في خضم ثورةٍ تكنولوجية الأمّيّة آفة تنهش جسد الوطن العربي
وصل العالم إلى الألفية الثالثة مع ثورة تكنولوجية وثقافية حوَّلت العالم إلى قرية صغيرة مترامية الأطراف يعلم من في شرقها ما يحدث في غربها، ورغم سهولة الوصول إلى المعلومة مقارنةً مع العقود والقرون الماضية، إلا أن آفة «الأميَّة » لا تزال تنهش في جسد العديد من المجتمعات حول العالم، وفي مقدمتها الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث.
مع أنّ للأميّة توصيفاً عاماً وهو «عدم قدرة الإنسان على القيام بالعديد من المهارات الخاصة بالقراءة والكتابة، والتي تمكّنه من ممارسة الكثير من المجالات الحياتيّة التي تعتمد على القراءة والكتابة »، إلا أنه في الوقت ذاته ثمةَ أنواع وأشكال مختلفة للأميّة، وهي الأُميّة الهجائيّة، أي عدم قدرة الشخص على معرفة الحروف الأبجديّة والهجائيّة للغة الخاصة به؛ الأُميّة الوظيفيّة وهي عدم قدرة الشخص على فهم المبادئ والأساسيّات الخاصّة بطبيعة العمل والوظيفة التي يشغلها؛ الأُميّة المعلوماتيّة تعني عدم قدرة الشخص على الحصول على المعلومات المختلفة والمتنوعة، والتي يحتاج إليها في العديد من مجالات حياته؛ الأمية الثقافيّة، أي عدم وجود الثقافة اللازمة لدى الشخص، وعدم قدرته على تثقيف نفسه في العديد من الموضوعات التي تجعل منه شخصاً مثقفاً وواعياً. وأيضاً الأُميّة العلمية، وهي عدم قدرة الشخص على الحصول على المستوى التعليميّ المطلوب، والشهادات العلمية المختلفة، التي تجعل منه شخصاً متعلّماً، وكذلك الأُميّة البيئيّة، وهي جهل الشخص بكلّ ما يتعلق بالبيئة التي يعيش فيها، وعدم قدرته على التفاعل والمحافظة عليها، وغيرها.
تتعدَّد أسباب وعوامل انتشار ظاهرة الأميّة، سواء في العالم العربي أو غيره، منها أسباب اجتماعية، وتشمل على سبيل المثال غيابَ المدارس وعدم التشجيع على التعلّم في البيئة الأسرية، وأخرى شخصية، ومنها صعوبات التعلم وعدم تمييز اللغة المكتوبة، وغالباً ما تكون بيئة الشخص نفسها السبب الرئيس في الأميّة، خصوصاً إذا كان الشخص محروماً من الوالدين، وبالتالي من التعليم المدرسي، إلا أن هناك أسباباً أخرى لانتشار هذه الظاهرة، والتي تُعد الأكثر شيوعاً.
ومن أهم هذه الأسباب افتقاد بعض الآباء والأمهات إلى القدر الكافي من التعليم، إلى جانب قلة الكتب في المنزل وعدم وجود التحفيز والتشجيع فيما يتعلق بأهمية القراءة، وكذلك الأداء السيئ في المدرسة أو التسرب منها، فضلاً عن الظروف المعيشية الصعبة التي قد يواجهها الكثيرون، بما في ذلك الفقر المدقع، ناهيك عن صعوبات التعلم عند البعض، مثل عسر القراءة وما شابه، فيما يعزو العديد من المحللين استمرار ظاهرة الأمية في الدول العربية لمعوقات كثيرة؛ بينها: غياب إرادة سياسية حقيقية في مكافحتها، وتخصيص ميزانية محدودة لقطاع التعليم، وعدم تدريب القائمين عليه أو تجديد المناهج الدراسية حتى تتماشى ومتطلبات سوق العمل، إضافة إلى تدني الرغبة في التعلم وانتشار الفقر، خصوصاً في المناطق الريفية.
أرقامٌ مرعبة
وفقاً لأحدث إحصاءات منظمة الأمم المتحدة، فإن «عدد الأميين البالغين حول العالم بلغ 800 مليون شخص »، وأشارت إلى أن «نحو 260 مليون طفل لا يذهبون إلى المدارس ». أما عربياً، فأفادت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو » في تقرير نشرته عام 2018 ، بأن 74« مليون عربي مازالوا أميين، غالبيتهم من الإناث، أي ما نسبته أكثر من 21 % من إجمالي سكان العالم العربي الذي يفوق تعداده 360 مليون نسمة، أي ما يعادل 10 % من عدد الأميين في العالم »، وأردفت المنظمة أن «نسبة الأمية بين الإناث في العالم العربي تساوي ضعفها عند الذكور الذين تصل نسبة الأميين بينهم إلى %25 ، في حين كان نصيب الإناث منها 46%.»
الأميّة المقنّعة
لا تقتصر المشكلة على الأعداد الكبيرة للأميين في العالم العربي، فإلى جانب هؤلاء، تُقدَّر نسبة «الأميين المقنعين »، أو الذين لا يمكنهم كتابة خطابات جادّة دون مساعدة، بحوالي 20 مليون شخص، أما على مستوى الأطفال، فتشير الإحصاءات إلى أن ما بين 7 و 20 % من الأطفال الملتحقين بالمدارس، يتسربون منها خلال المرحلة الدراسية الأولى، فيما بلغت هذه النسبة 30 % في بعض الدول العربية، ما يُنذر بأن محو الأميّة في العالم العربي قد لا يتحقق قبل حلول عام 2050 .
