الإنفاق الحكومي المفرط في أميركا يجب أن يتوقَّف

جورج شولتز، جون كوجان، جون تايلور

قبل وفاته في السادس من فبراير/شباط، اشترك جورج ب. شولتز، وزير الخزانة ووزير الخارجية الأميركي الأسبق، في كتابة تعليق أخير يحذر من المخاطر التي تفرضها الزيادة الهائلة في إنفاق الحكومة الأميركية في السنوات الأخيرة، بما في ذلك خلال أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19).

ستانفورد ــ يبدو أنَّ كثيرين في واشنطن يعتقدون الآن أنَّ الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة قادرة على إنفاق مبلغ غير محدود من المال دون أيِّ عواقب اقتصادية ضارة. لكنهم مخطئون. ذلك أنَّ الإنفاق الفيدرالي المفرط يخلق مخاطر جسيمة على الصعيد الاقتصادي وفيما يتصل بالأمن الوطني. والآن، يجب أن يتوقَّف استهتار أميركا المالي.

قدَّمت أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الدافع الأحدث للإنفاق الحكومي، حتى إلى النقطة التي توجَّهت عندها العقلية الأميركية نحو الاشتراكية ــ وهي العقيدة التي أضرَّت دوماً برفاهة الناس. لكن بعض الناس يقولون إنَّ الإنفاق المفرط لا يدعو إلى القلق. ذلك أنَّ أسعار الفائدة المنخفضة إلى حدٍّ غير مسبوق لا تُـظـهِـر أيَّ علامةٍ تشير إلى احتمال اتجاهها نحو الانخفاض، كما يزعمون. وكان الاقتصاد يسير على ما يرام إلى أن اندلعت الجائحة، وسوف يرتد إلى الانتعاش بقوة دون أدنى شك عندما تنقضي. هل ترون حتى أي بادرة تضخم في الأفق؟

الواقع أنَّ هذا التفكير قصير النظر بدرجة خطيرة. فلم تتبدَّل قوانين الاقتصاد الأساسية. وكما أوضح أحدنا (كوجان) في كتابه "النوايا الحسنة وتكلفتها الباهظة"، فإنَّ الإنفاق الحكومي المسرف يخلف عواقب وخيمة دوماً.

في نهاية المطاف، لا بدَّ أن يؤدي الدين الوطني الأميركي المتزايد الارتفاع إلى مزاحمة الاستثمار الخاص، وبالتالي تباطؤ النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وسوف يُـفضي استمرار الاحتياطي الفيدرالي في استيعاب الإنفاق بالعجز حتماً إلى ارتفاع التضخُّم. وسوف تصبح الأسواق المالية أكثر عُـرضةً للاضطرابات، مما يزيد من احتمالات حدوث انكماش اقتصادي كبير آخر.

لا يبعث الهدوء النسبي الحالي في الأسواق المالية وانخفاض تضخُّم أسعار المستهلك على الارتياح. ذلك أنَّ الفترات التي شهدت زيادات حادة في التضخُّم، وارتفاعاً سريعاً في أسعار الفائدة، وأزمات مالية، كانت تأتي عادة في أعقاب فترات من الديون المفرطة كالرياح المفاجئة، دون سابق إنذار.

يوضح كتاب شولتز وتايلور بعنوان "اختر الحرية الاقتصادية" أنَّ المؤشرات الاقتصادية في الولايات المتحدة لم تعطِ أيَّ تلميح في أواخر ستينيات القرن العشرين إلى الارتفاع السريع اللاحق في التضخُّم وأسعار الفائدة في أوائل السبعينيات. على نحو مماثل، لم تقدم الأسواق المالية خلال السنوات التي سبقت الركود العظيم خلال الفترة 2007-2009 مباشرة سوى القليل من الإشارات التي قد تدل على كارثة وشيكة.

إذاً، ماذا ينبغي لصنّاع السياسة في الولايات المتحدة اليوم أن يفعلوا؟ الحل ليس في زيادة معدلات الضرائب. فحتى قبل أن تندلع الجائحة، كان لا بدَّ من زيادة كل معدل ضريبي فيدرالي بنحو الثلث من أجل تمويل المستوى الحالي من الإنفاق الفيدرالي دون إضافة إلى الدين الوطني. لن تخلو مثل هذه الزيادة من تأثيرات ضارة ــ مماثلة لتلك الناجمة عن تصاعد الدين العام ــ على النمو الاقتصادي وخلق الوظائف.

ربما يستسلم الكونجرس لإغراء خفض الإنفاق الدفاعي للمساعدة على سد العجز، كما فعل في كثير من الأحيان في الماضي. لكن هذه الجهود السابقة فشلت بوضوح شديد. فبدلاً من تقليل عجز الموازنة، استخدم الكونجرس المدخرات من النفقات الدفاعية لتمويل الإنفاق المحلي الإضافي.

ما لم ينبذ صنّاع السياسات معتقداتهم المضللة حول عجز الميزانية، فإنَّ خفض الإنفاق الدفاعي الآن من شأنه أن يؤدي إلى ذات النتيجة. الأمر الأكثر أهمية أنَّ خفض الإنفاق الدفاعي خطأ استراتيجي جسيم، لأنه يضعف أمن الولايات المتحدة الوطني ويشجع خصومها الأجانب ــ وخاصة الآن وقد بدأت الصين تستعرض عضلاتها في آسيا وتستثمر بكثافة في قواتها المسلحة.

