حرب عالمية ضدّ كورونا
إن العواقب التي قد يخلِّفها مرض فيروس كورونا «كوفيد- »19 غير مؤكدة على الإطاق، لكنها قد تكون كارثية، فقد جرى الإباغ عن الإصابات في معظم دول العالم، ويكاد يكون من المؤكد أن الأرقام التي تصدر لا تعبِّر بالكامل عن حجم ونطاق تفشي المرض. مجابهة كورونا اليوم هي أشبه بحالة حرب عالمية. في التقرير التالي نقرأ بعض الآراء لخبراء ومفكِّرين عالميين نشروا مقالاتهم في «بروجيكت سنديكيت » بشأن هذا المرض وتأثيراته الاقتصادية والصحية والاجتماعية، وكيفية تعزيز أواصر التعاون الدولي.
يقول الخبير الاقتصادي لاري هاثاواي في مقاله «خطة الطوارئ في التصدي لوباء كورونا المستجد « :» يسجل تفشي فيروس كورونا المستجد «كوفيد- »19 الآن انتشاراً متسارعاً، ومع اقترابه من مستوى الوباء أو الجائحة، بات من المرجح على نحو متزايد أن يكون تأثيره الاقتصادي شديداً. وإلى جانب استجابات الصحة العامة المكثَّفة، يتعين على الحكومات أن تتدخَّل للتخفيف من تأثير الفيروس على النمو، وتشغيل العمالة، ومستويات المعيشة .
ويرى أن هناك ثلاثة أسباب تدعو إلى القلق إزاء احتمال أن يضرب هذا الفيروس الاقتصاد العالمي بشدة. فأولاً، ستعمل القيود المفروضة على السفر على المستويين الإقليمي والوطني على الحد من تدفق السلع والخدمات عبر الحدود وداخل البلدان. ويحدث هذا بالفعل في الصين، حيث سجلت توقعات النمو في النصف الأول من عام 2020 انخفاضاً ملحوظاً. ولكونها الدولة صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم وموطناً لجزء كبير من سلسلة التوريد العالمية، فإن التباطؤ في الصين بدأ ينعكس بالفعل في توقعات الأرباح )المخفضة( لشركات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الكبرى.
ثانياً، ستترجم حالة انعدام اليقين إلى انخفاض «باهظ التكلفة » في الإنفاق من جانب الأسر والشركات الصغيرة. فالآن يعيد كثيرون النظر في الإجازات والسفر بغرض العمل، كما يتضح من إلغاء أكثر من 200 ألف من حجوزات شركات الطيران حتى الآن هذا العام. ومن المرجح أن نشهد حالة مماثلة في أسواق شراء السيارات والمساكن. وقبل أن تمر فترة طويلة، ستقرِّر الشركات إرجاء الاستثمار في المباني، والمنشآت، والمعدات، وهذا من شأنه أن يخلِّف تأثيرات سلبية كبرى على الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم.
ثالثاً، إذا استمر التراجع الحاد في أسواق الأسهم العالمية، فسوف يلحق الضرر بالاقتصاد الحقيقي. ذلك أن الأسواق الهابطة تغذي الخوف وانعدام اليقين، وتعمل على تقليص ثروات الأسر، فيتآكل الإنفاق الاستهلاكي بدوره. كما أنها ترفع تكلفة رأس المال للشركات، مما يعني توظيف عدد أقل من العاملين وانخفاض الإنفاق الرأسمالي. باختصار، قد يقودنا فيروس كورونا المستجد والاستجابات في مواجهته بسهولة إلى عجز في الإنفاق العالمي، وهو ما قد يعقبه خسائر متزايدة في الوظائف، مما قد يدفع الاقتصاد الحقيقي في كل مكان إلى حافة الركود.
