البنوك المركزية ويوم الحساب المالي الوشيك
ويليم بيوتر
نيويورك ــ منذ أوائل عام 2020، اضطرت البنوك المركزية في مختلف الاقتصادات المتقدمة إلى الاختيار بين السعي إلى تحقيق هدف الاستقرار المالي، أو التضخُّم المنخفض (2% عادة)، أو تعزيز النشاط الاقتصادي الحقيقي. ودون استثناء، فضلت جميعها الاستقرار المالي، يليه النشاط الاقتصادي الحقيقي، ثمَّ التضخم أخيرًا.
نتيجة لهذا، كان البنك المركزي الوحيد في الاقتصادات المتقدمة الذي رفع أسعار الفائدة منذ اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) هو بنك النرويج، الذي رفع سعر الفائدة الرسمي من صِـفر إلى 0.25% في الرابع والعشرين من سبتمبر/أيلول. وبينما ألمح إلى زيادة إضافية محتملة في ديسمبر/كانون الأول، وأنَّ سعر الفائدة قد يصل إلى 1.7% قرب نهاية عام 2024، فإنَّ هذا مجرد دليل إضافي على التردد الشديد من قِـبَـل صنّاع السياسات النقدية في تنفيذ ذلك النوع من زيادات الأسعار اللازمة لتحقيق هدف التضخم بنسبة 2% على نحو ثابت.
الواقع أنَّ هذا التردد الشديد من جانب البنوك المركزية في ملاحقة سياسات أسعار الفائدة والميزانية العمومية المتوافقة مع أهداف التضخم التي تحددها لا ينبغي أن يكون مفاجئًا. في السنوات بين بداية الاعتدال العظيم في منتصف ثمانينيات القرن العشرين والأزمة المالية خلال الفترة 2007-2008، فشلت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة في إعطاء الاستقرار المالي الـثِّـقَـل الكافي. من الأمثلة البارزة هنا خسارة بنك إنجلترا لكل سلطاته الإشرافية والتنظيمية عندما مُـنِـح الاستقلالية التشغيلية في عام 1997.
كانت النتيجة كارثة مالية فضلًا عن انكماش دوري حاد. وتأكيدًا لمنطق "لا يُـلدَغ الـفَـطِـن من جحر مرتين" استجابت البنوك المركزية لجائحة كوفيد-19 بملاحقة سياسات جريئة إلى حد غير مسبوق لضمان الاستقرار المالي. لكنها ذهبت أيضًا إلى ما هو أبعد من المطلوب كثيرًا، فلم تدخر جهدًا في دعم النشاط الاقتصادي الحقيقي.
كانت البنوك المركزية محقّة في إعطاء الأولوية للاستقرار المالي على استقرار الأسعار، على اعتبار أنَّ الاستقرار المالي في حد ذاته شرط أساسي لاستقرار الأسعار المستدام (ولتحقيق هدف بعض البنوك المركزية الأخرى، أو التشغيل الكامل للعمالة). الواقع أنَّ التكلفة الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على اندلاع أزمة مالية، وخاصة مع ارتفاع معدلات الاستدانة الخاصة والعامة إلى المستوى الذي نشهده اليوم، ستكون باهظة إلى الحد الذي يجعل تكلفة التجاوز المستمر لهدف التضخم تبدو ضئيلة للغاية بجانبها. من الواضح أنَّ تجنُّب معدلات التضخم الشديدة الارتفاع أمر واجب، لأنها أيضًا قد تتحوَّل إلى مصدر لعدم الاستقرار المالي؛ ولكن إذا كان منع الكارثة المالية يتطلَّب بضع سنوات من التضخم المرتفع في خانة الآحاد، فإنَّ هذا الثمن يمكن تحمُّله.
أتمنى (وأتوقع) أن تكون البنوك المركزية ــ وخاصة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ــ مستعدة للاستجابة على النحو المناسب إذا انتهكت الحكومة الفيدرالية الأميركية "سقف الديون" في الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الثاني أو نحو ذلك التاريخ. خلصت دراسة حديثة أجراها مارك زاندي من مؤسَّسة Moody’s Analytics إلى أنَّ التخلُّف عن سداد الديون السيادية الأميركية من الممكن أن يدمِّر ما يصل إلى ست ملايين وظيفة في الولايات المتحدة وأن يمحو ما يصل إلى 15 تريليون دولار من الثروات الخاصة الأميركية. الحقُّ أنَّ هذا التقدير يبدو لي متفائلًا. فإذا طال أمد التخلف عن سداد الديون السيادية، فمن المحتمل أن تكون التكاليف أعلى كثيرًا.
على أية حال، سيترتب على التخلف عن سداد الديون السيادية الأميركية تأثيرات عالمية ضخمة ومدمرة تصيب الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة والنامية على حد سواء. فالديون السيادية الأميركية يُـحـتَـفَـظَ بها على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم، ويظل الدولار الأميركي العملة الاحتياطية الرئيسة في العالم.
