لمحة تاريخية عن محو الأمية في أوروبا

امتداداً لجهودها منذ منتصف القرن العشرين، دأبت منظمة اليونيسكو منذ القرن الحادي والعشرين على تكثيف جهودها المشتركة مع الدول والحكومات عبر العالم بغية وضع الخطط والبرامج ودعم المبادرات الرامية لنشر التعليم ومحو الأمية، لاسيما في الدول النامية والعالم الثالث، ولاسيما في مناطق النزاع والصراعات التي يختلّ فيها النظام التعليمي. في أوروبا، تختلف الحال بعد الوصول إلى محو الأمية الكامل، لكن هذا الإنجاز لم يكن سهلاً، وتداخلت فيه عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية.

بين عامي 1500 و 1800 ميلادية، تحولت معظم المجتمعات الأوروبية بشكل حاسم من التعليم المحدود والمقيد، حيث سادت نسب الأمية العالية، إلى محو الأمية العام. ننظر هنا إلى طيفٍ من المهارات التي شكّلت التعلم الحديث في مرحلته المبكرة، والتغيرات المرتبطة بالانتشار الاجتماعي والجغرافي في بداية تشكل أوروبا الحديثة. ولا يمكن النظر إلى تلك اللحظة الحاسمة من دون التفكير بالتغير الحاصل في القطاعات الاقتصادية والدينية والثقافية، التي أدت بدورها إلى تطور أوروبا مطلع القرن التاسع عشر. وعند التطرق إلى المسار التاريخي الذي اتخذته عملية محو الأمية في المجتمع الأوروبي، لا نكتفي هنا بذكر القراءة والكتابة والحساب )كمهارات أساسية(، وإنما لا بد أن يمتد ذلك إلى عمليات التواصل التي شملت عوالم الثقافة المتنوعة بفروعها الشفاهية، السمعية والبصرية.

مسيرة محو الأمية في أوروبا الحديثة

في الفترة الممتدة بين عصر النهضة وعصر الرومانسية، مرت أوروبا بالإرهاصات الأولى للتحول العميق من الأمية السائدة إلى محو الأمية التام. في القرن السادس عشر، كانت القراءة والكتابة حكراً على قلّة من الناس، لكن بحدود مطلع القرن التاسع عشر، كانت غالبية البالغين في شمال غرب أوروبا متعلمين، متمتعين بالكمّ غير المسبوق من «النعم » الناتجة عن الطباعة والكتابة.

في الفترة الممتدة بين عصر النهضة وعصر الرومانسية، مرت
أوروبا بالإرهاصات الأولى للتحول العميق من الأمية السائدة إلى محو الأمية التام.

تشكلت بداية هذا التعلم الحديث بعدد متنوع من المهارات، يمكن ملاحظتها في روابط ووشائج العملية التواصلية بشكل أفضل من النظر إليها متموضعة ضمن أطر جامدة وصلبة. تمكن البعض من فك تشفير النصوص، وقراءتها بصوت عالٍ وحفظها حتى وإن كان ثمة تساؤلات وشكوك حول فهمهم الشخصي لتلك النصوص. كانوا يمتلكون تعلّماً متوسطاً، أو ما يمكن وصفه ب «محو أمية جزئي » أو «نصف تعلّم ». بينما تمكن أولئك الذين يمتلكون تعليماً أفضل، والمنغمسون في الثقافة المكتوبة والمطبوعة من استيعاب النص بإدراك أعمق، ما مكَّنهم من القراءة الغنية التي تطرح الأسئلة. بكل الأحوال، لم تكن «القراءة » محصورة على الكلمات المكتوبة أو المطبوعة وحدها؛ فقد تمكَّن الناس من جمع المعلومات والأفكار من النظر والملاحظة: تأويل اللوحات والتصاوير في الكراسات أو مشاهدة المسرحيات والمشاركة بها.

لو أرادوا نقل أفكارهم بطريقة تتعدى الطريقة الكلامية، كان عليهم إجادة الكتابة، أو التأليف – كتقنية متقدمة تتطلب قدراً معتبراً من الدأب والدربة، مما كان يعني بالضرورة تعلماً «كاملاً » لمعظم الناس. أما المستوى الآخر، الأكثر شيوعاً، من الكتابة فكان النسخ: الكتابة التي لا تتطلب، بالضرورة، الفهم.

في القرن السابع عشر، بات الحساب معادلاً للمنطق، وفق ما ورد لدى المفكر الإنجليزي توماس هوبز ( 1679-1588 ) والفيلسوف الإسكتلندي المرموق ديفيد هيوم ( 1711 - 1776 ) الذي أشار إلى «التفكير المجرد المتعلق بالكمية والعدد ». أما التدريب المهني الجديد في القرن الثامن عشر، في قطاعات الأعمال والتجارة والقوات المسلحة فقد تضمن عناصر ومكونات أساسية من الرياضيات، ما أسهم في زيادة التعامل مع الأرقام ودقة استخدامها.

