تجديد قواعد الكيمياء

يحدث التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي ثورة في عمليات الكيمياء العضوية.

لأكثر من 200 سنة، بقيت توليفة الجزيئات العضوية واحدة من أهم المهام في الكيمياء العضوية، فعمل الكيميائيين له آثار علمية وتجارية تتراوح من إنتاج الأسبرين إلى مادة النايلون. للأسف، إنها عملية معقدة وتستغرق وقتا طويلاً للعثور على النجاح. الكيمياء العضوية الاصطناعية هي علم بناء الهياكل الكيميائية المرغوبة من أجزاء أبسط. من أجل تحقيق هذا الهدف، غالباً ما يعمل الكيميائيون العضويون من خلال العودة بتفكيرهم إلى الوراء بقدر ما يتقدمون إلى الأمام عند تصميم مسار اصطناعي. إن مفهوم إعادة البناء الذي أدخله الكيميائي إلياس جيمس خوري في الستينيات والذي منحت له جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1990 ، قام بتدوين الطريقة التي يفكّر بها العديد من الكيميائيين.

بشكل عام، ينظر الكيميائيون إلى جزيء مستهدف ويحاولون تحديد تكوينه، ويتساءلون عن الروابط التي يمكن تكوينها، وما هي الذرات أو المجموعات الكيميائية التي يمكن إضافتها أو تحويلها؟ ثم تبدأ العملية مرة أخرى، حيث يحاول الباحثون تحديد التفاعلات التي يمكن أن تؤدي إلى جزيء السلائف )المركّب الطليعي(. والهدف من ذلك هو العودة إلى مركّبات البدء المتاحة بسهولة، مع موازنة العوامل التي تصنع توليفة جيدة، بما في ذلك عدد الخطوات المتضمنة، وعائدات الإنتاج المحتملة لتلك الخطوات، وكيف أنه من السهل استخدام الكيمياء المعنية. يتعامل الكيميائيون العضويون باستمرار مع مثل هذه الأسئلة، خاصة عند عمل مركّبات لاختبارها في برامج اكتشاف الأدوية.

التحدي الذي يواجه الكيميائيين العضويين في مجالات مثل الكيمياء وعلوم المواد والنفط والغاز وعلوم الحياة هو أن هناك مئات الآلاف من الاستجابات، وفي حين أنه من الممكن التحكم ببضع عشرات في حقل متخصص ضيق، فإنه من المستحيل أن تلمّ بكل شيء كخبير عام. كما أن تصميم المواد اللازمة لطلب معين هو مهمة معقدة. ويمكن أن ينتج عن المزيج العشوائي والمطابق للبنات البناء الذرية عدد لا نهائي من المركّبات المحتملة. تاريخياً، اشتمل اكتشاف المواد على مجموعة من المصادفة، والحدس، والتجريب، والخطأ - ولكن يمكن ضبط كل هذا على التغيير الحاصل بفضل الذكاء الاصطناعي.

منذ عمل كوري في الستينيات، اعتقد الكيميائيون أنه يمكن استخدام قاعدة بيانات كبيرة وجيدة التنظيم للتحولات الكيميائية كأساس لبرنامج لا يجد ردود أفعال فحسب، بل يرتبها أيضاً في خطط اصطناعية معقولة. لقد أُحبط هذا الحلم بسبب مشكلتين أساسيتين. أولاً، لا تستطيع الأجهزة الحاسوبية ببساطة مواجهة حجم التحدي. ثانياً، من الصعب تحديد الأدبيات الكيميائية من حيث إنه يمكن للبرنامج الذي يستخدم 1s و 0s أن يفهم أن تفاعلات معينة ستعمل مع نوع المركّب الذي تمت المطالبة بالعمل عليه )معظم الوقت(، ولكن فقط في ظل ظروف معينة. وبعبارة أخرى، فإن التمييز بين المصطلحات مثل «قد » أو «ربما » أو «سوف » في الأوراق العلمية له أهمية حاسمة مثل درجة الحرارة أو غيرها من معايير التفاعل.

هذا هو المكان الذي يظهر فيه التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي لأنه يوفر إمكانية تدريب أجهزة الكمبيوتر باستخدام خصائص المواد التي نعرفها سابقاً. بالإضافة إلى ذلك، تأخذ أساليب الذكاء الاصطناعي بعين الاعتبار جميع البيانات المتاحة على قدم المساواة، وتجد الاتجاهات التي قد يغيب عنها الباحث البشري بسبب التحيز نحو تفسير معين. تستخدم أداة جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي طورها ماروين سيغلر، وهو كيميائي عضوي وباحث ذكاء اصطناعي في جامعة مونستر، بألمانيا وزملاؤه، شبكات عصبية متعمقة في التعلم لاستيعاب جميع تفاعلات الكيمياء العضوية ذات الخطوة الواحدة الأساسية - حوالي 12.4 مليون منها. وهذا يمكّن من التنبؤ بالتفاعلات الكيميائية التي يمكن استخدامها في أي خطوة. وتطبق الأداة هذه الشبكات العصبية بشكل متكرر في التخطيط لتخليق متعدد الخطوات، وتفكيك الجزيء المطلوب حتى ينتهي به الأمر مع الكواشف البادئة المتاحة.