طوال تاريخ الولايات المتحدة، أثبتت قدرة الحكومة الفيدرالية على الاقتراض في أوقات الأزمات الدولية كونها أحد أصول الأمن الوطني التي لا تقدر بثمن. قبل مئتي عام، كانت القدرة على الاقتراض مفيدة في تمكين أميركا من الحفاظ على استقلالها عن إنجلترا. وخلال الحرب الأهلية، كانت هذه القدرة ضرورية للحفاظ على الاتحاد. كما أثبتت أنها حاسمة في هزيمة الأنظمة الاستبدادية في الحربين العالميتين في القرن العشرين.

يهدِّد الإنفاق المتهور من جانب حكومة الولايات المتحدة بتقويض هذا الأصل. فإذا استمرت أميركا على مسارها المالي الحالي، سوف ينضب معين اقتراض الحكومة الفيدرالية في نهاية المطاف. وعندما ينضب، ستكون أميركا أقل قدرة على مواجهة المخاطر التي تهدد أمنها الوطني. ومع إدراك الحكومات الأجنبية المعادية والمنظمات الإرهابية هذه الحقيقة، فسوف يصبح العالم مكاناً أشد خطورة.

يُـعَـدُّ الاعتقاد الخاطئ من جانب صُنّاع السياسات في الولايات المتحدة بأنَّ العجز والدين لا يشكلان أهمية كبيرة تتويجاً مؤسفاً لانحدار طال أمده في المسؤولية المالية. خلال الفترة من 1789 إلى ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الحكومة الفيدرالية ملتزمة بمعيار الموازنة المنضبطة، فتحمَّلت العجز المالي خلال فترات الحرب والركود الاقتصادي، وأدارت فوائض متواضعة في أوقات الرخاء لسداد هذا الدين. وكانت هذه الإدارة الحكيمة للشؤون المالية الفيدرالية مفيدة في ترسيخ مكانة أميركا القوية في الأسواق المالية العالمية.

ثمَّ كسرت صفقة الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت الجديدة هذا المعيار، وأصبح الإنفاق بالعجز منذ ذلك الحين أسلوب حياة في واشنطن، مع إنفاق الحكومة الفيدرالية بما يتجاوز عائداتها المتاحة على مدار ثلاثة وستين عاماً من أصل خمسة وسبعين عاماً مرَّت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في البداية، كان المسؤولون المنتخبون مهمومين بشدة إزاء العواقب السلبية المترتبة على إنفاقهم الزائد. ولكن بمرور الوقت، تضاءل هذا القلق تدريجياً. وسجَّل العجز السنوي نمواً هائلاً، حتى إنَّ الدين الوطني كان بحلول سبعينيات القرن العشرين ينمو بسرعة أكبر من نمو الدخل الوطني.

خلال العقد الأخير، يبدو أنَّ أي مخاوف مالية متبقية سواء في الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري تلاشت تماماً. وبتحررهم من الاعتقاد بأنَّ العجز والدين ضاران، أطلق صُنّاع السياسات العنان لسيل من الإنفاق الجديد. وبحلول السنة المالية 2019، كانت الحكومة الفيدرالية تنفق تريليون دولار سنوياً، بعد التعديل تبعاً للتضخم، زيادة على ما كانت تنفقه قبل نحو عشر سنوات. وفي السنة المالية 2020، أضافت الحكومة الفيدرالية ما يقرب من تريليوني دولار من الإنفاق الجديد في الاستجابة للجائحة، ليرتفع الدين الوطني إلى 100% من الدخل الوطني. وفي عامنا هذا، يبدو أنَّ تريليون دولار أخرى من الإنفاق الجديد ــ إن لم يكن أكثر ــ في الطريق.

ربما يبدو أنَّ القوة الدافعة نحو المزيد من الإنفاق وانفجار الديون لا يمكن إيقافها حالياً. ولكن عاجلاً أو آجلاً، سوف ينظر الناس إلى الحقائق فيرون المسار المدمر الذي تسلكه السياسة المالية الآن، ويدركون أنهم والاقتصاد الأميركي سيكونون في حال أفضل باتباع نهج مختلف. وعند هذه النقطة، سيقول النظام الديمقراطي في أميركا كلمته: "نمو الإنفاق يجب أن يتوقَّف".

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

جورج ب. شولتز وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق (1982-1989) ووزير خزانتها (1972-1974)، كما شغل منصب وزير العمل (1969-1970)، وكان زميل مؤسسة هوفر. توفي شولتز في السادس من فبراير/شباط عن عمر يناهز 100 عام. جون ف. كوجان كبير زملاء مؤسَّسة هوفر وعضو هيئة التدريس في برنامج السياسة العامة في جامعة ستانفورد. جون ب. تايلور وكيل وزارة الخزانة الأسبق (2001-2005)، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد وكبير زملاء مؤسَّسة هوفر. وهو مؤلف كتاب "محاربون ماليون عالميون"، والمؤلف المشارك (مع جورج شولتز) لكتاب "اختر الحرية الاقتصادية".

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org