التصنيع الألماني .. تحديات واستراتيجيات مستقبلية
المصدر: داليا مارين
قبل أشهر قليلة، كانت ألمانيا تستعد لشتاء قاسٍ، وبعد أن قطعت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي عن أوروبا وارتفعت الأسعار لتتجاوز ضعف ما كانت عليه، حذّر المسؤولون الألمان من حدوث حالات انقطاع الكهرباء بصورة مفاجئة وحالات قطع التيار المُجَدول.
وذكرت التقارير أن بعض المدن خططت لتحويل المنشآت الرياضية إلى «قاعات دافئة» تؤوي الفقراء وكبار السن، وتكهنت وسائل الإعلام بشأن تقنين الطاقة، ولكن تلك التنبؤات لم تتحقق.
وأمام تحدٍ كبير تواجهه، أثبتت ألمانيا أنها أكثر مرونة مما كان يعتقده كثيرون.
ومع ذلك، لا تزال ألمانيا تعيش حالة من الهلع، فبدلاً من أن يقلق الألمان بشأن مدافئ الغاز، أصبح شبح تراجع الصناعة يطاردهم؛ إذ لا يمر يوم واحد دون أن تتنبأ بعض وسائل الإعلام، أو معاهد الأبحاث بأن إغلاق المصانع وصعود الصين سيؤديان إلى انهيار البلاد.
وفي الآونة الأخيرة، حذّر بنك الائتمان لإعادة الإعمار (Kreditanstalt für Wiederaufbau) المملوك للدولة من أن ألمانيا تواجه «حقبة تراجع الازدهار».
وحذّرت ياسمين فهيمي، رئيسة الاتحاد الألماني لنقابات العمال (DGB)، من أن أزمة الطاقة ستؤدي إلى تراجع التصنيع وتسريح أعداد كبيرة من العمال.
وفي الوقت نفسه، وصف مركز البحوث الاقتصادية الأوروبية (ZEW) في «مانهايم» ألمانيا بأنها «الخاسر الأكبر» للاقتصاد العالمي اليوم، ما جعلها تحتل المرتبة 18 من بين 21 دولة صناعية في تصنيفها من حيث التنافسية.
وحذّر خبراء آخرون من أن ارتفاع تكاليف الطاقة سيجبر المصنعين على نقل أنشطتهم إلى أوروبا الشرقية والولايات المتحدة، استجابة للحمائية الأمريكية.
ما الذي يفسر هذا المزاج الكئيب؟ لقد أثار قادة الأعمال الألمان لأول مرة خطر إلغاء التصنيع في أبريل الماضي، عندما كانت ألمانيا تفكر في مقاطعة الغاز الروسي، الذي كان يمثل في ذلك الوقت أكثر من نصف إمداداتها من الغاز الطبيعي.
وحذر مديرو الشركات، ومن بينهم ماركوس كريببر، الرئيس التنفيذي لشركة الطاقة «RWE»، من أن فرض حظر على الطاقة الروسية من شأنه أن يؤدي إلى بطالة جماعية، وفقر، واضطرابات اجتماعية واسعة النطاق.
وتناقضت هذه التحذيرات مع دراسة أكاديمية سابقة أعدها اقتصاديون ألمان بارزون أشاروا في تقديراتهم إلى أن الحظر الروسي على الطاقة يتسبب في ركود خفيف إلى متوسط. وجادل معدّو الدراسة بأن اقتصاداً كبيراً مثل ألمانيا لديه العديد من الطرق للتكيف مع هذه الصدمة الشديدة، مثل إيجاد موردين بديلين والتحول إلى مصادر طاقة أخرى.
وفضلاً عن ذلك، جادلوا بأن الحكومة يمكن أن تتدخل وتخفف من التداعيات الاقتصادية للمقاطعة.