ويقول أخيراً: «ينبغي لكل الحكومات أن تعمل على الفور على تعزيز الإنفاق على الخدمات الطبية، التي يجب أن تتاح لأولئك الأكثر عُرضة لخطر فيروس كورونا: كبار السن، والمهمَّشين، سواء في المدن أو المجتمعات الريفية النائية. ويجب على صناع السياسات أن يسمحوا على الفور بالإنفاق لتغطية تكاليف أساطيل من الوحدات الطبية المتنقِّلة للوصول إلى أولئك الذين لا يمكنهم الوصول إلى الرعاية اللائقة.
ويختم المقال بالقول: «العجز مشكلة الغد. أما التحدي اليوم فيتمثَّل في محاربة فيروس كورونا المستجد وآثاره الاقتصادية الضارة. والتقاعس عن التحرك بقوة وعلى الفور الآن أشبه بترك المريض يموت لمجرد تلقينه درساً. أما السياسات الحزبية التي تقودنا إلى نتائج محصِّلتها صِفر فهي ليست عذراً للحكومات للتهرب من التزاماتها الأساسية تجاه المواطنين. وإذا كان لنا أن نستخلص أي خير من هذه الأزمة، فهو أن الساسة ربما يجدون أخيراً طريقة لتنحية خلافاتهم جانباً والقيام بعملهم .
ينبغي لكل الحكومات أن تعمل فوراً على تعزيز الإنفاق على الخدمات الطبية، التي
يجب أن تتاح للأكثر عُرضة لخطر فيروس كورونا: كبار السن، والمهمَّشين
اختبار إجهاد لأنظمة الصحة العالمية
يقول جيم أونيل، الرئيس الأسبق لمؤسسة جولدمان ساكس لإدارة الأصول، ووزير خزانة المملكة المتحدة الأسبق، في مقال بعنوان «اختبار إجهاد لأنظمة الصحة العالمية": إن أزمة فيروس كورونا 2019 تثير قضية أخرى لطالما دافعت عنها: جاهزية الصحة العامة. كجزء من مراجعات المادة الرابعة للدول الأعضاء ينبغي لصندوق النقد الدولي أن يعكف على تقييم قوة ومدى استعداد أنظمة الصحة العامة. وما يُحسَب لصندوق النقد الدولي، أنني دعيت إلى مقره لمناقشة هذه الفكرة. لكن حدسي ينبئني بأن قيادة صندوق النقد الدولي سوف تتردد، على أساس أن مؤسَّستها تفتقر إلى الخبرة التحليلية المتقدِّمة اللازمة لتقييم الأنظمة الصحية كتلك التي تتمتع بها في مجال التمويل العام وغير ذلك من الأمور .
ويضيف: «ومع ذلك، فإن افتقار صندوق النقد الدولي إلى الخبرة التحليلية المتقدمة في مجال تغير المناخ لم يمنعه من إصدار بيانات سياسية حول ذلك الموضوع. هذا هو ما يجب أن يكون: فكما تُظهِر الأسواق، لا يستطيع المرء أن يميِّز بين المسائل المالية والقضايا العريضة مثل تغير المناخ أو الصحة العامة. ولا بد أن يكون من الواضح أن الفشل في منع انتشار الأمراض المعدية من شأنه أن يخلِّف تأثيراً مباشراً على ظروف الاقتصاد الكلي .
