واقع مضاد تفرضه الجائحة على أوروبا
يانيس فاروفاكيس
أثينا ــ تخيَّل أنَّ جائحة فيروس كورونا، بدلًا من تقويض الثقة بالاتحاد الأوروبي، عملت على تعزيزها. تخيَّل أنَّ جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) أقنعت قادة الاتحاد الأوروبي بضرورة التغلُّب على سنوات من المرارة والتشرذم. تخيَّل أنها تسبَّبت هذا العام في تحفيز ظهور كتلة أقوى وأكثر تكاملًا يتطلَّع إليها العالم طلبًا للزعامة العالمية.
تخيَّل.. ليس من الصعب أن تتخيَّل.
في نهاية فبراير/شباط 2020، قبل أسبوعين من إعلان منظمة الصحة العالمية عن جائحة متفشية، كان مجلس الاتحاد الأوروبي أصدر بالفعل تعليماته إلى المفوضية الأوروبية بتنسيق حرب أوروبا ضد فيروس كورونا. وفي غضون أيام، جَـمَّـعَـت المفوضية قائمة بالمعدات الأساسية التي كان المتوافر منها في أوروبا ناقصًا، من معدات الوقاية إلى وحدات العناية المركزة، وقدَّمت الطلبات إلى الشركات المصنَّعة. كما عقدت لجنة Cov-Comm، وهي لجنة مُـشَـكَّـلة من كبار علماء الأوبئة وممثلين لأنظمة الصحة العامة في الاتحاد الأوروبي لتقديم الإرشادات اليومية. وبعد تحررها من الاحتياج إلى شراء الإمدادات الأساسية، واكتمال عملها على تحديد استراتيجيات السفر والتباعد الاجتماعي المثلى، ركَّزت الحكومات الوطنية على تنفيذ خطة الاتحاد الأوروبي العاجلة.
في ذلك الوقت، بعد مرور شهر، كانت الجائحة كشَّرت عن أنيابها في شمال إيطاليا، وبدأت شاحنات محملة بمعدات الوقاية، وحاويات الأكسجين، ومعدات العناية المركزة، بل وحتى الأطباء والعاملين بالتمريض، تتوافد من مختلف أنحاء أوروبا، بتنسيق من بروكسل. وبينما كان البرلمان الأوروبي يناقش النقاط الأكثر دقَّة فيما يتصل بإيجاد التوازن بين الحريات المدنية والصحة العامة، واصلت المفوضية، بالتعاون مع الحكومات الوطنية، تحديد احتياجات أنظمة الرعاية الصحية في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي.
في مارس/آذار، أوصلت لجنة Cov-Comm بالإغلاق، في ظلِّ قواعد متباينة من منطقة إلى أخرى. وأيد المجلس الأوروبي خطة المفوضية لتقديم خدمة الحجر الصحي، على أن تُـراجَـع يوميًّا. مع دخول الأوروبيين الحجر الصحي، بدأ إنشاء شبكة من مراكز الاختبار الشامل في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي. وكان المفترض أن تتيح الاختبارات المنتظمة في كلِّ حي، وبالقرب من كل مدرسة، وعند أو بالقرب من كل محل عمل، الخروج المنسق الآمن من الإغلاق الأفقي.
كان إبريل/نيسان الشهر الأشد قسوة، حيث ارتفع عدد الإصابات، لكن المستشفيات تمكَّنت من إدارة الأمور على نحو طيّب على الأقل، بفضل تجميع المعدات والموارد البشرية في مختلف أنحاء أوروبا. عندما سأله صحافيون حول كيفية تواصل الأطباء الأجانب الزائرين والعاملين في التمريض مع زملائهم الإيطاليين والإسبان داخل أجنحة الرعاية المركزة، أجاب طبيب تخدير ألماني: "في مواجهة الموت، يتواصل العاملون في مهنة الطب عن طريق التناضح".
في ظلِّ عمليات الإغلاق التي ضربت كلًّا من الاستهلاك والإنتاج، دخلت اقتصادات أوروبا أسوأ حالة ركود في الذاكرة الحية. على عكس أزمة اليورو التي اندلعت قبل عقد من الزمن، أعاقت الجائحة النشاط الاقتصادي في مختلف أنحاء أوروبا. وقد ساعد وجود عدو مشترك، إلى جانب روح التضامن في الرعاية الصحية، على توليد نموذج جديد سرعان ما تغلغل في الدوائر الرسمية. وكانت النتيجة صدور قرار رائد نال موافقة مجموعة وزراء المالية الأوروبية ثمَّ المجلس الأوروبي في أوائل مايو/أيار. وعلى الفور جرى إطلاق برنامج "أوروبا الجيل التالي".
الواقع أنَّ ركائز أربع جعلت من برنامج "أوروبا الجيل التالي" مقدمة لتوحيد أوروبا على النحو اللائق. وكانت هناك آلية مشتركة لاستيعاب الارتفاع الحتمي في الدين العام مع كفاح الدول لدعم الأعمال التجارية وتشغيل العمالة. والآن سيتولى صندوق صحي مركزي تغطية تكاليف مكافحة كوفيد-19، بما في ذلك شراء اللقاحات. وسوف تساعد مدفوعات نقدية لكل أوروبي على دعم الجميع مرة واحدة. ومن شأن برنامج استثماري مناسب أن يساعد على تمويل اتحاد الطاقة الخضراء الذي تحتاج إليه أوروبا بشدة.