واتضح لاحقاً أن تلك السيناريوهات المروعة لم تتحقق، وتمكنت الحكومة الألمانية بالفعل من إيجاد بدائل للطاقة الروسية؛ وخففت تدابير توفير الطاقة من استهلاك الغاز بنسبة 30 في المائة. وكان فصل الشتاء أكثر اعتدالاً مما كان متوقعاً. وانتعشت إمدادات الغاز في البلاد، وانخفضت الأسعار من 350 يورو (377 دولاراً) لكل ميغاواط/ساعة في الصيف إلى 80 يورو لكل ميغاواط/ساعة.
ونظراً لاعتماد ألمانيا الطويل الأمد على الغاز الروسي، كانت الحرب في أوكرانيا والارتفاع اللاحق في أسعار الطاقة أكبر أزمة واجهتها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.
ولكن الاقتصاد الألماني صمد في وجه العاصفة، ويقدر أنه نما بنسبة 1.9 في المائة العام الماضي - وهو بعيد كل البعد عن الركود الذي توقعه كثيرون.
ولكن الخطر الحقيقي أصبح وشيكاً، وما يثير القلق هو أن الصين تفوقت أخيراً على ألمانيا بإحرازها المرتبة الثانية في تصنيف أكبر مصدري السيارات في العالم، إذ ارتفعت حصة الصين في سوق السيارات الكهربائية العالمية إلى 28 في المائة العام الماضي بفضل هيمنتها في تصنيع البطاريات، ونجاح الشركات المصنعة الصينية مثلBYD Auto ،Wuling ، وGAC Motor، في حين انخفضت حصة الشركات الألمانية مثل فولكس فاغن من 7 في المائة إلى 4 في المائة.
كذلك، ارتفعت صادرات الصين من السيارات إلى أوروبا من 133,465 في عام 2019، إلى 435,080 في عام 2021، بسبب الطلب المتزايد على السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين. وتستورد أوروبا الآن السيارات من الصين بأكثر مما تصدر، حيث يهدد الانتقال إلى صافي الانبعاثات الصفري والتخلص التدريجي الأوروبي الوشيك من محرك الاحتراق الداخلي بإنهاء صلاحية صناعة السيارات الألمانية.
وبالإضافة إلى تصنيع السيارات، تهدد المنافسة الصينية قطاع الآلات الألماني، وهو جزء رئيسي من Mittelstand (ميتلشتاند)- الشركات المصنعة الصغرى والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري الصناعي للبلاد. ففي وقت سابق من هذا العام، نشرت الجمعية الألمانية لمصنعي الآلات والمعدات (VDMA)، تقريراً يوضح أن صادرات الأدوات الآلية في الصين قد تجاوزت نظيراتها الألمانية.
وبينما نمت صادرات الآلات من ألمانيا بنحو 10 في المائة في عام 2021، زادت واردات الآلات من الصين بنسبة 26 في المائة. ومن المفارقات أن الشركات الألمانية التي تمارس نشاطها في الصين كان لها دور حاسم في تسهيل هذا التحول، حيث أُجبرت على الدخول في شراكات مع الشركات المحلية ومن ثم تسريع نقل التكنولوجيا، وتدريب منافسيها المستقبليين بصورة فعالة.
وفي عام 2022، فاجأت ألمانيا العالم بتمكنها من الابتعاد عن الغاز الروسي دون الوقوع في ركود حاد. ولكن استعادة القدرة التنافسية للبلاد تمثل تحدياً أكبر. فقبل ثلاثة عقود، تحولت ألمانيا من كونها رجل أوروبا المريض إلى كونها محركها الاقتصادي. وحتى تستطيع المنافسة في الظروف الاقتصادية العالمية للقرن الحادي والعشرين التي تزداد حدة، يجب أن تعيد اختراع نفسها مرة أخرى.
* أستاذة الاقتصاد الدولي في كلية الإدارة بجامعة ميونيخ التقنية، وزميلة باحثة في مركز أبحاث السياسة الاقتصادية، وزميلة غير مقيمة في مؤسسة بروجيل