وضمن هذا الإطار، كان باستطاعة أقلية صغيرة من الناس النسخ أو التأليف باللاتينية، التي كانت تعدّ اللغة العالمية للتعلم خلال العصور الوسطى وبداية العصر الحديث في أوروبا، أو بلغة أوروبية أخرى كالفرنسية، مما وفّر لهم تعليماً «كاملاً ». أما أولئك الذين لم يمتكلوا تلك المهارات، فلم يكونوا معزولين ثقافياً، إذ كانوا ينصتون للمواعظ الدينية أو لقراءات جماعية ونقاشات تشاركية.

يمكن القول إن «محو الأمية » مفهوم نسبي، لا يمكن إدراك معناه إلا ضمن سياقات اقتصادية وثقافية محددة، إلا أن المؤرخين يميلون للاعتماد على مؤشرات عالمية ومعيارية ومباشرة؛ مثل القدرة على توقيع الشخص وكتابة اسمه على وثيقة. عبر تطبيق هذا الإجراء، يبدو جلياً أن ثمة تمييزات اجتماعية لصالح أولئك الذين يمتلكون القدرة على استخدام الكتابة كأداة خلال المراحل الأولى من التاريخ الحديث.

ديناميكيات التعلم

خلال عصر الإصلاح في أوروبا، كانت الأمية سائدة والتعلّم محدوداً. في نهاية العصور الوسطى، لم تكن نسبة الرجال الذين يجيدون الكتابة تتجاوز 10 في المائة، أما الغالبية العظمى من النساء فلم يجدن تلك المهارة. وحتى القرن الثامن عشر، كانت نسبة التعلم كبيرة لصالح الرجال على حساب النساء. لكن بشكل إجمالي، تخطت معدلات التعلم في لندن وباريس منتصف القرن الثامن عشر نسبة 90 في المائة، وهي بذلك قد سبقت بقية المدن الكبرى التي لن تحقق هذه المعدلات إلا بحدود نهاية القرن الثامن عشر.

في شرقي وجنوبي أوروبا، كان المتعلمون هم سكان المدن وأصحاب القرى والأراضي. هذا العامل المتلخص في التركيز الحضري يوضح سبب ارتفاع نسبة التعلم في المجتمع المديني في الأراضي المنخفضة )هولندا( مقارنة بمجتمع قروي مثل جنوبي إسبانيا، حيث كانت الأمية لا تزال منتشرة بسبب كون معظم السكان هناك من العمال والمزارعين الفقراء. أما في المدن الأساسية في إيطاليا، فقد كان التدريس متوافراً بمعدلات عالية خلال عصر النهضة، وظهر ذلك جلياً لدى الحرفيين والتجار.

لم يتلقَّ الأطفال المنتمون لطبقات اجتماعية دنيا،
الذين شكلوا بين 50 و 90 في المائة من تعداد السكان
في أوروبا، أكثر من 3 إلى 4 سنوات من التعليم.

اللغة ومحو الأمية

كان معدل التغيير بطيئاً في جنوب وشرق أوروبا مقارنة بما كانت عليه الحال في شمال غرب القارة. حيث ارتفعت نسبة محو الأمية، ما يعني وجود خيارات أكبر للتواصل. لم تكن خيارات «ماذا » تكتب أو تقرأ معتمدة على امتلاك مهارات «فكّ الخط » ومعرفة الحروف فحسب، وإنما على اللغة (أو اللغات) التي كان يعرفها الناس. وصولاً للنصف الثاني من القرن السابع عشر، كانت غالبية الكتب مطبوعة باللاتينية التي لم يكن يجيدها سوى نسبة ضئيلة لا تتعدى 2 في المائة من السكان. لكن خلال القرن الثامن عشر حلت اللغة الفرنسية، كتابة وقراءة وتحدثاً، محل اللاتينية؛ وذلك لأسباب ثقافية وفكرية. أصبحت الفرنسية اللغة المفضلة في حقلَي الدبلوماسية والتبادل الدولي للأفكار. تحدث أرستقراطيو أوروبا الشرقية في القرن الثامن عشر الفرنسية وكتبوا بها خلال المراحل المبكرة من العصر الحديث، حتى على الرغم من أن السلافونية الكنسية كانت اللغة الأكثر شيوعاً واستخداماً في روسيا. حينذاك، كانت ثنائية «المتعلم بمواجهة العامّي » إحدى المتعارضات اللغوية في بداية العصر الحديث في أوروبا.