ويختم مقاله بالقول: «كما ينصحنا القول المأثور القديم، لا ينبغي للمرء أن يهدر فرصة الاستفادة من الأزمة. الواقع أن هذا القدر الهائل من الاهتمام المسلَّط على مرض فيروس كورونا 2019 يخلق الفرصة لإعادة النظر في كيفية إدارتنا لمثل هذه التحديات واستعدادنا لاستقبالها. ولا يملك المرء إلا الأمل في أن يدرك قادة العالم، وخاصة أولئك في دول مجموعة العشرين، مدى إلحاح الحاجة إلى استثمارات أكبر في أنظمة الصحة الوطنية حتى لا يتحوَّل المزاج الحالي من الخوف والجزع إلى سمة منتظمة في حياتنا. وبينما يعملون على ذلك، يمكنهم البدء بإصلاح خط المضادات الحيوية الجديد المعطل، حتى لا نلقي بالتكاليف البشرية والمالية المترتبة على أزمة مقاومة مضادات الميكروبات على عاتق أجيال المستقبل
ثروة الأمم وصحتها
يقول ويليام ه. بيوتر، كبير خبراء الاقتصاد الأسبق لدى سيتي جروب، وهو أستاذ زائر في جامعة كولومبيا في مقاله بعنوان «ثروة الأمم وصحتها « :» كي نفهم كيف من الممكن أن يتسبب الوباء في إحداث ركود عالمي )أو ما هو أسوأ(، فلا نحتاج إلا إلى الاطلاع على الفصل الثالث من القسم الأول من كتاب آدم سميث "ثروة الأمم « :» إن تقسيم العمل مقيد بنطاق السوق ». لقد بات من الواضح بالفعل أن الوباء من الممكن أن يتسبَّب في إحداث صدمة سلبية على جانب العرض إذا انخفض حجم العمالة المتاحة بسرعة بسبب مرض )أو وفاة( الأشخاص في سن العمل نتيجة للمرض. الأمر الأسوأ من ذلك أن انتشار الخوف الطليق من العدوى من الممكن أن يقود إلى تعليق سلاسل الإمداد الحرجة. كما تولي وسائل الإعلام بالفعل قدراً كبيراً من الاهتمام لسلاسل الإمداد العابرة للحدود التي تشمل الصين وكوريا الجنوبية وغيرهما من دول المواجهة؛ ولكن مع ارتباطها بشركات في مختلف أنحاء العالم، لا تشكِّل هذه المراكز سوى غيض من فيض.
ويشير بيوتر إلى أنه «علاوة على ذلك، لا تقل سلاسل الإمداد المحلية عُرضة للخطر. فمع انتشار فيروس كورونا، سينقطع عدد أكبر من الروابط بين المشترين والبائعين، الروابط الوسيطة والنهائية. الأمر الأكثر أهمية هو أن «نطاق الأسواق » سوف يتقلَّص، كما ستتقلَّص على نحو مطَّرد مكاسب تقسيم العمل التي تشكِّل واحدة من محركات «ثروة الأمم » الرئيسة بسبب الحاجة إلى المزيد من الموارد للقيام بإنتاج محلي لما كان يستورد في السابق بثمن أقل من أماكن أخرى. ومن المؤكد أن العودة إلى إنتاج الكفاف أو الاكتفاء الذاتي، حتى ولو كان ذلك مؤقتاً، سيكون مدمراً بشكل هائل على المستوى الاقتصادي.
ويجد أخيراً أنه «ينبغي للحكومات أن تكون مستعدة لتحمل فاتورة الأجور للعاملين المصابين بالمرض أو المحتجزين في الحجر الصحي. ومن الممكن استخدام الحوافز المالية التقليدية )الإنفاق العام الموجه بذكاء والتخفيضات الضريبية( لمعالجة النقص في الطلب الفعّال. الواقع أن صنّاع السياسات يمتلكون الأدوات الاقتصادية التي يحتاجون إليها للحد من الضرر الناجم عن فيروس كورونا. ولكن حتى مع تطبيق هذه التدابير، قد لا يتمكَّن الاقتصاد العالمي من تجنب سيناريو كئيب، أقرب إلى الكساد منه إلى الركود
مبادئ اقتصاديات كورونا
باري آيكينجرين أستاذ في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وصاحب كتاب «الإغراء الشعبوي: المظالم الاقتصادية ورد الفعل السياسي في العصر الحديث » يقول في مقاله «مبادئ اقتصاديات كورونا « :» يتعين على البنوك المركزية والقادة السياسيين، الذين يواجهون أزمة عالمية، تجاهل الحجج الخاطئة واستخدام السياسات النقدية والمالية لضمان سيولة السوق، ودعم الشركات الصغيرة، وتشجيع الإنفاق. لكن عليهم أن يدركوا أن ردود الكتب المدرسية هذه لن تخلِّف سوى تأثيرات محدودة فقط عندما لا تكمن المشكلة في نقص السيولة، بل في تعطل سلاسل التوريد وانتشار عدوى الخوف. حيث يعتمد الاستقرار الاقتصادي اليوم بشكل أكثر أهمية على تصرفات سلطات الصحة العامة، التي ينبغي أن تُمنح الموارد ويُفسح لها المجال لأداء وظائفها، بما في ذلك حرية التعاون مع نظيراتها الأجنبية .