لبناء ركائز "أوروبا الجيل التالي"، كان لزامًا على قادة الاتحاد الأوروبي أن يعملوا على إزالة العقبة التي أعاقتهم خلال جميع الأزمات السابقة عن طريق الاتفاق على كيفية تحفيز حكومة فيدرالية دون انتهاك نصوص قوانين ومعاهدات الاتحاد الأوروبي. وكان الحل الذي تحوّل نحوه مشروع "أوروبا الجيل التالي" بارعًا. في اجتماع المجلس الحاسم في إبريل/نيسان 2020، أوردت التقارير أنَّ المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها، أنجيلا ميركل، قالت: "باعتباره مؤسَّستنا المشتركة الوحيدة التي تتمتَّع بقوة مالية حقيقة، كان البنك المركزي الأوروبي ليتحمل العبء دائمًا. ويتعيَّن علينا في أقل تقدير أن نستخدمه على أفضل وجه".
فعل قادة أوروبا هذا على وجه التحديد. فلاستيعاب الارتفاع الحتمي في الدين العام، سيجري تمويل عجز الميزانية الأولية لدى جميع البلدان الأعضاء (بعد خصم مدفوعات الديون) بواسطة سندات مدتها ثلاثون عامًا يصدرها البنك المركزي الأوروبي. وكانت آجال استحقاق السندات الطويلة تعني أنَّ قادة أوروبا يعطون أنفسهم مهلة مدتها ثلاثون عامًا لتشكيل حكومة فيدرالية مناسبة، مع خزانة مشتركة، خشية أن يضطر البنك المركزي الأوروبي إلى طباعة النقود لسداد مستحقات حاملي السندات. قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اجتماع المجلس الأوروبي في مايو/أيار: "إذا لم تستطع أوروبا الاتحاد في غضون ثلاثة عقود من الزمن، فربما لا نستحق اتحادنا".
اتخذ قادة الاتحاد الأوروبي قرارًا حاسمًا لا رجعة فيه، والآن بدأت تظهر حلول من "أوروبا الجيل التالي" لمشكلات أخرى. على سبيل المثال، لتمويل مشاريع البحث والتطوير لإنتاج اللقاحات، وتغطية تكاليف الإنتاج المحلي بموجب ترخيص في مختلف أنحاء أوروبا، وقد وعد البنك المركزي الأوروبي بشراء سندات دائمة بدون قسائم تصدرها شركات الأدوية. لا شيء في ميثاق البنك المركزي الأوروبي يمنعه من شراء سندات الشركات، وبهذا يصبح بوسع الاتحاد الأوروبي أن يستخدم هذه الآلية لتمويل برنامج تطعيم ناجح فضلًا عن مزايا الصحة الأساسية الأخرى التي سيجري تقاسمها بين كل الأوروبيين. الأفضل من هذا أنَّ الاتحاد الأوروبي استخدم هذه الآلية لشراء مئات الملايين من جرعات اللقاح لتوزيعها على البلدان المجاورة والبلدان النامية مجانًا.
ثمَّ هناك برنامج الضخ النقدي في إطار "أوروبا الجيل التالي"، وهو ما يعادل الشيكات الحكومية الفيدرالية التي تلقتها الأسر الأميركية أثناء الجائحة. واكتشف قادة الاتحاد الأوروبي أن لا شيء في ميثاق البنك المركزي الأوروبي، أو في معاهدة الاتحاد الأوروبي، يمنع البنك من تقييد 2000 يورو (2350 دولارا أميركيا) لحساب كل بالغ أوروبي في حساب مصرفي أولي، بتكلفة إجمالية لا تتجاوز 750 مليار يورو. ومع تلقي كل أوروبي، سواء كان ألمانيا أو يونانيا، هولنديا أو برتغاليا، ذات المبلغ، لم يُـنـتَـهَك قَـط الحظر الوارد في معاهدات الاتحاد الأوروبي والذي يمنع التحويلات المالية وعمليات إنقاذ أي بلد عضو بواسطة بلد عضو آخر.
أخيرًا أصدر برنامج "أوروبا الجيل التالي" توجيهاته إلى بنك الاستثمار الأوروبي لإصدار سندات تعادل تقريبًا 5% من إجمالي دخل أوروبا، والتي سيدعمها أيضًا البنك المركزي الأوروبي في أسواق السندات. وقد مَـوَّلَ هذا وكالة الأعمال الخضراء الأوروبية الجديدة لتطوير اتحاد الطاقة الخضراء في الاتحاد الأوروبي، وبشكل أكثر عمومًا، لتمويل الصفقة الجديدة الخضراء في أوروبا.
في حين تراوحت معدلات الإصابة بين الارتفاع والانخفاض، نجح طرح برنامج التطعيم في أوروبا بشكل منسق بحلول ديسمبر/كانون الأول 2020 في وقف انتشار الفيروس. واحتفل الأوروبيون بقدوم عام 2021 بتوقعات ملموسة للرخاء الأخضر المشترك. من ناحية أخرى، تحسَّنت مكانة أوروبا العالمية، بما في ذلك في بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. وقد لعبت شحنات اللقاحات التي تبرع بها الاتحاد الأوروبي دورا ملموسا، لكنه ليس بحجم إثبات أوروبا سيادة الوحدة والتضامن في مختلف أنحاء قارتنا أخيًرا.
كل هذا كان من الممكن أن يحدث، لكن لم يحدث أي منه. وربما يكون فهم السبب وراء ذلك باعثًا على الكآبة والشعور بالإحباط، أو قد يكون، إذا اخترنا ذلك، نقطة انطلاق إلى التغيير.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
يانيس فاروفاكيس وزير مالية اليونان الأسبق، وزعيم حزب MeRA25، وأستاذ علوم الاقتصاد في جامعة أثينا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org