضل.

التغيير الأُسِّيِّ

هنا يكمن الفارق؛ فعقولنا البشرية تطوَّرت في عالم خطي ومحلي، وعندما نفكر في التغيير سنرى أنه فطري يتعلق بما نتمناه وخطي؛ فمنذ مئات السنين حين كان الأسد يهاجمنا ليفترسنا؛ اضطررنا للحساب الخطي لسرعة وصول الأسد إلينا، هذا غريزي، الحساب الخطي والتغيير الخطي على مدار الوقت. هذا هو ما نعتقده، ولكن التغيير التقني ليس خطياً. ونعلم أننا

سيتم إعادة تصميم الحاسوب
في 25 عام المقبلة إلى
أجهزة بحجم الخلايا النبضية

في العالم نستخدم تعبير التغيير الأُسِّيِّ، ومع أننا نواصل استخدامه، إلا أننا يجب أن ندرك الفارق. مثال راي كورزوايل يشير إلى أنك عند اتخاذ 30 خطوة خطية، تصل إلى الخطوة 30 ، فالأمر بسيط 30 خطوة خطية يعني ببساطة 30 خطوة، أما 30 خطوة أُسِّيَّة فتعني ملايين الخطوات؛ ولهذا السبب الهواتف الذكية صغيرة وأرخص بملايين المرات وأكثر كفاءة بآلاف المرات. كنا نستخدم حاسوباً عملاقاً بحجم مبنى بقيمة ستين مليون دولار أمريكي منذ أربعين عاماً. هذا الحاسوب العماق بحجم هذا المبنى، والذي كانت تبلغ قيمته ستين مليون دولار أمريكي، حلَّ محله في مدة أربعين عاماً جهاز صغير تضعه في جيبك، بل وأيضاً أكثر كفاءة بآلاف المرات.

شرائح نانوية

هذا هو التقدم السريع، هذا هو التغير الأُسِّيِّ، وإنها لفرصة فريدة لتغيير العالم؛ لأنك تحتاج من أجل حل المشكلات إلى التحول من التغيير الخطي إلى الأسي. وأنا أرى أن دبي تُعد مثالً على التغيير الأُسِّيِّ. عندما نفكر في السرعة التي نهض بها هذا المكان بالنظر إلى العالم؛ أظن أن بقية العالم يجب أن يتعلم مما رأيته هنا من مظاهر للتغيير الأُسِّيِّ. إن فهم آفاق التغيير الأسّي الذي نتكلم عنه يفرض علينا أن نتخيل وجود حاسوب عماق في جيبنا فهذا الحاسوب العماق سيتم إعادة تصميمه في غضون الخمسة والعشرين عاماً المقبلة إلى أجهزة بحجم الخلايا النبضية، ومن المحتمل أن تنتج الهندسة العكسية أجهزة تُركَّب في أعضاء الجسم الداخلية والمخ في شكل شرائح نانوية، تُضبط في شكل حزم برامجية قابلة للتحميل تعالجنا من الداخل، ولا شك في أن ذلك سيغير اللعبة؛ لأن اتجاهات التغيير الأسِّيِّ ستبقى مستمرة، وهذا ما يجعل الأمر أكثر إثارة.

إذن، ماذا يجب علينا أن نفعل الآن؟ علينا أن نهيئ الأجواء ونحضِّر أنفسنا لمواكبة هذا التغيير، وتعرفون ما المطلوب منا أيضاً، أن نطوِّر من أنفسنا جذرياً، فإذا لم نغير من أنفسنا فسيأتينا التغيير من الخارج، هنالك شركات بمليارات الدولارات ظهرت فجأة، ولكن في الوقت نفسه اختفت شركات أخرى تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وبعض الشركات عندما تشرع في الابتكارات الخلاقة وتتخطى الحدود وتنتهج أفكاراً جريئة وتنجح في ذلك، تلجأ إلى التحفظ؛ لأن من لديه نموذج عمل ناجح يكون حساساً فيما يتعلق بانتهاج الابتكارات الخلاقة الجذرية. ولكن اتجاه التغييرات الأسِّيَّة لا يتوقف.