ويؤكد أنه "في خضم المعركة ضد وباء كورونا، يتوجَّب على الاقتصاديين وواضعي السياسات الاقتصادية والكيانات مثل مجموعة السبع أن يعترفوا بتواضع بأن «جميع الأدوات المناسبة" تعني، قبل كل شيء، تلك الأدوات التي يوفرها ممارسو الطب وعلماء الأوبئة.
ويجب أن تكون الشعارات التي يرفعونها في هذا القتال هي التنسيق والاستقلالية والشفافية
ماذا يعني كوفيد- 19 بالنسبة للتعاون الدولي؟
يشير كمال درويش، وزير الشؤون الاقتصادية السابق في تركيا، والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وسيباستيان شتراوس كبير محللي الأبحاث ومنسق المشاركة الاستراتيجية في معهد بروكينغز في مقال لهما بعنوان «ماذا يعني كوفيد- 19 بالنسبة للتعاون الدولي؟ « :» قد يصبح كوفيد- 19 ليس مجرد أزمة صحية هائلة، بل أيضاً أزمة عولمة وحكم عالمي. ومن الواضح أنه يطرح السؤال عن الطريقة التي ينبغي للعالم عن طريقها تنظيم نفسه ضد تهديد الأوبئة، ولكنه ينعكس أيضاً على طريقة تصور العولمة، وأهمية هذا التصور بالنسبة لمستقبل التعاون الدولي.
ويوضحان أنه «من المرجح أن ينشأ اتجاهان سياسيان مختلفان من هذه الكارثة التي بدأت تتجلّى للعيان: أولاً، قد تؤدي الأزمة إلى تحركات للحد من الترابط العالمي، بما في ذلك من حيث السفر، والتجارة، والتدفقات المالية، والرقمية، والبيانات. وقد يطلب الناس تلقائياً مزيداً من العزلة في العديد من المجالات. إن البحث عن الحماية من خلال العزلة الشاملة سيكون مضللاً، وسيؤدي إلى نتائج عكسية. ولكن في هذه الحالة، يمكن للمجتمعات حقاً، المساعدة في احتواء تهديد كوفيد- 19 عن طريق التقليل بشكل متواصل من ترابطها، من خلال تدابير التخفيف التي تزيد من المسافة الاجتماعية، مثل إغلاق المدارس والمحلات التجارية، وحظر التجمعات العامة، ووضع قيود على وسائل النقل العام أثناء استمرار الأزمة. وسيكون لهذه الخطوات القاسية تكاليف اقتصادية واجتماعية مرتفعة على المدى القصير، وستطرح تحديات عملية وأخلاقية لا يمكن إنكارها. وقد يتَّضح بعد فوات الأوان أنها غير ضرورية. ولكن لأنه لا يمكننا التنبؤ بانتشار كوفيد- 19 ، تتطلب الأزمة اتخاذ إجراءات قوية في وقت مبكر .» ويؤكدان: «إن الهدف ليس تشجيع التراجع عن العولمة، بل بناء قوة أكبر. وعندما يكون محتملاً أن تكون المخاطر تدميرية، يجب أن يحل البقاء الشامل محل اعتبارات الكفاءة. وهذا هو السبب، على سبيل المثال، وراء كون المخازن الاحتياطية للاقتصاد الكلي لاسيما متطلبات رأس المال الأعلى في القطاع المالي، مرغوبة .
