محاربة شبح الخرف
تعطي الأبحاث الجارية على البكتيريا المسببة لأمراض اللثة أماً جديداً في محاربة مرض الزهايمر.
يعدّ الخرف وباء عالمياً، إذ إن هناك أكثر من 10 ملايين حالة جديدة سنوياً حول العالم، كما أن شخصاً واحداً يصاب به كل ثلاث ثوانٍ. أكثر أنواع الخرف شيوعاً هو مرض الزهايمر، الذي يحرم ضحاياه من قدراتهم المعرفية ويتركهم غرباء أمام أنفسهم والآخرين. ولأكثر من قرن من الزمان، كان المرض مراوغاً خلال البحث عن علاج. لكن البحث الموجه للبكتيريا التي تسبب أمراض اللثة يعطي اليوم أملاً جديداً.
يوجد 50 مليون شخص يعانون من الخرف، ومع ارتفاع عدد سكان العالم وعيش الناس لمدة أطول، يتوقع الخبراء ارتفاع عدد المصابين لأكثر من 135 مليون شخص بحدود عام 2050 . وبالتالي فإن التأثير الاجتماعي-الاقتصادي سيكون ضخماً. في 2015 ، بلغت الكُلفة الإجمالية لمرض الخرف حول العالم 818 مليار دولار، ما يمثل نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفي 2018 ، ارتفعت الكلفة الإجمالية لأكثر من تريليون دولار. كما أن الإنفاق السنوي على الخرف يتجاوز كثيراً القيمة السوقية لشركات مثل «آبل » و «غوغل ». ولو كانت رعاية مرض الخرف دولة، لكانت صاحبة الاقتصاد ال 18 على مستوى العالم. وبعيداً عن الناحية الاقتصادية، فإن المعاناة الإنسانية غير قابلة للقياس.
يعدّ الزهايمر أكثر أسباب مرض الخرف شيوعاً، وتشمل أعراضه الفقدان التدريجي للوظائف المعرفية. يعاني المصابون به في البداية من نسيان الأمور البسيطة، ويعانون من مشكلات في التفكير وتنظيم الأفكار بشكل طبيعي. ومع تفاقم المرض، يصبح المريض غير قادر على العمل، ويصبح من المستحيل القدرة على إنجاز الواجبات الأساسية. يصبح المصاب معتمداً كلياً على الآخرين، حتى ينتهي به الأمر ليصبح طريح الفراش.
«يزيحك المرض جانباً قليلاً ويتركك تشاهد حدوث ذلك .» هذا ما كتبه السير تيري باتشيت عن معركته مع الزهايمر في سرد مؤثر نشرته جمعية الزهايمر عام 2008 . كان باتشيت، الذي كتب 47 رواية وباع أكثر من 85 مليون نسخة حول العالم ب 37 لغة، قد أعلن عن تشخيصه بمرحلة مبكرة من مرض الزهايمر في ديسمبر 2007 . لم يعانِ في صمت وإنما ألقى الضوء على واقع أن أبحاث الزهايمر تعاني من نقص التمويل، إذ تشير الأرقام لانخفاض التمويل إلى 3% مقارنة بالتمويل المخصص لإيجاد علاج للسرطان.
يقول: «من الغريب ألا يستقطب المرض الذي يجتذب الكثير من الاهتمام، والأسى، والخوف والخرافة، التمويل الكافي لأعمال البحث والعلاج».
في 2008 ، تبرع باتشيت لصندوق أبحاث الزهايمر بمبلغ مليون دولار، وساعد على زيادة الوعي الشعبي بالمرض من خلال البرامج التلفزيونية مثل الوثائقي من جزئين، الحائز جائزة «بافتا »، والذي بثته قناة «بي بي سي :» «تيري باتشيت.. العيش مع الزهايمر».
توفي باتشيت في منزله في 12 مارس 2015 ، ولا يزال يتمتع بالتقدير العالمي لجهوده التي بذلها في سبيل حل إحدى أكبر المعضلات الطبية.
شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً في التمويل والأبحاث، لا سيما مع التركيز على الأمل الذي تقدمه الدراسات الموجهة للعلاقة بين الزهايمر وبكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية، والمعروفة بتسببها بأمراض اللثة.