يشرح غرزيبوسكي أن القيام بعملية
إعادة البناء هو بمثابة لعبة الشطرنج:
هناك عدد من الحركات الأساسية. مع
ذلك خلال المباراة، كل حركة تفتح
فرعاً جديداً لنتيجة مختلفة.

واختبر سيغلر وفريقه المسارات التي ألقى بها البرنامج في تجربة مزدوجة التعمية، لمعرفة ما إذا كان الكيميائيون ذوو الخبرة يمكنهم أن يميزوا مسارات توليف الذكاء الاصطناعي عن تلك التي ابتكرها البشر. أظهر 45 كيميائياً عضوياً من مؤسستين في الصين وألمانيا طرقاً تخليقية محتملة لتسعة جزيئات: مسار واحد اقترحه النظام والآخر ابتكره البشر. الكيميائيون لم يستطيعوا اختيار أي منهما الأفضل.

يحاول الباحثون استخدام القوة الحاسوبية للتخطيط للتخليق الكيميائي العضوي منذ الستينيات، مع تحقيقهم نجاحاً محدوداً فقط. لكن أداة سيغلر هي واحدة من العديد من البرامج التي تم تطويرها في السنوات الأخيرة، والتي تستخدم الذكاء الاصطناعي للإبلاغ عن مسارات التفاعل المحتملة. تم شراء برنامج «تشيماتيكا ،» الأكثر شهرة، من قبل شركة المستحضرات الصيدلانية الألمانية «ميرك » في مايو 2017 . وقد أمضى برتوسز غرزيبوسكي، وهو كيميائي في معهد أولسان الوطني للعلوم والتكنولوجيا في كوريا الجنوبية، وفريقه، 15 عاماً في إدخال أكثر من 50 ألف من قواعد الكيمياء العضوية في النظام للاعتماد على هذا البرنامج.

في ديسمبر الماضي، ذكر غرزيبوسكي أنه قد جرّب ثمانية من المسارات المقترحة في الخوارزميات في المختبر، وأثبتت جميعها فعاليتها. ويقول: «أنا مسرور جداً بوجود إحياء التخليق، ونرحب بالنهج المختلف».

يوضّح غرزيبوسكي أن القيام بعملية إعادة البناء، يشبه لعبة الشطرنج، فهناك عدد من الحركات الأساسية. ومع ذلك، أثناء كل لعبة، تفتح كل خطوة فرعاً جديداً لنتيجة مختلفة. بعد أن يقوم اللاعبان بالتحريك، توجد 400 حركة ممكنة، وبعد حركتين هناك 197.742 لعبة محتملة، وبعد ثلاث حركات يحدث 121 مليون احتمال.

ويضيف: «ومع ذلك، في التوليف العضوي عدد التحركات الأساسية - أنواع التفاعل الأساسية - ضخم جداً يقدّر بعشرات الآلاف ».. بعد كل خطوة اصطناعية، تصبح 100 خطوة تالية ممكنة، وهذا يعني أنه كلما زاد طول المسار أصبح عدد الاحتمالات أكبر.

بما أن برنامج «تشيماتيكا »، لا يعطي شروطاً دقيقة لكل تفاعل، فلا يزال يتم بعض التجربة والخطأ عندما يتعلق الأمر بالتحسين. ومع ذلك، ولتعكس الوقت والقيود المالية للصناعة، اقتصر الفريق على خمس محاولات لكل رد فعل وبحد أقصى 70 ساعة لإكمال كل مسار. إن الآثار المترتبة على استخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي في الكيمياء العضوية الاصطناعية مذهل. وفي الوقت الحالي، تنفق شركات الأدوية ما يقارب 2.6 مليار دولار على تطوير علاج، كما أن تسعة من أصل عشرة علاجات مرشحة للفشل في مرحلة ما بين التجارب في المرحلة الأولى والموافقة التنظيمية. لكن التغيير يحدث بسرعة. تستخدم شركة «بيفايزر ،» نظام «إي بي إم واتسون » الذي يستخدم التعلم الآلي، لتشغيل بحثه عن أدوية الأورام المناعية. ووقعت شركة «سانوفي » صفقة لاستخدام منصة الذكاء الاصطناعي «إيكساينتا » في المملكة المتحدة للبحث عن علاجات الأمراض الاستقلابية، وتستخدم شركة «روتش » التابعة لشركة «جينيتيك » نظام ذكاء اصطناعي من «جي إن إس هيلثكير » في كامبريدج، ماساتشوستس، للمساعدة على دفع البحث الذي تقوم به الشركة متعددة الجنسيات عن علاجات السرطان.

هذا لا يعني بالضرورة أن جميع المسارات المقترحة للآلة ستعمل في المختبر، ولكن، كما يعبّر الكيميائيون العضويون عن أسفهم، فإن العديد من الطرق التي يصممها البشر تفشل هناك أيضاً.