يجب على البشرية أن تنظم نفسها للتخفيف من المخاطر الهامشية المتطرِّفة
المرتبطة بتغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب البيولوجي، والذكاء الاصطناعي غير المُدار
«ثانياً، يعدّ الطلب على تعاون عالمي أكبر هو الاتجاه السياسي الذي يمكن أن ينشأ من الأزمة الحالية. إذ في حين أن هذا قد يبدو في البداية غير متسق مع الشكوك المتزايدة بشأن العولمة، يمكن للإصلاحات الضرورية التوليف في الواقع بين كلا الاتجاهين. وتعد الوقاية من الجائحة واحتوائها منفعة عامة عالمية، ويتطلب توفيرها المزيد من التنسيق العالمي بالإضافة إلى الفصل التكيفي، والمؤقت، والمنسق .
ويختمان المقال بالقول: «يجب على البشرية أن تنظم نفسها للتخفيف من المخاطر الهامشية المتطرفة المرتبطة بتغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب البيولوجي، والذكاء الاصطناعي غير المُدار. ومع أن هذا سيتطلب قفزة تاريخية، إلا أن الأزمات الكبرى غالباً ما تفتح المجال السياسي لإجراء إصلاحات جذرية. وبالضبط، في وقت تراجعت فيه تعددية الأطراف القائمة على القواعد، ربما يشجع الخوف، والخسائر الناجمة عن كوفيد- 19 ، الجهود المبذولة لتحقيق نموذج أفضل للعولمة .
حرب شاملة
يقول هانز فيرنر سين أستاذ الاقتصاد بجامعة ميونيخ، وهو عضو في المجلس الاستشاري لوزارة الاقتصاد الألمانية في مقاله «العالم في حالة حرب تعد المعركة ضد وباء كوفيد 19 بمنزلة حرب شاملة. يبدو أن الصين قد فازت بالمعركة الأولى. كما حققت هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة واليابان نجاحات ملحوظة في التخفيف من تفشي المرض، وذلك راجع بلا شك إلى تجاربها في التعامل مع وباء السارس 2003 . من ناحية أخرى، استيقظت أوروبا والولايات المتحدة الآن من أوهامهما بأنهما لن تتعرضا للخطر. ونتيجة لذلك، ينتشر الوباء اليوم في جميع أنحاء الغرب
ويرى أنه «على الصعيد العالمي، لم يتم استهداف التدابير للخروج من الأزمة بشكل جيد، والعديد منها لم تكن حاسمة بما فيه الكفاية. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض الحكومات أقنعت نفسها بأنها تستطيع فقط إبطاء انتشار الفيروس، بدلاً من اتخاذ الخطوات اللازمة للقضاء عليه بشكل كامل. وقد كشف الاكتظاظ المتوقع في المستشفيات في العديد من المناطق المتضررة بشدة عن أخطار هذا التهاون .
على الصعيد الاقتصادي من وجهة نظره: «لم يعد من الممكن تجنب الركود الحاد، كما يدعو بعض الاقتصاديين بالفعل الحكومات إلى تنفيذ تدابير لدعم الطلب الكلي. لكن هذه التدابير غير كافية، نظراً إلى أن الاقتصاد العالمي يعاني من أزمة غير مسبوقة في العرض. الناس ليسوا في العمل لأنهم مرضى أو تحت الحجر الصحي. في مثل هذه الحالة، ستؤدي تدابير تحفيز الطلب إلى زيادة التضخم، مما قد يؤدي إلى تضخم الركود )نمو الناتج المحلي الإجمالي الضعيف أو المتراجع جنباً إلى جنب مع ارتفاع الأسعار(، كما حدث خلال أزمة النفط في السبعينيات، عندما كان هناك نقص في مدخلات الإنتاج المهمة الأخرى .