فجوة كبيرة
دفعت هذه الأرقام المخيبة للآمال منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو » إلى تصنيف المنطقة العربية بأنها «أضعف مناطق العالم في مكافحة الأميّة »، مشيرةً إلى «وجود فجوة كبيرة بين متوسط الأميّة العربي والعالمي، وأن هذه الفجوة مرشحة للاتساع نظراً لسوء الأوضاع التعليمية في عدد من الدول التي تعيش حروباً وأزمات »، لافتةً إلى أن «هذه الحروب حرمت أكثر من 13 مليون طفل عربي من التعليم» .
74 مليون عربي مازالوا أميين،
غالبيتهم من الإناث، أي ما نسبته
أكثر من 21 % من إجمالي سكان
العالم العربي.
«اليونسكو » صنّفت المنطقة
العربية بأنها «أضعف مناطق
العالم في مكافحة الأميّة.
وفي إطار التزامِ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو » بمشاريع محو الأمية وتعليم الكبار، وتيسيراً لانفتاح الباحث العربي على الأبحاث والدراسات الصّادرة بلغات أجنبية في هذا المجال، وتنفيذاً للمَنهجية الخاصّة بتوحيد المصطلحات العلمية، أصدرت الألكسو وجهازُها المختص مكتب تنسيق التعريب في « 2017 المُعجم المُوحّد لمُصطلحات محو الأمية وتعليم الكبار ». وقد عملت المنظمة وتعمل منذ إنشائها على وضع البرامج الطموحة لمحاربة الأميّة، وتجديد الدعوة للدول العربيّة من أجل فتح مساقات وبرامج جديدة لتعليم الكبار، بما يحقق الأهداف الاستراتيجية للتنمية المستدامة في أفق 2030 .
إحصائيات عربية متباينة
يختلف واقع الأميّة من بلدٍ عربي لآخر، كما تختلف نسب وأعداد الأميين فيما بينها إلى حدٍّ كبير، حيث نجحت بعض الدول العربية في التقليص من نسبة الأميّة بين مواطنيها ممن تجاوزوا سن الخامسة عشرة، وفق إحصاءات نُشرت عام 2018 ، وفي مقدمتها الأردن الذي تمكن من تقليص هذه النسبة إلى 1.8 % فقط، ثم البحرين 2.5 %، فلسطين 2.8 %، الكويت 2.9 %، عُمان 4.3 %، المملكة العربية السعودية 4.7 %، لبنان 4.9 % وقطر 6.5 %، فيما لا تزال هذه النسب مرتفعةً في دول أخرى، مثل الجزائر 18.6 %، تونس 20.0 %، المغرب 26.2 %، مصر 28.8 %، السودان 39.3 %، جزر القمر 41.2 %، موريتانيا 46.5 % والعراق %49.9 ، في حين لم تكن هناك إحصائيات متوافرة حول هذه النسب في الدول الأخرى.
أفكار وحلول
لا شكَّ في أن هذه النسب والأرقام المرعبة تُسلط الضوء على الأهمية البالغة لبرامج محو الأميّة، فهذه الآفة تهدد بنيان المجتمعات على كافة الصعد، فضلاً عن الأفكار الهدّامة التي تتمخض عنها، وتفضي إلى أنماط سيئة وخطيرة من السلوك، وهنا يجب إيلاء الاهتمام بكبار السن الذين لم يلتحقوا بالمدارس نهائياً، فضلاً عن الشباب الذين واجهوا انتكاسات خلال مسيرتهم التعليمية لأسباب متعددة، وكذلك معالجة الإهمال والتسرب الدراسي، وذلك بإلزام أي شخص بلغ السن الدراسية بالانتساب إلى المدرسة والالتزام بها، فضلاً عن تخفيف الأعباء المادية والتكاليف الدراسية عن كاهل بعض الأسر، ولاسيما التي لا تستطيع تحمل التكاليف.
كما أنه من الممكن إلزام كل طالب جامعي أن يتكفَّل بتعليم عدد من الأشخاص، وأن يكون هذا شرطاً لتخرجه، بحيث يقوم بتعليمهم القراءة والكتابة، على أن يبدأ هذا الإلزام من بداية حياته الجامعية كمشروع لتخرجه يؤديه في أي وقت قبل التخرج، ويمكن أيضاً الاستعانة ببعض المؤسسات الحكومية، وغيرها الكثير من الأساليب والوسائل التي من شأنها استئصال آفة الأميّة من مجتمعات العالم العربي، وبثِّ الأفكار النيِّرة فيها.
تحتاج عملية محو الأمية في عالمنا العربي إلى تضافر الجهود بين الأفراد والمؤسسات والحكومات للقضاء على هذه الآفة الخطيرة التي لم تعد تقتصر على الشخص الأمي، بل يؤثر على طريقة عيشه مع محيطه الاجتماعي، وحاجته إلى التنسيق مع غيره عبر الكتابة والقراءة والتواصل عبر الوسائل الرقمية الحديثة.