تعاونت شركة «كورتيكسم» (Cortexyme) الخاصة للتكنولوجيا الحيوية مع جامعة جاغييلونيان في بولندا، وجامعة كاليفورنيا، وكلية طب الأسنان في جامعة لويزفيل وكلية طب الأسنان في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، وجامعة ملبورن في أستراليا، وجامعة أوكلاند في نيوزيلندا، في تمويل دراسة على بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية والزهايمر نُشرت في دورية «ساينس أدفانسس».
توصل الفريق عبر استخدام 54 عينة زهايمر دماغية بشرية إلى وجود إنزيمين سامّين يسميان «غينغيباينس » ( gingipains ) تستخدمها بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية للتغذي على الأنسجة البشرية في 99 % من العينات المأخوذة من الحُصَين، وهو الجزء المستخدم في الدماغ للذاكرة. كما وجد الفريق مادة جينية من وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية في قشرة المخ، وهي المنطقة المسؤولة عن التفكير النظري والتحليلي. يمكن النظر إلى هذا الاكتشاف على أنه قفزة مهمة في التفكير وفرضية سببية جديدة.
بات من المعروف أن مرض الزهايمر يمكنه أن يتأصل قبل 20 عاماً من ظهور أعراضه. إذ تبدأ التغيرات السمية في الدماغ عبر بروتينات تسمى لويحات «بيتا أميلويد » التي تتراكم مع اللييفات، ما ينتج عن ذلك شكل غير طبيعي من بروتين تاو، المعروف ب «تشابكات تاو ،» لتبدأ في التراكم كلها قبل سنوات من بداية ظهور أعراض الزهايمر. ربما لا يشعر المرء بأي تأثيرات، لكن في الدماغ تتجمع لويحات بيتا أميلويد خارج العصبونات. ثم تلقائياً، يسهم تراكم تشابكات تاو داخل الخلايا العصبية في تدهور حالة الدماغ المرتبطة بالزهايمر. يمكن أن تسهم لويحات بيتا أميلويد في موت الخلايا عبر تدخلها في العلاقة بين العصبونات في نقاط الاشتباك العصبي، فيما تعيق تشابكات تاو انتقال المغذيات والجزيئات الأساسية الأخرى داخل الخلايا العصبية. يظهر الأفراد انخفاضاً واضحاً في الوظائف الإدراكية، ومع انتشار اللويحات والتشابكات في مناطق أخرى من الدماغ، تبدأ الأعراض السلوكية في الظهور، وتشمل التغيرات الشخصية، والخلل في التواصل، والتشوش وفقدان الاتجاه، والاضطراب، والعجز عن اتخاذ القرار المناسب، وفقدان الذاكرة وأخيراً اختلال الوظائف الجسدية مثل المشي والبلع.
«تقدم النتائج التي خلصت إليها هذه الدراسة الدليل
على أن بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية
و(غينغيباينس) في الدماغ تلعب دوراً رئيساً في التسبب
بحدوث مرض الزهايمر وتطوّره، ما يقدم إطار عمل نظرياً
جديداً لعلاج المرض»
حتى هذا الإنجاز العلمي الحديث، كانت الأبحاث تركز، بشكل كبير، على تطوير العقاقير التي تعيق أو تدمر بروتينات الأميلويد، أو تحلل تشابكات تاو في بعض الأحيان، وتتضمن التجارب التي أجريت على الفئران المعدلة جينياً لإنتاج الأميلويد. وقد أصبح مقبولاً الآن أن هذا النموذج لم يعد صالحاً للعمل، وبحسب دراسة أجريت عام 2018 ، بعنوان «ثمن التطور: تمويل عمليات تطوير عقاقير علاج الزهايمر »، فقد وصل معدل الفشل في تطوير علاج الزهايمر إلى نسبة 99 %.
تقترح الفرضية الجديدة التي أنجزتها دراسة «كورتيكسم » أن لويحات البيتا أميلويد وتشابكات تاو ما هي إلا أعراض للمرض، وليست مسببات له. حلل الفريق العلمي أنسجة المخ، والسائل النخاعي واللعاب من مرضى الزهايمر، وتوصلوا إلى بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية. أكدت التجارب على الفئران أن باستطاعة البكتيريا الانتقال من الفم إلى الدماغ، وأظهرت أن البروتين السام الذي تفرزه يدمر خلايا الدماغ. كما زادت البكتيريا من إنتاج لويحات الأميلويد المرتبطة بالزهايمر. اختبر العلماء بعد ذلك العقاقير على الفئران بهدف إعاقة البروتينات السامة، ووجدوا أنهم كانوا قادرين على إيقاف تدهور حالة الدماغ.
