لقاحات مشخصنة لمكافحة السرطان
مع التقدّم التكنولوجي واستخدامه في الطب، والنجاح في معالجة عدد من الأمراض، ظهرت أشكال من اللقاحات المشخصنة من شأنها أن تحدث ثورة علمية في عاج السرطان. هل يمكن مكافحة هذا المرض الخبيث حقاً من خال لقاحات خاصة بكل مريض؟
عندما طلب من بيل غيتس أن يكون القيّم الأول في القائمة السنوية لأهم عشر إنجازات تقنية في مجلة «إم آي تي تكنولوجي ريفيو » الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كان الأمر للعاملين في حقل العلوم والتكنولوجيا مهماً، وتعاملوا معه بانتباه. إذ لن يكون لخياراته التأثير العميق في حياتنا فحسب، بل ستركز على الرعاية الصحية والحد من الفقر المدقع أيضاً، وهما الهدفان الأساسيان لمؤسسة بيل ومليندا غيتس.
كان من بين قائمة غيتس المقيّمة بحث في مجال غير معروف نسبياً عن لقاحات السرطان المشخصنة التي تستخدم جهاز المناعة الخاص بالشخص المصاب لمهاجمة الأورام. وهو يعدّ أحد الإنجازات الأكثر إثارة في علم الأورام منذ عقود، إذ تحمل هذه اللقاحات إمكانية توفير العلاج المناسب للمريض المناسب في التوقيت المناسب، بدلاً من استخدام علاج واحد يطبق على جميع المرضى بنفس السوية. وكتب غيتس: «العلماء على وشك تسويق أول لقاح مشخصن مخصص للسرطان. وإذا كان يعمل كما هو مأمول، فإن اللقاح، الذي يحفز جهاز المناعة لدى الشخص لتحديد الورم عن طريق طفراته الفريدة، يمكن أن يبطل عمل العديد من الخلايا السرطانية بشكلٍ فعال».
تعدّ لقاحات السرطان هذه تجربة غير معروفة، لكن احتمال نجاحها سيغير بسرعة من طبيعة علاج السرطان. وإذا كان بالإمكان استخدام نظام المناعة لدى الشخص لهزيمة أنواع كثيرة من السرطانات، فعندها يمكن السيطرة على أحد أكبر القتلة في العالم عن طريق مطابقة العلاجات مع الأفراد المرضى. هذا العلاج سوف يكون مصمماً خصيصاً لتحفيز الجهاز المناعي للتفاعل مع أورام معينة.
وكتب غيتس: «باستخدام الدفاعات الطبيعية للجسم لتدمير الخلايا السرطانية بشكلٍ انتقائي فقط، فإن اللقاح على عكس العلاج الكيميائي التقليدي، يحد من الأضرار التي لحقت بالخلايا السليمة »، مضيفاً: «يمكن للخلايا المناعية المهاجمة أن تكون متيقظة عند اكتشاف أي خلايا سرطانية طائشة بعد العلاج الأولي ». بالنسبة إلى ليليا ديلامار، وهي عالمة متخصصة في علم المناعة لأبحاث السرطان في شركة «جينيتيك » الخاصة بالتكنولوجيا الحيوية في سان فرانسيسكو، فإن هذا الأمر منطقي تماماً. وكتبت في مجلة «ساينتفيك أمريكان « :» على الرغم من أن كل الدماء والعرق والدموع تدخل في تصميم أدوية جديدة، فإن أحد أقوى الأسلحة ضد هذا المرض موجود في أجسامنا. نحن فقط بحاجة إلى الأدوات الصحيحة لإطلاقها».
إلى جانب زميلها، آيرا ميلمان، اقترحت ديلامار لأول مرة لقاحات السرطان المشخصنة على الإدارة العليا للشركة في عام 2012 . كان طلبها بسيطاً: «استخدام نظام مكافحة الأمراض المذهل الذي ورَّثه لنا التطور لمكافحة السرطان بشروط خاصة».
على مدى ملايين السنين من التطور، أصبح نظام المناعة في أجسامنا محسَّناً بشكلٍ رائع لحمايتنا من الأجسام الغازية الغريبة مثل البكتيريا والفيروسات، أو من التغيرات الضارة التي تنشأ في خلايانا مثل السرطان. كتبت ديلامار: «الجهاز المناعي هو الشريك النهائي في مكافحة المرض، لأنه يحتوي على خطوط متعددة من الدفاعات، وقابل للتكيف، ولديه ذاكرة. إن اللقاحات ربما هي أكبر تحول في تاريخ الطب فعالة على وجه التحديد، لأنها تسخّر هذه القوة الفريدة. باستخدام اللقاحات لتدريب الجهاز المناعي للتعرف إلى البروتينات الأجنبية ومهاجمتها )والتي تدعى المضادات( الموجودة في مسببات الأمراض، فقد كافحنا أمراضاً معدية مثل الجدري وشلل الأطفال والحصبة. قد نكون في وضعٍ يسمح لنا باستخدام هذا النهج بفعالية في مكافحة السرطان».
