بريطانيا ومقامرة اللقاح
سانجيف كريشنا، يولاندا أوجستين
لندن ــ كان البريطانيون يفتخرون بشدة بإنجازات مشكوك في أمرها عادة، من الانسحاب "المنتصر" من دنكيرك خلال الحرب العالمية الثانية إلى اتفاق الحد الأدنى للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي الذي توصَّلت إليه المملكة المتحدة أخيراً مع الاتحاد الأوروبي. لكن تطوير لقاح مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) على أرض بريطانية، كان انتصاراً حقيقياً. ومع ذلك، من خلال تأخير تسليم الجرعات الثانية من اللقاح، توشك الحكومة على تقويض هذا العمل الفذ ــ واستراتيجيتها في احتواء الجائحة بالكامل.
أوصت الشركات المصنعة لجميع اللقاحات الثلاثة المعتمدة حتى الآن في المملكة المتحدة ــ لقاح الحمض النووي المصنع محلياً بالتعاون بين شركة AstraZeneca وجامعة أكسفورد، واللقاح المنتج بالتعاون بين شركة Pfizer وشركة BioNTech، واللقاح Moderna mRNA ــ بتسليم الجرعة الثانية بعد 3 إلى 4 أسابيع من الأولى. ومع ذلك، قرَّرت حكومة المملكة المتحدة ترك فجوة مدتها 12 أسبوعاً بين الجرعتين.
يزعم المدافعون عن هذا القرار أنَّ الجرعة الأولى توفِّر القدر الأعظم من الوقاية الأولية من المرض السريري، في حين من المرجح أن تكون الجرعة الثانية أكثر أهمية لمدة الوقاية. ونظرا لمدى إلحاح أزمة الصحة العامة ــ واحتمال تأخير أو نقص الإمدادات في المستقبل ــ فإنَّ نشر جرعات محدودة على نطاق واسع الآن يبدو رهاناً أفضل من التلقيح الكامل لمجموعة صغيرة.
لكن الأمر لا يخلو من مخاطر كبرى محتملة. بادئ ذي بدء، جرى توجيه بعض الأطباء إلى إلغاء المواعيد الحالية للجرعات الثانية. قبل تلقي الجرعة الأولى، كان أولئك المرضى ليقبلوا بتلقي جرعتين وفقاً لجدول زمني محدد. وعلى هذا فإنَّ تغيير هذا الجدول يُـعَـدُّ انتهاكاً أخلاقياً، ما لم يُـمـنَـح المرضى الفرصة للاختيار بين الموافقة على الجدول الجديد أو الالتزام بالقديم.
لكي يحظى هذا الاختيار بالمصداقية، يجب الكشف عن جميع المعلومات حول جدول اللقاح الجديد. ومع ذلك، تظل المعلومات حول جدول الاثني عشر أسبوعاً قاصرة بشدة. الواقع أنَّ المزاعم بأنَّ تأخير الجرعة الثانية لن يقلِّل من فعالية اللقاح، بل وربما يؤدي حتى إلى زيادة الاستجابة المناعية (مستويات الأجسام المضادة)، تستند إلى تحليل لاحق لنتائج تجارب أجريت على لقاح واحد فقط.
بدأ الأمر بخطأ: فقد أعطيت مجموعة فرعية صغيرة من المتطوعين في تجارب لقاح AstraZeneca-Oxford جرعة أولى أصغر دون قصد. ثمَّ جرى تأخير الجرعة الثانية، ربما لأنَّ الخطأ كان لابد أن يخضع للتحقيق.
وعلى هذا فقد أجري تحليل جديد بعد الواقعة. أشاد التحليل بخطأ الجرعات على أنه اختراق جديد: فالجرعة الأولية الأصغر جعلت اللقاح أكثر فاعلية في حقيقة الأمر. ثمَّ أشار تحليلٌ ثانٍ إلى أن تأخير الجرعة الثانية لعب أيضاً دوراً في تعزيز فعالية اللقاح. لم تحدث أي تجارب سريرية إضافية مصممة لاختبار جدول الجرعات المطول، كما هو متوقع عادة.