يقول مؤلفو الدراسة: «تقدم النتائج التي خلصت إليها هذه الدراسة الدليل على أن بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية و)غينغيباينس( في الدماغ تلعب دوراً رئيساً في التسبب بحدوث مرض الزهايمر وتطوّره، ما يقدم إطار عمل نظرياً جديداً لعلاج المرض».
يضيف كايسي لينش، من «كورتيكسم»: «عندما أعطى الفريق بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية المسببة لمرض اللثة للفئران، أدت إلى إصابات في الدماغ، وإنتاج الأميلويد، وتشابكات بروتين تاو والتلف العصبي في المناطق العصبية التي تتأثر عادة بالزهايمر. وهذا يفترض السببية ». طور الفريق حالياً عقاراً جديداً يمكنه تشكيل أساس العلاج البشري، ويخططون لاختباره في تجربة سريرية على أشخاص يعانون من مستوى متوسط من الزهايمر لاحقاً في العام الجاري. وبكل الأحوال، لا تزال الدراسة بعيدة عن كونها حاسمة بشكل نهائي، وثمة طريق طويل قبل إثبات المسببات. لا يخفي ديفيد رينولدز، من جمعية الزهايمر البريطانية شكوكه حول زعم الدراسة بشأن تسبب بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية بمرض الزهايمر، بالنظر إلى الدور الذي تلعبه جينات المرء في الإصابة بالمرض. يقول: «تشير الأدلة الجينية القوية إلى عوامل أخرى غير البكتيريا تعدّ أساسية في تطور مرض الزهايمر، لذلك يجب وضع هذه النتائج ضمن سياق هذا البحث الموجود».
ومع ذلك، لا تتعارض فرضية تسبب البكتيريا بالزهايمر في الواقع مع الأدلة الجينية. إذ يمكن أن يتغير نزوع الجسد الإنساني للالتهابات المرضية وفقاً للتغيرات الجينية التي تؤثر في أجهزتنا المناعية، ويمكن لهذا أن يؤثر في حجم الضرر الذي يمكن أن تسببه بكتيريا وحيدات الخلية البورفيرينية اللثوية في الدماغ.
وفي حين لاتزال هناك حاجة كبيرة للتطور في هذا الاتجاه للدراسة، إلا أن ما خلصت إليه يعدّ تقدماً ملموساً، ويقدم الأمل ويبقي التركيز على شيطان الخرف. وكما سبق لباتشيت التنبؤ، ف «بمجرد تحديدنا للشيطان، من دون سرية أو خجل، سنتمكن من تحديد نقاط ضعفه. لكن للأسف، فإن أحد أفضل السيوف لقتل شيطان مثل هذا مصنوع من الذهب.. الكثير والكثير من الذهب. في هذه الأيام نسميه التمويل. أعتقد أن يوم النصر في معركة الزهايمر سيحلّ قريباً، وهذا اعتقاد تقوّيه الكثير من الأشياء التي سمعتها من المختصين. إنه مرض جسدي، وليس لعنة غامضة، وبالتالي فإنه سيخضع للعلاج الجسدي. هناك وقت لقتل الشيطان قبل أن يكبر».
ما هو مرض الزهايمر؟
مرض الزهايمر هو الشكل الأكثر شيوعاً للخرف، ويسبب فقدان الذاكرة، وصعوبة أداء المهام اليومية، وتغييرات في الحكم والاستدلال والسلوك والعواطف
من الأكثر تعرضاً للإصابة؟
%72 من المرضى هم من النساء.
%25 ممن يعانون من المرض يزيد سنهم على 85 سنة، %5 يزيد سنهم على 65 سنة
الأشخاص كبار السن الذين يعانون من الاكتئاب هم أكثر تعرضاً لخطر
المرض بمعدل يفوق 4 مرات عن غيرهم يعدّ الاكتئاب عاملاً مشاركاً بقوة في تطور مرض الخرف
يمكن للتشخيص المبكر أن:
يزيد من نجاح العلاج يساعد الأفراد على تجنب الإصابات
%60 من الحالات تقريباً تبقى غير مشخصة