كيف أصبح هذا ممكناً؟ من خلال التحسينات السريعة في التسلسل الجيني وعلوم الكمبيوتر. كلاهما مكَّن الباحثين من تحديد وتوصيف طفرات السرطان (التي تسمى نيوأنتيجينز) في عينات الورم الفردية وبِكُلفة أقل بكثير.
كتبت ديلامار: ينتهز العلماء هذه الفرصة لتطوير لقاحات جديدة للسرطان، مخصصة لكل مريض. تبدأ العملية بتسلسل جينوم سرطان الشخص لتحديد الطفرات الخاصة بالورم والتنبؤ بالمضادات الجديدة. يتم استخدام هذه المعلومات لخلق لقاح جديد فريد من نوعه. نتيجة للتطعيم، يمتلك الجهاز المناعي للمريض القدرة على التعرف إلى الخلايا السرطانية التي تعبر عن تلك المضادات الجديدة المحددة. إنه الشكل النهائي للطب المشخصن.
تتقدم مجموعة من الشركات نحو هذه التجربة الجديدة بما في ذلك «جينيتيك » التي تعاونت مع شركة «بيو إن تك » الألمانية كجزء من صفقة بقيمة 310 ملايين دولار، و «مودرنا ثيرابيوتيكس »، وهي شركة تكنولوجيا حيوية تتخذ من ماساتشوستس مقراً لها، وقد عقدت الأخيرة شراكة مع شركة الأدوية العملاقة «ميرك » وبدأت في إجراء تجارب بشرية.
تركز أبحاث «مودرنا » على عناصر من التعليمات الوراثية تسمى «آر إن أي » أو «إم آر إن أي » التي يقترح استخدامها لتعليم الجسم علاج المرض من تلقاء نفسه.
كانت غليندا كليفر أول شخص يتم تسجيله في دراسة «مودرنا »، وهي من الولايات المتحدة؛ وتنتج برمجيات «مودرنا » قائمة تضم 20 هدفاً من البروتين الخاص بسرطانها. بعد ذلك قام علماؤها بتجميع لبنات الحمض النووي لصنع وصفة لعلاجها، حيث يقوم لقاح «مودرنا » بتعليم الجسم كيفية التعرف إلى أهداف البروتين التي تظهر فقط على الخلايا السرطانية.
وقالت ميليسا مور، التي تترأس أبحاث الحمض النووي الريبي في «مودرنا ثيرابيوتيكس »، لمجلة «وايرد»: «بمجرد فهمك لكيفية الحصول على هذه الأدوية حيث يحتاجون إليها، يمكنك فقط تغيير التسلسل وصنع دواء جديد بسرعة كبيرة. إنه تغير كامل في قدراتنا ».
ومع ذلك، على الرغم من وجود العديد من التحديات، أقلها حقيقة أن التكنولوجيا الخاصة بها لم يُبت بها بعد. كما أن كُلفة إجراء علاج منفصل لكل مريض مرتفعة أيضاً، إلى جانب التحدي المتمثل في جعل العلاجات المصممة خصيصاً منتجاً ذا جدوى اقتصادية، وهي عملية باهظة الثمن. على سبيل المثال استغرق الأمر التعامل مع نحو 100 شخص لإجراء علاج كليفر. على هذا النحو تواجه لقاحات السرطان المشخصنة تحدياً مألوفاً وهو: كيفية إنتاج منتج بسعر رخيص والحصول عليه عند الحاجة على وجه السرعة.
ومع ذلك، إذا تم التعامل مع هذه القضايا وثبت أن لقاحات السرطان المشخصنة فعالة، فإنها ستحدث ثورة في علاج السرطان.
تقول ديلامار: «على عكس أي نوع آخر من الأدوية في التاريخ، يمكن لجميع المرضى الذين تم تشخيصهم بالسرطان الاستفادة من هذه العلاجات المصممة خصيصاً بشكلٍ فردي. بالاقتران مع مثبطات نقطة الفحص أو العلاجات المستهدفة، يمكن أن يكون لها تأثير مذهل في علاج السرطان في المستقبل القريب، وقد تصبح في النهاية العمود الفقري لجميع علاجات السرطان. لقد منحنا التطور أداة لا تصدق لمكافحة الأمراض في شكل أنظمتنا المناعية ». وتضيف: «من خلال تفعيل هذه الأداة، سيكون لدينا إمكانات كبيرة لتدشين عهدٍ جديدٍ في علاج السرطان ».