العربية لغةً للبرمجة واقع أم خيال؟
نجاح مبادرة «بالعربي » دفعنا للبحث في قدرتها على اقتحام عالم التقنية
«شاركتُ بمسابقة بالعربي ولم يحالفني الفوز، إلا أني لم أحزن، فالمعرفة التي اكتسبتها أهم من الجائزة ». هذا هو فحوى ما علَّق به أحد المتابعين لإحدى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بمبادرة بالعربي. وهي تفصح عن مدى ما حققته تلك المبادرة من فائدة جذبت أبناء لغة الضاد إلى لغتهم، وأعادت ارتباطهم بها، لتكون بطلة المشهد على منصات التواصل، تعيد لأبنائها صلتهم بها، ليلتئم الشمل بين الأسرة الواحدة، التي تباعد أفرادها عن بعضهم في زحام اللغات واللهجات المتباينة. فكانت بحق بادرة وفاء للعربية التي كانت لغة العلوم، وتربَّعت على عرش المعرفة قروناً من الزمان الغابر.
نبعت مبادرة بالعربي من قلوب شبابية مفعمة بحب لغتها، سعت من خلالها إلى أن يكون لهذه اللغة الرائعة موطئ قدم عند أبنائها الذين تخلَّى الكثير منهم عنها، وغفلوا عن جمالياتها وأسرارها. فما كان من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة إلا أن تبنَّت هذه الجهود الطيبة، ووضعت هذه قائمة أعمالها لخدمة لغتنا العربية، واستعادة بريقها وألقها على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من منطلق أهدافها التي تسعى من خلالها إلى دعم الجهود والطاقات المبذولة في خدمة المعرفة وفضاءاتها، لتغدو من المبادرات الرائدة على مواقع التواصل الاجتماعي.
مطالبات مبالغ فيها!
هذا الانتشار والثمار التي أثمرت عنها المبادرة، والصدى الإيجابي الكبير الذي بعثته في نفوس أبناء لغة الضاد، والتفاعلات التي حظيت بها في الوسط الافتراضي، بما احتوته من جماليات أدبية وفوائد لغوية عكست المخزون البلاغي والتعبيري الرائع، المنثور في كتب اللغة والأدب والنحو والمعاني، التي زخرت بها المكتبة العربية منذ عصور وحتى وقتنا الحالي... كل ذلك دفعنا نحو وسائل التواصل ومنتديات الفضاء الافتراضي، التي طرحت سؤالاً مفاده: هل يمكن للغة العربية أن تصبح واحدة من لغات البرمجة العالمية، وأن يكون لها موطئ قدم أمام الكم الهائل من هذه اللغات التي سيطرت على علم البرمجيات؟
لم تفتأ مواقع التواصل الافتراضي تطرح هذا السؤال بين الفينة والأخرى، إذ إن الدعوات المتواترة التي تحث على العودة إلى اللغة العربية والاهتمام بها، تزايدت حتى بلغ بها المطاف أن طالت لغات البرمجة... مطالبات أبدى الكثير من المتابعين الاهتمام بها وأيدوها، والكثير منهم وجد أنها لا تعدو أن تكون أحلام يقظة ومبالغات لا مكان لها في زحمة التطور الهائل الذي وصلت إليه تكنولوجيا البرمجة الحديثة. بل قال بعضهم إنها هلوسات لا يمكن لها أنت تتحقق أبداً في عصر الانفجار التقني والتكنولوجي المعتمد على لغات البرمجة الحديثة.
أعادت «بالعربي » صلة العرب
بلغتهم ولمَّت شمل الأسرة
الواحدة التي تباعد أفرادها في
زحام اللغات واللهجات المتباينة
لغات برمجة محلية
يقول بعض المعارضين: ما الجدوى أصلاً من وجود لغة برمجة عربية؟ ». فيجيبه الآخر بأن هذا سؤال غريب، والأغرب من ذلك أننا بدون هوية في زمن المعلوماتية؛ فلماذا يستخدم جميع الناس في العالم لغات برمجة معروفة ونحاول نحن أن نكون مختلفين منعزلين؟ كنت أظن أنه لا توجد لغات برمجة بأي لغة أخرى سوى الإنجليزية، لكن تبين لي بعد البحث عن أن هناك لغات برمجة صينية، كورية، إسبانية، ألمانية، روسية… فلماذا يستطيع هؤلاء جميعاً إنشاء أدوات برمجة بلغاتهم ولا نتمكن نحن من إنشاء لغة برمجة عربية؟
لم يرتضِ الكثير من روّاد التواصل الاجتماعي هذه المطالبات، إذ رأوا أنها مجرد عبارات مجردة من مقومات النجاح، وهي نابعة من منطلق إنشائي بحت، أساسه تلك النداءات بعودة اللغة العربية إلى سابق مجدها وتربعها على عرش اللغات الأخرى. وحتى اللغات التي تم العمل عليها في البرمجة كانت مجرد تمسك بالعصبية. بينما العلم عالمي المصدر والمنبع، وحتى عروبتنا وديننا الإسلامي العالمي يدفعنا إلى طلب العلم أينما كان، والتماس المعرفة في مظانها دون التعصب للغة. فالغاية المنشودة هي الوصول إلى المعارف. وقد جانب الصواب من تقوقع على نفسه بحجة أنه لا يبتغي بديلاً عن لغته. وكثير من الأمم بقيت غارقة في غياهب الجهل والتخلف بسبب عدم انفتاحها على معارف الدول المتقدمة.