3 ثورات متداخلة

أعتقد أن الغالب على تفكير الناس في هذا الوقت يتعلق بتشتُّت انتباهنا للمعلومات من حولنا؛ فنحن لا نعرف إلى ماذا ننظر وبماذا نهتم. ولسنا متأكدين هل نهتم بالاقتصاد في الوقت نفسه اختفت شركات أخرى تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وبعض الشركات عندما تشرع في الابتكارات الخلاقة وتتخطى الحدود وتنتهج أفكاراً جريئة وتنجح في ذلك، تلجأ إلى التحفظ؛ لأن من لديه نموذج عمل ناجح يكون حساساً فيما يتعلق بانتهاج الابتكارات الخلاقة الجذرية. ولكن اتجاه التغييرات الأسِّيَّة لا يتوقف.

هواتف المستقبل تحتوي على
حزم بيولوجية قابلة للتحميل
ستغير من لعبة الرعاية الصحية

وبالنظر إلى علوم الوارثة، سنجد أن التقانة الحيوية أحدث الابتكارات الخلاقة في هذا المجال، ويُقصَد بالتقانة الحيوية إتقان عملية المعلومات الحيوية، فإذا كنا مصنوعين من لغة، فإن الحمض النووي يمثل الكود الذي يحمل المعلومات «الدي إن إيه » الوراثية.

وفي التقانة الحيوية تكون العلوم الحيوية وسيطاً قابلاً للبرمجة، وهذا تقدُّم وتطوُّر أُسِّيٌّ؛ فمثلاً التسلسل الجيني قد يكون ثلاث مرات أسرع من المعتاد بفضل التغيير الأُسِّيِّ. ونظمت مؤسسة إكس برايز مسابقة لتطوير جهاز ترايكودر بحجم هاتف ذكي، أي جهاز بحجم هاتف ذكي يعمل كمختبر يمكنه تشخيص حالتك على نحو أفضل كما لو كان مدمجاً به عشرة أطباء معتمَدون، وهذا بالطبع سيغير العالم عند إطلاقه.

ومن الأمثلة أيضاً لاري بايج المؤسس المشارك لجوجل الذي أسس شركة كاليكو التي يتركز عملها حول الصحة والطب والرعاية الصحية، وتهدف إلى تحسين نمط حياة البشر. وستُعنى بالدَّرجة الأولى بتحدي الشيخوخة والأمراض المرتبطة بها. يتحدث القائمون على هذه الشركة عن تطور هائل في التقانة الحيوية يؤدي إلى إطالة العمر جذرياً، وتقدم مثل هذه المبادرة فرصة لعدم إجبار البشر على التقاعد حتى في عمر الستين أو السبعين أو الثمانين أو التسعين حتى نهاية العمر؛ ما يحرِّر الإبداع، وبالتأكيد مبادرات مثل هذه ستغيِّر العالم.

هنالك عقود لا تشهد حدوث
أي شيء، وهنالك أسابيع تشهد
أحداث تحتاج إلى عقود

ومن الأمثلة الأخرى مؤسسة استراتيجيات لهندسة اختزال الشيخوخة إلى كمية مهملة «سينس »، التي تعمل على تطوير عامل معالج «شافي »، والأكثر أولوية من ذلك العمل على ضبط الآثار المترتبة على ذلك، والمساعدة على رفع معاناة البشرية من الأمراض، ووصول الجميع إلى الخدمات الطبية والرعاية الصحية. وستكون الهواتف الذكية في المستقبل هواتف التقانة الحيوية، وستكون هنالك حزم بيولوجية قابلة للتحميل؛ مما سيغير اللعبة. وعندما نتحدث عن تقنية النانو سنكون بصدد عالم مادي قابل للبرمجة، عالم مادي بسيط، تبني فيه المباني نفسها على سبيل المثال.