والأسوأ من ذلك في رأي هانز فيرنر سين «أن الإجراءات التي تستهدف جانب الطلب يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية، لأنها ستشجع الاتصال بين الأشخاص، مما يقوض الجهود المبذولة للحد من انتقال الفيروس. ما الفائدة من إعطاء الإيطاليين المال للقيام بالتسوق، في وقت قامت الحكومة بإغلاق المتاجر وبإجبار الجميع على البقاء في المنازل؟ الأمر نفسه ينطبق على دعم السيولة. العالم لديه بالفعل فائض في السيولة، مع أسعار فائدة اسمية قريبة من الصفر أو دونه في كل مكان تقريباً.
ما نحتاجه بالفعل هو اتخاذ تدابير مالية لإنقاذ الشركات
والبنوك من الإفاس، حتى تتمكن من التعافي بسرعة
بمجرد انتهاء الوباء
قد تساعد المزيد من التخفيضات في أسعار الفائدة في المنطقة الحمراء العميقة أسواق الأسهم، ولكنها قد تؤدي أيضاً إلى تشغيل السيولة. وفقاً لعلماء البيئة، يؤدي تراجع الأنشطة الاقتصادية اللازمة إلى انهيار حتمي لأسواق الأسهم، نظراً إلى أن سياسة البنوك المركزية الخاصة بالأموال الرخيصة للغاية والالتزامات المشتركة تسببت في فقاعة غير مستدامة، بسبب استخدام ذخائرها في أوقات غير مناسبة، تتحمل البنوك المركزية المسؤولية عن الفقاعة التي انفجرت اليوم.
ويختم هانز فيرنر سين مقاله بالقول: «إن ما نحتاجه بالفعل هو اتخاذ تدابير مالية لإنقاذ الشركات والبنوك من الإفلاس، حتى تتمكن من التعافي بسرعة بمجرد انتهاء الوباء. على صناع القرار النظر في أشكال مختلفة من الإعفاء الضريبي والضمانات العامة لمساعدة الشركات على الحصول على القروض إذا لزم الأمر. لكن الخيار الفعال يتمثل في السماح بالعمل المؤقت. يعوض هذا النهج الذي تمت تجربته واختباره في ألمانيا عن العمالة الناقصة للقوى العاملة من خلال نفس الوسائل المستخدمة بالفعل للتأمين ضد البطالة. والأهم من ذلك، أنه لا يكلف أي شيء، لأنه يمنع الخسائر التي قد تنجم عن زيادة معدل البطالة الحقيقي. يجب على جميع البلدان تنفيذ هذا الجزء من سياسة ألمانيا لمنع فقدان الوظائف. ولكن الأهم من ذلك، يجب على جميع الحكومات أن تتبع الصين في اتخاذ إجراءات مباشرة ضد وباء كوفيد 19 . لا ينبغي أن يشكل نقص الأموال عائقاً أمام المسؤولين. يجب توسيع وحدات العناية المركزة بالمستشفى؛ وبناء المستشفيات المؤقتة؛ وإنتاج أجهزة التنفس الصناعي ومعدات الحماية والأقنعة بكميات كبيرة وإتاحتها لجميع من يحتاجون إليها. علاوة على ذلك، ينبغي إعطاء سلطات الصحة العامة الموارد والأموال التي تحتاج إليها لتطهير المصانع والأماكن العامة الأخرى. النظافة هي الحل الفعال الوحيد اليوم. إجراء الفحوصات على نطاق واسع للسكان مهم بشكل خاص. ويمكن أن يؤدي تحديد كل حالة إلى إنقاذ حياة عدة أشخاص. إن الاستسلام للوباء ببساطة ليس خياراً
دروس مستفادة من الوباء