أهمية اللغات الأخرى
قد يقال: لقد نجحت مبادرة بالعربي في إعادة اللغة العربية إلى حياتنا اليومية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، بيد أنها لا تدعو بحال إلى مجافاة اللغات الأخرى. بل إن حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية هي السبيل إلى أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا أن نبدأ من المهد ثم نريد أن نبني بنياناً آخر، في الوقت أضحى التطور يحسب بالثواني لا بالأيام فضلاً عن السنين.
يقول المعارضون مرة أخرى: إنّ الساحة الآن مليئة بلغات البرمجة ومع ذلك فاللغات المسيطرة معدودة على الأصابع. ولا فائدة مرجوة من لغة برمجة عربية جديدة. كما أنّ تعلم لغة أخرى قوية في إنشاء تطبيقات عربية متطورة تخدم المجتمع أكثر فائدة من عمل لغة برمجة عربية. فيرد المؤيدون بأنّ إنتاج لغة برمجة ستعمق معرفتنا بالبرمجة أكثر من تعلمنا البرمجة في أي لغة. كم أنّ الشعور بالنقص، سيؤدي إلى قتل الأفكار قبل تطبيقها. محتجين بمقولة أن مسافة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى.
تجربة لغات البرمجة العربية
يقول أحد المبرمجين المطالبين بلغة برمجة عربية: لقد بدأ العرب في تصوّر وجود لغة برمجة منذ الأيام الأولى لظهور الحاسب الآلي، وبالفعل عملوا على إيجاد بعضها، منها غريب ( 1978 )، خوارزمي ( 1978 )، باسكال العربي 1988 ، ولغة زاي ( 1998 )، لغة جيم ( 2001 )... وغيرها. كانت بعض هذه اللغات موجهة إلى نوع واحد من الحواسيب قبل حقبة الحواسيب الشخصية ل آي.بي.إم IBM-PC Clone . ، ثم تطورت لتصبح ترجمة ومحاكاة للغات برمجة عالمية معروفة مثل باسكال Pascal وكوبول COBOL وبيسك 8، BASIC . وأخيراً: لغة )ألف(، وهي لغة برمجة عربية مفتوحة المصدر عالية المستوى من الجيل الثالث، صممت سنة 2018 ، وهي لغة برمجة تعليمية الأهداف، حيث توفر للطلبة الناطقين بالعربية أرضية سهلة لتعلم أسس البرمجة باللغة العربية، كما تم تطويرها في العام 2020 .
يرى مبرمجون أن الساحة مليئة بلغات البرمجة
ومع ذلك فاللغات المسيطرة معدودة على
الأصابع ولا فائدة مرجوة من لغة برمجة
عربية جديدة
أجل -يجيب مبرمج احترف أحدث اللغات البرمجية العالمية المتطورة- لكن لغة من هذه اللغات المحلية تُستخدَم في الصناعة البرمجية أو حتى الاستخدامات الأكاديمية؟ الغالبية العظمى من لغات الحاسب التي لا تعتمد على اللغة الإنجليزية هي لغات محدودة الجمهور طُوِّرت في الغالب كمشروع هواية أو كمشروع تخرج وانتهى استخدامها عند هذه النقطة. واللغة العربية ليست مستثناة من هذه الظاهرة. هناك عدة لغات برمجة عربية، وبعضها طوَّرته شركات ضخمة مثل شركة صخر، ولكن استخدامها الاحترافي يمكنني أن أقول إنه منعدم.
السبب ليس ضعفاً في اللغة العربية أو حتى ضعفاً من المجتمع البرمجي العربي. السبب هو أنه، شئنا أم أبينا، اللغة الأم لتقنية المعلومات هي اللغة الإنجليزية. انظر إلى مطوري اللغات وأنظمة التشغيل الناجحة وستجد أشخاصاً من جميع أنحاء المعمورة ومن ثقافات ولغات مختلفة، ولكنهم جميعاً وجَّهوا منتجاتهم باللغة الإنجليزية. السبب هو أنه لينجح أي منتج متقدم موجَّه إلى فئة المطوِّرين فالنقطة الأهم ليست فاعلية المنتج كما قد يعتقد البعض، بل حجم الجمهور الذي يستخدم هذا المنتج. وبما أن الغالبية العظمى من هذا الجمهور يتواصل عن طريق اللغة الإنجليزية فمن المنطقي استهدافها.
