العمل عن بعد.. الواقع والضرورة
يبدو مصطلح «العمل عن بعد » غريباً لدول كثيرة في ظل انتشار جائحة كورونا وتسببها في تعطيل الحياة على هذا الكوكب، لذلك كان لا بد من تطبيق هذه المنظومة كأحد الحلول الإسعافية للحفاظ على سير عمل القطاعات الحيوية في كل دولة، لكن كيف سيكون التعامل مع هذا النظام الطارئ، وما هي نتائج تطبيقه ومستقبله؟
في الإمارات العربية المتحدة بالتحديد لم يكن «نظام العمل عن بعد » أمراً جديداً أو مفاجئاً لقطاعات كثيرة، على اعتبارها صاحبة تجربة في هذا المشروع الذي كانت قد أطلقته قبل عامين للسماح للموظف بتأدية عمله أينما كان، بعيداً عن مقر العمل لكن مع الحفاظ على الجودة ذاتها، ومع انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد ،»19 أصدرت الحكومة قراراً يجيز ببدء العمل عن بعد لمؤسسات الدولة مستثنية بعض القطاعات، كالطاقة والاتصالات والصحة والتعليم والأمن والشرطة والبريد والشحن والأدوية والمياه والأغذية والطيران المدني والجوازات والمالية والمصارف والإعلام الحكومي، على ألا يوجد أكثر من 30 % من الموظفين في مقر العمل.
«العمل عن بعد » كما عرفته وزارة الموارد البشرية والتوطين في الإمارات العربية المتحدة هو نظام عمل يقوم فيه العامل بتأدية واجباته من مواقع مختلفة عن مقرات صاحب العمل، أي يؤدي فيه العامل العمل من خارج المواقع المخصصة للعمل سواء بشكل جزئي أسبوعي أو شهري أو بشكل كامل.
في مواجهة جائحة كورونا، طالبت وزارة التوطين والموارد البشرية في قرار تطبيق العمل عن بعد كافة القطاعات باستخدام التطبيقات الإلكترونية والذكية حال ممارسة أنشطتها عن طريق العمل عن بعد، مع توفير قنوات إلكترونية للدعم والمساندة، وتحديد إدارة أسلوب العمل عن بعد من حيث ساعات العمل، سواء كانت محددة بوقتٍ معين، أو مرنة خلال اليوم، أو الأسبوع أو الشهر، كما تشمل الالتزامات ضمان توافر بيئة تكنولوجية آمنة من خلال مراعاة الضوابط المتعلقة بالحفاظ على خصوصية وسرية البيانات، وتقنين الصلاحيات الخاصة بالدخول على الأنظمة لإنجاز العمل عن بعد، ومتابعة الموظفين الذين يعملون عن بعد إلكترونياً، من أجل التأكد من التزامهم بساعات العمل عن بعد، وتأدية وإنجاز العمل. وبحسب القرار ذاته «تشمل التزامات العامل الذي يعمل عن بعد موافقة جهة عمله الالتزام بالحضور إلى مقر العمل متى طلب منه ذلك، وأداء المهام للرد على كافة المكالمات ورسائل البريد الإلكتروني، والمحافظة على سرية المعلومات والوثائق والمستندات».
فريق واحد في أمكنة مختلفة
أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله »، أن حكومة الإمارات مستعدة وجاهزة للتعامل مع جميع الظروف المستقبلية، جاء ذلك خلال ترؤس سموه لأول اجتماع لمجلس الوزراء عن بعد إثر أزمة كورونا، حيث قال سموه: «بعيدون فقط في المكان.. ولكن قريبون من قلوب الجميع.. قريبون من الجمهور.. وخدماتنا قريبة للجميع.. أفكارنا واحدة.. وعملنا واحد.. وفريقنا سيظل واحداً ». وأضاف سموه: «نطمئن جميع المواطنين والمقيمين على أرض الدولة بأن صحة المجتمع ستكون هي الاختيار الأول عند اتخاذ كافة القرارات الحكومية».
وجاء الاجتماع تماشياً مع سلسلة التدابير الوقائية والاحترازية المُتبعة في الدولة لمواجهة فيروس كورونا المستجد )كوفيد 19 (، وفي أعقاب اعتماد نظام العمل عن بعد في الحكومة الاتحادية، حيث أكد سموه أن العمل في حكومة الإمارات مستمر، وسيستمر، ولأجل الإمارات تتواصل المسيرة، وتتواصل معها الإنجازات. وقال سموه: «اجتماعنا يأتي بأدوات جديدة، وفي ظروف استثنائية لنثبت أن حكومة الإمارات حكومة مستقبلية.. قادرة على التأقلم مع مختلف التحديات، وتستطيع بفضل كوادرها الوطنية وبنيتها التحتية أن تواكب كافة المستجدات .» وأضاف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «استثمرنا في التعلم عن بعد والعمل عن بعد والخدمات الذكية لأكثر من 10 سنوات.. واليوم نجني ثمرات العمل».
نظام مرن
في أحدث دراساتها عن هذه المنظومة، أكدت كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية أن حكومة الإمارات تبنت الدوام المرن والعمل عن بعد قبل أزمة «كوفيد »19 ، وأن الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الدوائر الحكومية في الإمارات شكلت عاملاً رئيساً في نجاح التجربة، حيث تم تحديد الوظائف المناسبة للعمل عن بعد، وتشجيع الموظفين على الاستفادة من إيجابيات هذه المبادرة لزيادة الإنتاجية.