كتبت فيديريكا موغيريني التي شغلت سابقاً منصب الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، وكانت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية في مقال لها بعنوان "أنصتوا إلى الوباء": "اليوم، مع انتشار وباء فيروس كورونا إلى مختلف أنحاء العالم، وتعرض أرواح كثيرين منا للخطر، وتزعزع أركان طريقة حياتنا اليومية، يتعين علينا أن نتساءل ما إذا كان هذا النموذج من المرجح أن يظل هو السائد. هل تزداد قوة الوباء؟ هل نتعلم أي دروس منه؟ هل يتحدّى الفيروس بعض الافتراضات التي يقوم عليها المشهد السياسي العالمي الحالي؟ هل يحملنا على التركيز على ما يهم حقاً، على ما يوحدنا كبشر، أو يغذي مشاعر الخوف والارتياب بين المجتمعات وداخلها، فيجعلنا أشد انقساماً ويزيد من مستوى الخطاب السام والسلوكيات السامّة التي أفسدت مجتمعاتنا بالفعل، وشلّت جزئياً قدرتنا الجماعية على التصرف بكفاءة؟ هل نغتنم الفرصة التي تتيحها هذه الأزمة للاعتراف ببعض أخطاء السنوات الأخيرة على حقيقتها، وتعديل مسارنا أخيراً بالاستعانة ببوصلة الواقع؟"
وتوضح موغيريني أن هذا الوباء ينبئنا بوضوح شديد بعدد من الأمور، قائلة: "وإذا كنا راغبين في الإنصات إليه، فهذه بعض الحقائق الشديدة البساطة:
أولاً: المجتمع العالمي موجود. فما يحدث بعيداً يخلف أثراً (بالغ الأهمية) هنا والآن. وعطسة واحدة على إحدى القارات قد تفضي إلى تداعيات مباشرة على قارة أخرى. نحن متَّصلون، نحن واحد. وكل محاولات اعتبار الحدود خطوطاً تقسمنا، وتصنيف الناس حسب الجنسية، أو العِرق، أو النوع الاجتماعي (الذكر والأنثى)، أو المعتقد الديني، كل هذا يفقد معناه على الفور، لأن أجسادنا معرضة بذات القدر للفيروس، أياً كانت الفئة التي ننتمي إليها بمقتضى هذه التصنيفات.
ثانياً: أنا مهتم برفاهة جاري. فإذا كان أي من جيراني يواجه مشكلة، فإنها تصبح مشكلتي أنا أيضاً. وبالتالي، فإذا لم تكن مصلحة جاري تشكِّل لي أي أهمية، فيجدر بي أن أهتم بمصلحتي الشخصية. في عالَم مترابط مثل عالَمنا، تصبح الطريقة الفعّالة الوحيدة لرعاية نفسك هي رعاية الآخرين. أي إن التضامن هو الأنانية الجديدة.
ثالثاً: نحن في احتياج ماس إلى حلول عالمية منسقة، وهذا يتطلب الاستثمار في المنظمات الدولية المتعددة الأطراف. وإذا كنت تظن أنك قادر على الاستجابة بفاعلية لأزمة كهذه بمجرد اتخاذ تدابير وطنية، فأنت بهذا تفعل ما يشار إليه في الثقافة الإيطالية بمحاولة "إفراغ البحر بملعقة": قدر هائل من العمل دون نتائج.
لكي يتسنى لك أن تكون فعّالاً، فأنت في احتياج إلى جهود نظامية منَّسقة على المستوى العالمي، مع الاستعانة بالقدر الكافي من الاستثمارات السياسية والمالية الجماعية في إطار السياق الدولي التعددي اللازم لرصد التطورات، والاستجابة لها، ومنعها من التفاقم. أما إذا عملت على تفكيك مصداقية المنظمات الدولية وقدرتها على العمل، فإن احتمالية عملها بفاعلية تصبح أقل ترجيحاً عندما تحتاج إليها، وأنت من سيدفع الثمن.