طريق طويل
في هذا المقام، يضيء أحد المشاركين في تلك القضية على ناحية مهمة، يجب أن يراعيها العرب في رحلتهم نحو التطوير، وأن يسلكها المبرمجون العرب في أبحاثهم البرمجية باللغة العربية، وهي ألّ تكون إسهاماتهم في البرمجة باللغة العربية مدفوعة من ردة فعل عاطفية ترغب بأن يكون للغة العربية موطئ قدم في عالم اللغات البرمجية، دون النظر إلى السنين والأعمار التي أمضاها مؤسسو علم البرمجة حتى وصلت لما هي عليه الآن من التطور والازدهار. فلغات البرمجة الناجحة ليست وليدة الصدفة أو التجربة المنقطعة، اللغات الناجحة أنشأها أصحابها لغرض معين، وانتشرت لحاجة الناس إليها، ومرَّت بمراحل عدة حتى وصلت للشعبية التي هي عليها، بعد أن تقبلت وتضمنت تحسينات بناءً على حاجة مستخدميها. هناك لغات برمجة عربية، ولكن ما الذي تريده من تطوير تلك اللغات؟! هل تريد تعلم كيفية تصميم لغة مثلاً؟ شيء رائع، ولكن إذا أردت لغة تستخدم ولا يستطيع المبرمجون العيش بدونها فعليك أن تطوِّرها على مدى عشر سنين على الأقل لكي تلبي الاحتياجات الرئيسة وتتلافى النواقص. لكن الواقع ينطق بغير ذلك؛ فلغات البرمجة العربية للأسف تنشأ لغير هدف وهو ما يجعلها غير قابلة للتطور والاستمرار وتبقى حبيسة الأدراج.
يضيف صديقنا المبرمج: أنا لا أعارض تطوير لغة برمجة عربية؛ فتطوير أي لغة برمجة مهما كانت اللغة البشرية التي تستند إليها؛ وهي مهارة ممتازة وخبرة من الجميل جداً الحصول عليها؛ لكن هل سأطور هذه اللغة باستمرار؟ في الغالب لا، إلا إذا وجد دعم كبير جداً ومميزات متطورة وكافية تجعلني أترك اللغات الأخرى التي أعمل بها الآن.
غياب التمويل
كلام هذا المبرمج يلفتنا إلى ناحية بالغة الأهمية، وهي أن نجاح المبرمج العربي في إنتاج لغة برمجية عربية لا يتعدى أن يكون محاولات هواة أو باحثين أحبوا العربية وحاولوا أن تجد لها مكاناً بين لغات البرمجة. إلا أن مثل هذا المشروع، كي يحظى بالنجاح والاستمرار لا بد له من التمويل، والتمويل الكبير، فنحن لا نتحدث عن منتج في سوق بدائية، بل هو تحدٍّ لمنافس أشبه ما يقال عنه إنه حوت في سوق البرمجة. ومنافسته تكاد تكون مستحيلة بالنظر إلى ما يخصص له من مليارات الدولارات لتطويره، فما بالك بالمبلغ اللازم لتأسيس منتج جديد؟!
في الختام، لا بد من تقديم التقدير والاحترام لكل من سعى إلى خدمة اللغة العربية في أي مضمار من مضامير العلوم، وأي باب من أبواب المعرفة، ولكن بالمقابل على العرب أن يعلموا أن تاريخ العلوم عند العرب أدلت للعالم درساً مفاده أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن الغاية هي الوصول إلى المعارف واستثمارها في خدمة البشرية، ولا شك أن تحقيق هذا الهدف يحصل بأي لغة من لغات العالم. كما أنه لا بد من السير على خطى العرب الأوائل الذين أدركوا معنى المعرفة، وعشقوا الحقيقة، فأكبوا على ثمار عقول الأولين في ترجمة كتبهم المصنفة بلغات مختلفة إلى اللغة العربية، وهذا قد يكون دافعاً للمبرمجين المحبين للعربية أن يقتحموا هذا الباب ويبدعوا لغة برمجة عربية. فإن كان مستحيلاً منافسة لغة البرمجة المتربعة على عرش التقنية في هذه الأيام، فلتنشط حركة الترجمة إلى العربية، إنه السبيل إلى أن نعكس إبداعات العالم أجمع بمرآة عربية صافية تعبر عن المعارف بأبهى لغة عرفها التاريخ.