القراءة كفعل تواصلي

أولت معظم الأبحاث التي درست تاريخ محو الأمية في أوروبا الحديثة اهتماماً كبيراً وتركيزاً مكثفاً بشأن القدرة على الكتابة. لكن محو الأمية هو في الأساس «وقبل كل شيء، تقنية أو مجموعة من تقنيات التواصل لاستيعاب وإعادة إنتاج المادة المكتوبة أو المطبوعة .» كما أن ثمة أسباباً عديدة للاعتقاد أن القراءة كانت المهارة الأوسع انتشاراً.

لم يتلقَّ الأطفال المنتمون لطبقات اجتماعية دنيا، الذين شكلوا بين 50 و 90 في المائة من تعداد السكان في أوروبا، أكثر من 3 إلى 4 سنوات من التعليم، هذا في حال تلقيهم التعليم المدرسي أصلاً. ما يعني أنهم تعلموا القراءة فقط. بالنسبة للبالغين، كان للقراءة قيمة دينية أكثر من الكتابة، التي كانت دون شك أساسية في الحياة اليومية. لذا، كان من الشائع خلال القرن الثامن عشر في بلدان كإيطاليا وفرنسا وجود امرأتين أو ثلاثة نساء يجدن القراءة مقابل امرأة تجيد الكتابة. كانت الكنائس التي ركزت على تلك المهارة الأساسية تحقق نجاحاً أوسع وأسرع من تلك التي حاولت نشر التعليم. وكما هو معروف، حققت الحملة اللوثرية للتعليم الديني في الدول الإسكندنافية نتائج باهرة. وبالتالي، ففي منتصف القرن السابع عشر كان ثلث البالغين قادرين على اجتياز امتحان الكنيسة بالقراءة، لكن بعد قرن واحد، كان أربعة من كل خمسة رجال ونساء قادرين على قراءة النصوص الدينية.

ما بعد عام 1800

شهد القرنان الماضيان صراعاً كبيراً بين القوى الدينية والدنيوية للسيطرة على مصادر التعليم الأساسية في أوروبا. يمكن القول إن «الدولة » حققت انتصاراً وهي المسؤولة الآن عن تنظيم شأن التعليم، حتى وإن لم تكن في الأساس السبب الرئيس في التحول من التعلم المحدود إلى محو الأمية العام. يمكن الجزم أن فهم عملية محو الأمية الأوروبية مستحيل من دون تقدير دور القوى الاجتماعية، الثقافية، الفكرية والسياسية التي عززت تطورها التاريخي. تطلب الأمر الوصول إلى أواخر القرن التاسع عشر ليصبح الذهاب إلى المدرسة جزءاً أساسياً من العملية التعليمية للأطفال البريطانيين، وليتحقق الأمر ذاته في دول شرقي وجنوبي أوروبا بحدود عام 1945 .

معدلات متباينة في القرن 20

في عام 1900 ، كانت أوروبا مقسمة بين شمال بروتستانتي متعلم ومتطور اقتصادياً، ومنطقة وسطى بتقسيمات مناطقية واضحة وجنوب أقل تعليماً مثل إيطاليا. يظهر هذا التغير البطيء والوصول المتأخر لمحو الأمية في أوضح صوره في البرتغال؛ فبين السكان ممن هم بعمر السابعة في 1890 ، كان 76 % منهم أميين، انخفض المعدل إلى 74 في المائة عام 1900 ، وإلى 70 في المائة عام 1911 . حتى عام 1930 بقي المعدل بحدود 68 في المائة. أما خلال الأربعينيات كان نصف سكان البرتغال يجيدون القراءة والكتابة؛ بعد قرن تقريباً من بلوغ إنجلترا، وقرن ونصف من وصول شمال غرب ألمانيا للنسبة عينها. يتوجب النظر إلى الانقسامات التي واكبت تلك التطورات الحديثة في قطاع التعليم ومسيرة محو الأمية في أوروبا التي كانت وصلت إلى حالة من محو الأمية العامة في عام 1800 . من أوجه هذه الانقسامات أنه حتى عام 1921 ، كانت نسبة 30 في المائة من سكان فنلندا عاجزين عن القراءة والكتابة، وهي نسبة متأخرة عما كانت عليه إيطاليا في الفترة ذاتها، وهنا أيضاً يبدو دور التخطيط والتنمية والاستثمار في التعليم لتحقيق قفزات نحو الوصول لمحو الأمية الكامل.

 

*د. روبرت هوتسن: أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سانت أندروز في إسكتلندا.

- المصدر: ترجمة مختصرة بتصرّف عن المادة الأصلية في موقع www.brewminate.com