وأشارت الدراسة إلى وجود بعض العقبات التي يمكن تجاوزها عند تطبيق آلية العمل عن بعد، منها شعور الموظف بأنه ترك وحيداً، بعيداً عن المخالطات والمناسبات الاجتماعية في مقار المؤسسات، إلا أنها أوضحت أن العمل عن بعد سيستحدث عادات وسلوكيات جديدة أكثر إفادة على مستوى المؤسسات. وأضافت: «إن من تحديات العمل عن بعد وجود وظائف لا تصلح لهذا النموذج، حيث تزدهر الأعمال النظرية التي تنتقل موادها إلكترونياً، فيما تظل الأعمال العضلية والجسدية في حاجة إلى وجود فعلي في الوقت الراهن »، وأوصت الدراسة بضرورة استفادة المؤسسات من فوائد ومزايا العمل عن بعد، مثل تقليص النفقات وتوظيف المواهب وعدم ترك هواجس ضعف الرقابة على العاملين تؤجل تلك الخطوة. كما حذرت الدراسة المؤسسات من اتخاذ قرارات متسرعة في منظومة العمل عن بعد، حيث يجب تركيز كل الجهود على تحسين بيئة العمل الرقمية، مع تبني التوظيف الهجين، حيث يتاح للموظف العمل عن بعد في أيام معينة، لجعل المؤسسة تستفيد من فوائد النوعين من العمل، وأكدت أنه يجب على المؤسسات أن تكون أكثر واقعية في وضع توقعات واضحة، مع التركيز على العدالة والمساواة في معاملة الموظفين عن بعد والموجودين داخل المؤسسة مع منح الموظفين البعيدين إمكانية الوصول إلى الإدارة بالسهولة نفسها.
سعادة الموظفين
وفي تقرير صادر عن مؤسسة دبي للمستقبل عن العمل عن بعد في ظل فيروس كورونا المستجد وبعده. أشار التقرير إلى أن العمل عن بعد على المدى القصير في ظل جائحة كورونا سيركز على نماذج سعادة الموظفين الجديدة، مثل مؤشر السعادة، والنشاطات التي تحفز على التفاعل الاجتماعي، مثل الأحداث الاجتماعية الرقمية، وستصبح التيار السائد في سياسات الموارد البشرية لتضمن المحافظة على الصحة العقلية للموظفين خلال العمل عن بعد. كما ستقاس الإنتاجية بناء على مستوى الإنجاز وليس الحضور، فيدير الموظفون أوقات عملهم ذاتياً بدلاً من الاعتماد على نظم وآليات تراقب أوقات عملهم أو حضورهم.
وعلى المدى البعيد بعد فيروس «كوفيد- :»19 «سيصبح أسلوب العمل عن بعد جزءاً أساسياً من ممارسة الأعمال بعد كوفيد- 19 ، إذ ستواصل مختلف المنظمات الاستفادة من هيكل العمل عن بعد، باستثناء الاجتماعات التي لا بد من عقدها وجهاً لوجه، وستصبح الأحداث والندوات والورش رقمية، ويستخدم فيها الواقع الافتراضي والمعزّز ليشعر المشاركون بها بتجارب واقعية من جميع الجوانب. وستتسارع الأتمتة، ويتطلب هذا من الموظفين تطور مهاراتهم وتنويعها أو استخدام مهاراتهم التي يجيدونها أصلاً في وظائف أخرى. كما سيرتفع مستوى الابتكار بإيجاد وظائف جديدة بديلة عن الوظائف التقليدية. وكذلك تطبيق نماذج سعادة الموظفين الجديدة في مكان العمل، حيث يجب أن يحدث بعد التأكد من أنها مصممة كي تعمل على إسعاد الموظفين في مكان العمل، وكي تقيهم من مشكلات الصحة العقلية.
القطاع الخاص
وفي سياق تطبيق العمل عن بعد على القطاع الخاص، التقت «ومضات » هوزان علي، وهو مدير المبيعات في شركة «بي سي أس وايرلس » للهواتف المحمولة في دبي، تحدّث عن هذه التجربة قائلاً: «إن بيئة العمل هذه ليست بجديدة على شركتهم على اعتبار أن لديهم تجربة سابقة في العام 2015 ، لكن مع ظهور جائحة كورونا، ولأن المقر الرئيس للشركة هو الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى أن الشركة تتعامل مع متعاملين من دول عدة، فإن اللجوء المفاجئ لآلية العمل عن بعد كأمر واقع فرضته الأزمة، تسبب بخلل لنظام العمل لديهم في البداية، لكن مع مرور نحو أسبوعين، بدأت معظم فروع الشركة تندمج مع هذا النظام وتستعيد عافيتها.
تشمل التزامات من يعمل
عن بعد موافقة جهة
عمله الالتزام بالحضور إلى
مقر العمل متى طلب منه
ذلك، وأداء المهام وفق الأطر
الزمنية المحددة للإنجاز
تطرق علي إلى زيادة ملحوظة في مبيعات الشركة مع تحول معظم المتعاملين إلى الشراء عبر الإنترنت، ليتحول الموظفون في قسم المبيعات بالشركة إلى بائعين من المنزل، يتصلون بشكل مباشر مع المتعامل/ الزبون، يحضّرون ويديرون شحن الطلبات من المنزل، لكن مع ضرورة وجود عدد بسيط من الموظفين في أقسام المخزن والصيانة في مقر فرع الشركة.
وعن مستقبل هذا النظام في قطاعهم، يقول علي: من المتوقع اعتماد القطاع مستقبلاً على العمل عن بعد كضرورة، لأنه قد يوفر الكثير الوقت والمال، مضيفاً، بالنسبة لشركتهم بات بإمكان المتعامل أن يقوم بتجهيز طلبيته وشحنته عبر تقنية «الدخول المحدود » إلى نظام الشركة التي تم توفيرها للزبائن أخيراً، داعياً إلى ضرورة التحاق القطاعات التجارية الأخرى التي يتناسب عملها مع هذه المنظومة لاستثمار أفضل لوقت العمل.