«مؤشر المعرفة العالمي» من أهم المؤشرات الإحصائية التي تقيس معدلات الأداء المعرفي
قائمة الدول الكبار معرفياً
تُقاس قوة الدول في الألفية الثالثة ليس فقط بقدرتها العسكرية أو إنجازها الاقتصادي، بل أيضاً بما تحققه في مجال العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي والابتكار، وبمدى مواكبتها لعصر المعرفة، وبما تملكه من قوى ناعمة، وتستثمره من أصول غير ملموسة. ومن ثم كان من الضروري قياس مؤشرات وأدلة مركَّبة تهدف إلى إجراء تحليل مُقارن للتحول إلى عصر المعرفة والحداثة على المستوى العالمي.
وتُعرف القوة الناعمة (Soft Power) باعتبارها «استقطاب آخرين وجذبهم عبر آليات تقوم على الإقناع والجاذبية، بالاعتماد بشكل أكبر على موارد ناعمة غير مادية؛ مثل الثقافة، والفنون والآداب والتعليم، والقيم السياسية، وشرعية السياسات الخارجية، لتحقيق النواتج المنشودة»، وهي ترتكز من حيث المبدأ على رأس مال بشري «مبدع » قادر على التطوير والابتكار وإنتاج سلع وخدمات رمزية. وتُشير مؤشرات التنمية العالمية إلى أن الدول التي حققت معدلات أداء مُتميزة في مجالات التقدم العلمي والمعرفي، والتطوير التقني، والتنمية الاقتصادية، توجِّه نسبة عالية من إنفاقها الرأسمالي لصالح الأصول المنتجة للقوى الناعمة.
كما يتسم العصر المعرفي واقتصاده بالألفية الثالثة، وثورة التكنولوجيات الذكية (المُمثلة للثورة الصناعية الرابعة) بتزايد معدلات الاستثمار في «الأصول غير الملموسة (Intangible Assets) » بالمقارنة بالأصول الطبيعية أو الثابتة. وحيث إن الأصول غير الملموسة تمثل القوى الدافعة لزيادة «المخزون المعرفي » وتعظيم معدلات الاستفادة من تطبيقاته، فإنها تُعد عنصراً هاماً لحدوث الابتكار وتأكيد مردودة الاقتصادي.
وبرغم تعدد الاجتهادات في مجال تصنيف الأصول غير الملموسة، فإن التصنيف الأكثر استخداماً يُقسم الأصول غير الملموسة إلى ثلاثة مجموعات، تختص الأولى «بالأصول المعلوماتية » التي تتضمن برمجيات الحاسب الآلي، وقواعد البيانات، وتطبيقات الإنترنت. وتعتمد المجموعة الثانية على «الملكية الابتكارية » التي تشمل البحث العلمي والتطوير والابتكار، وحقوق الطباعة والنشر، والملكية الفكرية، والتصاميم الصناعية. في حين ترتبط المجموعة الثالثة «بالجدارات الاقتصادية » التي تشمل تنمية رأس المال البشري، ودراسات السوق، وإنتاج العلامات التجارية، ودراسات الدعاية والإعلان. وتشير مؤشرات التنمية الدولية في عدد من الدول ذات الإنجاز المتميز في مجال التنمية المعرفية والاقتصادية (مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، والسويد، وسويسرا، فنلندا) إلى أن الاستثمار في الأصول غير الملموسة يمثل نحو ( 40 %) إلى ( 50 %) من جملة مخصصاتها الاستثمارية.
وتسعى المنظمات الدولية والإقليمية في إطار ما سبق إلى تطوير مؤشرات إحصائية وأدلة مركبة تسهم في إجراء تحليل دولي مقارن لقياس معدلات الأداء المعرفي من أجل التنمية على المستوى العالمي. ومن أهم هذه الأدلة وأكثرها شمولاً في الوقت الراهن «مؤشر المعرفة العالمي( Global Knowledge Index) »، الذي يطلقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة. حيث يعتمد المؤشر على قياس معدلات أداء سبعة قطاعات ذات تأثير في إنتاج ونشر وتطبيق المعرفة هي: التعليم قبل الجامعي، والتعليم العالي، والتعليم الفني والمهني، والبحث العلمي والابتكار، والتنمية الاقتصادية، وتقنية المعلومات والاتصالات، إضافة إلى البيئات التمكينية الداعمة للمناخ المعرفي.
وقد أوضح مؤشر المعرفة العالمي ( Global Knowledge Index ) للعام ( 2020 ) بأن الثلاث دول الأفضل أداءً معرفياً هي سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية وفنلندا، يليها في المرتبة من الرابعة إلى السابعة السويد وهولندا ولوكسمبورج وسنغافورة، في حين حصدت كل من الدنمارك والمملكة المتحدة وهونج كونج المراتب الثامنة والتاسعة والعاشرة على التوالي. ومن هنا فإن الدول العَشر الكبار معرفياً في عام 2020 تتضمن سبع دول من الاتحاد الأوروبي، ودولتين من قارة آسيا، والولايات المتحدة الأمريكية من قارة أمريكا الشمالية. والجدير بالذكر أن نفس العشر دول السابقة قد حصدت أيضاً أفضل المراتب في مؤشر الابتكار العالمي ( Global Innovation Index) لنفس العام. حيث احتفظت سويسرا برأس قائمة التميز في دليلي المعرفة والابتكار. من ناحية أخرى، مثلت معظم هذه الدول الاقتصادات الأكثر تنافسية في عام 2019 بتقرير التنافسية العالمي ( Global Competitiveness Index )، حيث تربعت سنغافورة على رأس القائمة، وانضمت ألمانيا واليابان إلى قائمة التميز. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن هذه الدول حافظت على استدامة معدلات الأداء المتميز خلال سنوات الحقبة الثانية من القرن الواحد وعشرين. ومن ثم فإن هذه النتائج تشير في مجملها إلى تميز وريادة هذه الدول العشر وتمايزها عن الأقران على مستوى الإنجاز العلمي والتكنولوجي والابتكاري والتنموي، بما يؤكد أنهم كبار العالم معرفياً في الألفية الثالثة.
وأخيراً، تُفيد النتائج أن هذه القائمة المتميزة معرفياً تتسم بصغر مساحتها ومحدودية حجم سكانها (فيما عدا الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة)، وهي ظاهرة تتطلب الدراسة والتحليل.
بيد أن السؤال الذي يجب طرحة في هذا المجال: «ما هي خصائص هذه الدول وسماتها المُميزة؟ وما هي التوجهات والسياسات التي ارتكزت عليها من أجل إحداث هذه القفزات العلمية والمعرفية والتنموية وضمان استدامتها؟ وهو ما سأقوم بمناقشته في مقال قادم.