رابعاً: القرارات السياسية القائمة على العِلم هي الطريقة العقلانية والمفيدة الوحيدة للتحرك. والدليل هو المرجع الوحيد لدينا الذي يمكننا التعويل عليه. ما يدعو إلى التفاؤل أننا نستثمر في العلوم منذ آلاف السنين في مختلف أنحاء العالم، دون استبعاد أي حضارة، ولأسباب بالغة الحكمة. وأي انحراف عن القرارات القائمة على الأدلة العلمية، بسبب اعتبارات سياسية أو اقتصادية قصيرة الأمد، يشكِّل ببساطة خطورة بالغة.
خامساً: الصحة منفعة عامة. وهي ليست مجرد قضية شخصية. إنها مسألة تتعلق بالأمن الوطني بل وحتى الدولي والرخاء الاقتصادي. وعلى هذا فإنها تستلزم تنفيذ استثمارات عامة كافية ومستدامة، وتتطلب حساً جماعياً بالمسؤولية التي ندعو كل مواطن إلى تحملها. إن تجنب العدوى ليس ضرورة أساسية لإنقاذ حياة الأفراد وحسب، بل يشكل أيضاً مساهمة بالغة الأهمية في بقاء المجتمعات وقدرة خدمات الصحة العامة على أداء مهمتها، وفي النهاية قدرة الدولة على أداء وظيفتها.
سادساً: يحتاج الاقتصاد العالمي إلى البشر لكي يتمكن من صيانة صحته. الاستثمار في الصحة العامة، والعلوم، والبحوث، هو استثمار في الاقتصادات المزدهرة في مختلف أنحاء العالَم. فالإنتاج، والاستهلاك، والتجارة، والخدمات الأساس الذي يقوم عليه نظامنا الاقتصادي كل هذا يحتاج إلى أناس يتمتَّعون بالصحة ويشعرون بالأمان.
هل نغتنم الفرصة التي تتيحهارهذه الأزمة للاعتراف ببعض
أخطاء السنوات الأخيرة على حقيقتها، وتعديل مسارنا أخيراً
بالاستعانة ببوصلة الواقع؟
سابعاً: تشكل المؤسسات الديمقراطية العاملة أهمية بالغة لحياتنا. نحن نتعامل مع العديد من الأمور كَمُسَلَّمات إلى أن ندرك أننا نخاطر بفقدها. والطريقة التي تعمل بها عملية اتخاذ القرار )أو لا تعمل( هي الاختبار المطلق في أوقات الأزمات. وإذا كنا ننظر إلى الديمقراطية على أنها عبء يبطئ أو حتى يعرقل التدابير الفعّالة السريعة، فإننا بهذا نزيد من قوة الحجة لصالح أنظمة حكم أكثر استبدادية، مع كل العواقب السلبية المصاحبة لذلك على حقوقنا وحرياتنا. إن إنجاح عمل المؤسسات الديمقراطية استثمار في صحتنا، وأمننا، وحرياتنا، وحقوقنا.
أخيراً وليس آخراً: لا شيء أغلى ثمناً وأكثر قيمة من الحياة. ونحن ننسى هذا أحياناً، ولاسيما عندما تكون حياتنا هي محل التساؤل. هذا حس سليم وربما حان وقت العودة إلى الأساسيات. وإن كل أزمة يمكن استخدامها كفرصة لتعلم الدروس من أخطاء الماضي، وتعديل السياسات، وتغيير المسار، وإصلاح الأشياء التي لم نكن نعترف حتى بأنها مكسورة. الأمر برمته يتوقف على ما يقرر الأفراد في مختلف أنحاء العالم القيام به، بدءاً بأولئك الذين يتحمَّلون مسؤوليات مؤسسية وسياسية. ولكن في نهاية المطاف، سيكون لزاماً عليناً جميعاً أن نقرر. هل نستغل هذه الأزمة لتحقيق مكاسب فردية قصيرة الأمد، في ظل ممارسة تقديم كباش الفداء المعتادة، أو هل نعتبرها نداء إيقاظ على الواقع؟ هذه ليست مثالية، بل هي واقعية محضة.