أميركا ومتلازمة اختلال التوازن الزائف

جيفري فرانكل

كمبريدج ــ تتمثَّل إحدى العقبات التي تحول دون إدارة حوار عام بَـنـَّـاء ومثمر في الولايات المتحدة في ميل وسائل الإعلام إلى الانخراط في عرض "اختلال توازن زائف" في تناولها للتقارير حول السياسات الاقتصادية. كلا، لا أعني "التوازن الزائف". يشير اختلال التوازن الزائف بدلًا من ذلك إلى إغراء الحط من قدر السياسات التي هي في حقيقة الأمر محاولات معقولة لإيجاد التوازن بين الأهداف المتنافسة. وقد رأينا أخيرًا أمثلة على هذا في مجال إصلاح الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، فضلًا عن مجال السياسة المالية والنقدية.

الواقع أنَّ مشكلة "التوازن الزائف" معروفة جيدًا. على سبيل المثال، تعطي تقارير وسائل الإعلام عن المناخ في بعض الأحيان الانطباع بأنَّ المتشككين الذين يطعنون في الحجة العلمية التي تؤكد تغير المناخ نتيجة لأنشطة بشرية يستحقون وزنًا مماثلًا للخبراء الذين يقولون إنَّ الانحباس الحراري الكوكبي مشكلة حقيقية تحتاج إلى العلاج. يتلخص التأثير النهائي هنا في إعطاء انطباع زائف حول أي الكفتين ترجحها الغالبية الساحقة من الأدلة العلمية.

على النقيض من ذلك، نجد أنَّ "اختلال التوازن الزائف" ليس مفهومًا مألوفًا ــ لكنه يجب أن يكون كذلك. يصف اختلال التوازن الزائف التقارير التي تشير إلى أنَّ سياسة بعينها تعدُّ في عموم الأمر رديئة أو لا تحظى بشعبية كبيرة، في حين أنها في حقيقة الأمر تسعى على النحو اللائق إلى التوفيق بين قوى أو أهداف متنافسة. عادة، تجمع التغطية الإخبارية على نحو مضلل بين منتقدين قادمين من اتجاهات مختلفة، مما يترك لدى جماهير الناس انطباعًا بأنَّ معظم الناس يكرهون هذه السياسة.

ظَـهَـرَ مثال أصلي على اختلال التوازن الزائف في التقارير حول قانون الرعاية الميسرة لعام 2010 (المعروف أيضًا بمسمّى "أوباما كير"). في السنوات التي أعقبت إقرار قانون الرعاية الميسرة، ذكر العديد من الصحافيين، نقلًا عن استطلاعات الرأي، أَّن غالبية الأميركيين يعارضونه. لكن تقاريرهم كانت تميل إلى الجمع بين المستجيبين للاستطلاع الذين رأوا أنَّ أوباما كير قطع شوطًا أبعد مما ينبغي وأعطى الحكومة دورًا أكبر مما ينبغي في إدارة حياة الناس والمستجيبين الذين رأوا أنَّ قانون الرعاية الميسرة كان من الواجب أن يعمل على توسيع تغطية التأمين الصحي بشكل أكبر مما فعل.

على سبيل المثال، ذكرت وسائل الإعلام أنَّ 62% من المستجيبين لاستطلاع أجرته شبكة CNN في عام 2013 عارضوا قانون الرعاية الميسرة. لكن هذا شمل 15% من الأميركيين ــ 24% من الـ 62% المصنفين على أنهم معارضون ــ الذين رأوا أنَّ القانون لم يحقق القدر الكافي من التغطية.

بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا، ارتفعت بشكل حاد نسبة الأميركيين الراغبين في توسيع نطاق تغطية قانون الرعاية الميسرة، وتراجعت نسبة أولئك الذين فضلوا إلغاءه. في استطلاع للآراء أجرته مؤسسة كايزر في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، على سبيل المثال، فَـضَّـلَ 62% من المستجيبين نظام الدفع الفردي "الرعاية الطبية للجميع".

في أغلب الأحوال، تكمن أفضل السياسات الاقتصادية في مكان ما عند وسط الطيف العام والخاص. الواقع أنَّ قِـلّة من الأميركيين نسبيًّا يريدون أن تتولى وكالة حكومية مثل دائرة الصحة الوطنية في المملكة المتحدة إدارة كل الرعاية الصحية. ولكن ربما يكون عدد أقل منهم مهووسين بالمسؤولية الفردية حتى إنهم يريدون منع سائقي سيارات الإسعاف من التقاط ضحية حادث ملقاة على جانب طريق سريع ما لم يتثبتوا ما إذا كان لديه تأمين صحي. ويتمثل المفتاح إلى حل هذه المعضلة في إيجاد التوازن المناسب.

كما بات الأميركيون يدعمون سياسة متوازنة في إدارة الرعاية الصحية. وهم يدركون أنَّ الجمهوريين فشلوا طوال عشر سنوات في اقتراح بديل قابل للتطبيق يحل محل "أوباما كير". في الوقت ذاته، أصبح عدد متزايد من الناخبين مدركين لحقيقة مفادها أنَّ "الرعاية الطبية للجميع" من شأنها أن تحرم الناس من التأمين الصحي الخاص الحالي.

