نحو سياسات التَّميز والتَّفرد المعرفي
أبرز مكامن القوة لدى الدول الثلاث التي تحتل رأس سلَّم المعرفة العالمي
في مقالي السابق، تناولت بالتحليل معدَّلات أداء الدول العشر التي حقَّقت المراتب الأولى عالمياً في كل من مؤشر المعرفة العالمي ودليل الابتكار الدولي في العام ( 2020 ). وحيث إن معظم هذه الدول قد احتلت الصدارة خلال الحقبة الثانية من الألفية الثالثة، فإنهم يمثلون الدول الكبار معرفياً بوجه عام. وبرغم تحسّن أداء مصر المعرفي في عام ( 2020 )، فإنه يكون من المفيد تعرُّف توجهات وسياسات التَّميز والتَّفرد المعرفي لهذه الدول، وتقييم مُجمل إنجازها التنموي، كمرجعية لصياغة رؤية مصر المستقبلية من أجل تحسين وتطوير مؤشرات مصر في هذا المجال.
تُعد سويسرا الدولة الأكثر إنجازاً علمياً وتكنولوجياً ومعرفياً خلال السنوات العشر الأخيرة من الألفية الثالثة؛ إذ إنها احتلت رأس سلَّم أولويات الأداء في كل من مؤشر المعرفة العالمي ودليل الابتكار العالمي في العام ( 2020 )، بل حافظت على الصدارة منذ عام ( 2015 ) بوجه عام. كما كان ترتيبها الدولة رقم (5) عالمياً في تقرير التنافسية الدولي لعام ( 2019 ). وتُفيد نتائج مؤشرات المعرفة والابتكار أن سويسرا قد احتلت المرتبة الأولى عالمياً في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في العام ( 2020 ) بمؤشر المعرفة العالمي.
كما كان ترتيبها الدولة الثالثة في التعليم الفني، والمرتبة الثانية دولياً في مؤشرات البيئات التمكينية الداعمة للمناخ المعرفي، وبالأخص كفاءة وفاعلية الأداء الحكومي. ويُعد بناء رأس المال البشري من أهم منجزات سويسرا، وعلى وجه الخصوص تدريب العاملين بمؤسسات الإنتاج السلعي والخدمي، واستراتيجية التعلُّم المُستمر، وجودة المؤسسات البحثية. وتشير نتائج دليل الابتكار العالمي ( 2020 ) إلى تميّز سويسرا في مدخلات الابتكار باحتلالها المرتبة الثانية في الحفاظ على البيئة، والمرتبة الرابعة في نسبة العمالة المعرفية (Knowledge Labor) إلى قوة العمل الإنتاجية، والترتيب الخامس في التحالفات الاستراتيجية من أجل الابتكار. بيد أن سويسرا حقَّقت أيضاً نقلة نوعية في مجال مخرجات الابتكار، حيث حصدت المكانة الأولى عالمياً في المُخرجات التكنولوجية والمعرفية (المتمثلة في النشر العلمي، ومعدلات الاستشهاد للباحث، وبراءات الاختراع، والإنفاق على البرمجيات). وجاءت في المرتبة الثانية في مجال المخرجات الإبداعية (المتمثلة في الاستثمار في الأصول غير الملموسة، وإنتاج السلع والخدمات الإبداعية، والإبداع الرقمي).
تأتي الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثانية على قائمة التميز المعرفي، حيث احتلت المرتبة الثانية في كل من مؤشر المعرفة العالمي ( 2020 ) وتقرير التنافسية الدولي ( 2019 )، والمرتبة الثالثة بدليل الابتكار العالمي ( 2020 ). ويَعتمد تفرّد الولايات المتحدة الأمريكية على مجالي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتعليم الفني والمهني، التي حصدت بهما المرتبة الأولى عالمياً.
كما حقَّقت المستوى الرابع عالمياً في مجال البحث العلمي والابتكار. وقد نتج هذا الأداء عن تميزها في مجال سياسات التسويق وإدارة الأعمال (إذ حقَّقت المرتبة الأولى في الدليل العالمي لريادة الأعمال)، وأدائها المُتقدِّم لاستيعاب التقنيات المتقدمة بمؤسسات إنتاج السلع والخدمات. وقد حصلت الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى على المرتبة الثانية في دليل الابتكار العالمي فيما يخص سياسات إدارة الأسواق الاقتصادية، وتوفير فرص الاقتراض والاستثمار للمشروعات الابتكارية، والقدرة التنافسية في أسواق التكنولوجيات المتقدمة.
يعود أداء فنلندا المتميز إلى
نجاحها في بناء منظومة
نموذجية للتعليم قبل الجامعي
حقَّقت فنلندا مكانة متقدمة في قائمة التميز والتفرُّد المعرفي، حيث احتلت المرتبة الثالثة في مؤشر المعرفة العالمي، وكانت الدولة رقم ( 7 ) في دليل الابتكار العالمي. ويعود أداؤها المتميز إلى نجاحها في بناء منظومة نموذجية للتعليم قبل الجامعي (احتلت المرتبة الأولى في هذا المجال)، كما نتج عن سياساتها لتطوير التعليم الفني والتقني حصولها على المرتبة الثانية عالمياً بين نحو ( 138 ) دولة مُمَثَّلة بمؤشر المعرفة العالمي.
كما حققت فنلندا المكانة السابعة في مجال البيئات التمكينية الداعمة للإنتاج المعرفي (مثل كفاءة المنظومة المصرفية، والاستقلال القضائي)، والمرتبة التاسعة عالمياً في مؤشرات الاقتصاد الرامية إلى التحول المعرفي )من خ الل الاستخدام الأمثل للتكنولوجيات الحديثة(. ويُفيد دليل الابتكار العالمي بحصول فنلندا على المرتبة الثانية في المؤشر الفرعي لاستدامة البيئة، والمناخ السياسي، وفاعلية الحكومة. كما احتلت المرتبة الرابعة عالمياً في جهودها لبناء رأس المال البشري، والمكانة الأولى في معدلات المشاركة في الأنظمة الرقمية، والدرجة الثامنة دولياً في نسبة العمالة بالشركات الإنتاجية كثيفة المعرفة. ومن أهم منجزات دولة فنلندا احتلالها المرتبة الثالثة عالمياً في قوة العلاقة بين الجامعات والصناعة في مجال البحث العلمي والتطوير. وأخيراً وليس آخراً فإن فنلندا حقَّقت المكانة الأولى في التطبيقات التكنولوجية للمحمول، والمرتبة الثالثة في نماذج الحاسبات والمعلومات في مجال تنظيم الإنتاج.
يتَّضح من التحليل السابق، مكامن القوة ومصادر تميز وتمايز الدول الثلاث التي تحتل رأس سلَّم المعرفة العالمي، وسماتها الخاصة في مجالات العلوم والبحث والتطوير والابتكار، والتقنيات الرقمية، وبناء رأس المال البشري، وتطوير التعليم بمراحله المختلفة، وما تنتجه من سلع وخدمات إبداعية ومخرجات تكنولوجية، في ظل بيئة تمكينية متكاملة داعمة للمناخ المعرفي.