حتى بدون جرح الذات مثل ذلك الناجم عن فشل الكونجرس الأميركي في رفع أو تعليق سقف الديون، فإنَّ الهشاشة المالية متفشية في الوقت الحاضر. فقد تنامت الميزانيات العمومية للأسر، والشركات، والميزانيات المالية والحكومية لتسجل ارتفاعات غير مسبوقة هذا القرن، مما جعل القطاعات الأربعة أكثر عرضة للصدمات المالية.
البنوك المركزية هي القوى الاقتصادية الفاعلة الوحيدة القادرة على معالجة أزمات التمويل والسيولة في السوق التي أصبحت الآن جزءًا من المعتاد الجديد. ولا تتمتَّع الميزانيات العمومية للبنوك غير المركزية بالقدر الكافي من المرونة لمعالجة بيع الأصول المتعثرة بأثمان بخسة أو التهافت على البنوك التجارية لاسترداد الودائع أو غير ذلك من المؤسسات المالية المهمة جهازيا والتي تحتفظ بخصوم سائلة وأصول غير سائلة. ينطبق هذا على الصين كما ينطبق على الولايات المتحدة، ومنطقة اليورو، واليابان، والمملكة المتحدة.
من المرجَّح أن تنفجر فقاعة العقارات في الصين ــ وديون الأسر المؤمنة ضدها ــ عاجلاً أو آجلاً. وقد تكون شركة التطوير العقاري المثقلة بالديون إيفرجراند هي المحفز. ولكن حتى لو تمكَّنت السلطات الصينية من منع انهيار مالي كامل، فسوف يخسر معدل النمو المحتمل في الصين (بسبب السياسات السكانية والسياسات المعادية للمؤسَّسات) والاقتصاد العالمي واحدًا من محركاته.
في مختلف الاقتصادات المتقدمة (وفي العديد من الأسواق الناشئة)، يبدو أنَّ قيم أصول المخاطرة، وخاصة الأسهم والعقارات، مبالغ في تقديرها إلى حد كبير، على الرغم من التصحيحات الطفيفة الأخيرة. تتمثَّل الطريقة الوحيدة لتجنُّب هذه النتيجة في الاعتقاد بأنَّ أسعار الفائدة الحقيقة الطويلة الأجل اليوم (وهي سلبية في العديد من الحالات) تساوي أو تقترب من قيمها الأساسية. أظنُّ أنَّ سعر الفائدة الحقيقي الآمن في الأمد البعيد وعلاوة المخاطر المتنوعة يتعرضان لضغوط مصطنعة بفعل معتقدات مشوهة وفقاعات دائمة، على التوالي. وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ تقييمات الأصول والمخاطر اليوم منفصلة تمامًا عن الواقع.
عندما تتحقَّق تصحيحات الأسعار الآتية حتمًا، سيكون لزامًا على البنوك المركزية، والهيئات الإشرافية والتنظيمية أن تعمل عن كثب مع وزارات المالية للحد من الضرر الذي سيلحق بالاقتصاد الحقيقي. وسوف يكون تقليص المديونية من قِـبَـل القطاعات الأربعة (الأسر، والمؤسَّسات غير المالية، والمؤسَّسات المالية، والحكومات) ضروريًّا للحد من الضعف المالي وتعزيز المرونة والقدرة على الصمود. ويجب أن تكون إعادة هيكلة الديون المنظمة في العديد من البلدان النامية الشديدة العرضة للخطر جزءًا من استعادة الاستدامة المالية التي طال انتظارها.
الواقع أنَّ البنوك المركزية، التي تعمل عمل الملاذ الأخير للإقراض والملاذ الأخير لصناعة السوق، ستكون مرة أخرى ركيزة أساسية في سلسلة من الأحداث التي ستكون فوضوية بكل تأكيد. وسوف تكون مساهماتها في تعزيز الاستقرار المالي العالمي اليوم أعظم أهمية من أي وقت مضى. الآن، من الممكن أن ينتظر هدف التضخم بنسبة 2% وهدف تحقيق أقصى حد من تشغيل العمالة، لكن الاستقرار المالي من غير الممكن أن ينتظر. وبما أن عمليات الملاذ الأخير للإقراض والملاذ الأخير لصناعة السوق تُـدار في منطقة معتمة بين الافتقار إلى السيولة والإفلاس، فقد اتسمت أنشطة البنوك المركزية من هذا القبيل بخصائص شبه مالية. على هذا فإنَّ الأزمة التي تكاد تنقض الآن ستؤدي حتمًا إلى تقليص استقلالية البنوك المركزية.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
ويليم بيوتر أستاذ الشؤون الدولية والعامة المساعد في جامعة كولومبيا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org