بحلول مارس/آذار 2020، ذهب 73% من الناخبين إلى تفضيل طريقة معقولة لزيادة عدد الأميركيين المستفيدين من تغطية التأمين الصحي: السماح لهم بالمشاركة في خيار عام. كان باراك أوباما ذاته يريد هذه الميزة كجزء من قانون الرعاية الميسرة، لكنه رأي أنها غير قابلة للتطبيق سياسيًّا، كما أيدها جو بايدن في حملته الرئاسية عام 2020. ولم يساعد اختلال التوازن الزائف في وقت سابق عملية التداول العام في هذا الصدد.

تمثّل سياسة بايدن المالية توازنًا آخر بين طرفي نقيض. فقد تضمَّنت خطة الإنقاذ الأميركية بقيمة 1.9 تريليون دولار، التي استنت في مارس/آذار، زيادات كبيرة في الإنفاق الاجتماعي على أولويات مثل مكافحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) وتوفير الإغاثة للعمال المتضررين. وهو يسعى حاليًّا إلى الحصول على موافقة الكونجرس على حزمة إنفاق كبرى على البنية الأساسية.

يرى المحافظون الماليون أنَّ هذه النفقات مفرطة. لكن بايدن عارض على نحو مستمر مقترحات بعض الديمقراطيين اليساريين الباهظة التكلفة، مثل إعفاء الطلاب من جميع الديون المستحقة عليهم أو تقديم دخل أساسي شامل. وتشير استطلاعات الرأي إلى أنَّ موقفه المالي يحظى بشعبية.

للمساعدة على تغطية تكاليف الإنفاق المتزايد، يقترح بايدن تحصيل المزيد من الضرائب المستحقة للحكومة الفيدرالية بموجب القانون الحالي، وزيادة الضرائب بشكل كبير على الأميركيين الذين يكسبون أكثر من 400 ألف دولار سنويًّا وأولئك الذين يملكون عقارات تعادل قيمتها مليار دولار. لكنه تجنَّب مقترحات أقل عملية مثل ضريبة الثروة السنوية. ورغم أنَّ زيادات الضرائب نادرًا ما تؤيدها استطلاعات الرأي بمعزل عن غيرها، فإنَّ حزمة بادين المجمعة من الإنفاق على البنية الأساسية والمقترحات الضريبية تحقق نوعًا من التوازن الذكي.

ثمَّ هناك الحجة لصالح السياسة النقدية. مثله كمثل أغلب البنوك المركزية، سعى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لفترة طويلة إلى إيجاد التوازن المعتدل بين السياسة النقدية المفرطة في التساهل، والتي قد تغذي التضخم، والتشديد المفرط، الذي يهدد بإبطاء النمو وزيادة البطالة.

على مدار العقد الأخير أو نحو ذلك، اتهم بعض المراقبين بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وغيره من البنوك المركزية بالتسبب في تزايد اتساع فجوة التفاوت. لكن القراءة المتأنية للتقارير تكشف أنَّ منطق المنتقدين يتبع خطين متعارضين. فيزعم جزء منهم أنَّ المال السهل يؤدي إلى تفاقم التفاوت لأنَّ أسعار الفائدة المنخفضة والتيسير الكمي يساعدان على رفع أسعار الأسهم وغيرها من الأصول، مما يعود بالفائدة على الأغنياء إلى حد كبير.

لكن آخرين يرون أنَّ التيسير النقدي يعمل على تضييق فجوة التفاوت، ويشتكون من أنَّ البنوك المركزية كثيرًا ما تسبَّبت في تفاقم التفاوتات في الدخل من خلال تشديد السياسة في وقت أبكر من اللازم. وفقًا لوجهة النظر هذه، يجلب "اقتصاد الضغط العالي" إلى قوة العمل العاطلين عن العمل تقليديًّا، لكنه يجلب أيضًا الناس من على هوامش قوة العمل ــ بما في ذلك أولئك الذين كانوا عاطلين عن العمل لفترة طويلة، والأقليات، وذوي الاحتياجات الخاصة، فضلًا عن أولئك الذين يحملون سجلات جنائية أو يفتقرون إلى تاريخ توظيف مقنع. من الواضح أيضًا أنَّ التضخُّم مفيد للمدينين، الذين يميلون إلى الحصول على دخول أقل في المتوسط مقارنة بالدائنين.

كل من هذين التأثيرين حقيقي، برغم أنهما يعملان في اتجاهين متعاكسين. في أغلب البلدان، ليس من الواضح أيهما يُـعَـدُّ التأثير المسيطر. واتهام أيِّ بنك مركزي بالتسبب في تفاقم التفاوت دون إدراك هذا التوتر يعادل الوقوع فريسة لاختلال التوازن الزائف.

هذه الأمثلة الثلاثة تنبئنا بالكثير، لكنها ليست شاملة. فاختلال التوازن الزائف في كل مكان. والآن حان الوقت الذي يتعين علينا فيه أن ندرك الأمر على حقيقته.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

جيفري فرانكل أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org