على العكس من ذلك، قرر المسؤولون الطبيون في المملكة المتحدة أنَّ ما جرى على هذا اللقاح ينطبق على اللقاحين Pfizer/BioNTech وModerna. لكن لقاح AstraZeneca-Oxford لا يعمل بشكل مختلف عن اللقاحين الآخرين وحسب؛ بل إن الأخيرين كانا نتيجة لعمليات اختبار نموذجية، والتي أثبتت كونهما آمنين وفعّـالين للغاية. كيف إذن يمكن اعتبار نتائج التحليل اللاحق لتجربة معيبة للقاح مختلف تماماً ــ وأقل فاعلية ــ سبباً مقنعاً للابتعاد عن الصيغة المثبتة؟ ليس من المستغرب أن تنصح شركة Pfizer بعدم التخلي عن جدولها الذي أوصت به.
ربما يسوق المرء الحجة غير المختبرة وإن كانت تقوم على أساس قوي بأننا نفهم مناعة اللقاح جيداً إلى الحد الكافي لكي نتمكَّن من الزعم بأنَّ أيَّ استجابة مناعية بعينها تشبه إلى حد كبير استجابة مناعية أخرى. وحتى خلط اللقاحات أمر مقبول في بعض الأحيان.
لكن الحقيقة هي أننا لا نفهم بيولوجية ومناعة SARS-CoV-2 (الفيروس المسؤول عن إحداث مرض فيروس كورونا 2019) بشكل جيد على الإطلاق. بعد تحقيق شامل، أثبتت بعض التدخلات المشتقة تجريبيا كونها غير مناسبة بالفعل. على سبيل المثال، كشفت دراسة دقيقة زيف الادعاء بأنَّ العقار الذي كان محبباً لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذات يوم، هيدروكسي كلوروكوين، مفيد في مكافحة كوفيد-19؛ الواقع أنَّ علاج الملاريا هذا قد يؤذي المرضى.
ولكن ما الضرر الذي قد تحدثه الجرعة الثانية المتأخرة من اللقاح؟ إذا تلاشت الاستجابة المناعية لدى المرضى بين الجرعتين، فإنهم يصبحون بهذا عُـرضة للعدوى. ولكن من الممكن موازنة هذا الخطر من خلال زيادة عدد الأفراد الحاصلين على اللقاح، وخاصة في المناطق حيث يرتفع معدل انتقال العدوى.
يكمن التهديد الأشد عمقاً في احتمال ظهور أشكال مختلفة من الفيروس لا تصلح اللقاحات القائمة للتصدي لها. بمجرد تلقيح نسبة كبيرة من السكان، من الممكن أن يعمل الضغط المناعي على التعجيل بظهور مثل هذه الأشكال المختلفة عن طريق اختيار "متحولات الهروب" (التي لا تترك أجساماً مضادة للمقاومة).
قد يحدث هذا بصرف النظر عن جدول اللقاح المستخدم، لكن من المؤكد أنَّ فترة 12 أسبوعا ًكفيلة بزيادة الخطر. فمع تناقص المناعة، قد تزداد فرص اختيار متحولات الهروب، خاصة أنَّ الفيروس من المرجَّح أن يصيب الأشخاص الذين ستكون استجابتهم للقاح غير كاملة. وتماماً كما يُـعَـدُّ إكمال دورة المضادات الحيوية ضرورة أساسية لتقليل احتمال ظهور بكتيريا مقاوِمة، فإن تسليم القدر الأقصى من المناعة بسرعة (باستخدام جدول الجرعات التقليدي) من الممكن أن يساعد في الحفاظ على فاعلية اللقاح.
نظراً لأنَّ حكومة المملكة المتحدة نفذت بالفعل قرار تغيير الجدول، فلا يسعنا أن نفعل الكثير الآن غير اختبار الافتراضات التي استندت إليها في قرارها. ما هو مقدار المناعة الذي توفره جرعة واحدة من اللقاح بعد 84 يوماً؟ وهل يولد كلا النوعين من اللقاحات درجات متشابهة من المناعة؟ هل يكون خطر الإصابة بعدوى فيروس SARS-CoV-2 أعلى بين علامة الأربعة أسابيع وعلامة الاثني عشر أسبوعاً؟ هل تظهر أشكال فيروسية لديها متحولات هروب جديدة بين من يتلقون اللقاح؟
خلال الجائحة، قادت المملكة المتحدة الطريق في دراسة التدخلات الصيدلانية، بالاستعانة بدراسات عشوائية منضبطة جيدة التصميم والتي عملت على تمكين إدخال تحسينات هائلة على أنظمة رعاية المرضى على مستوى العالم. ولا يوجد أيُّ عذر للتخلي عن هذا النهج القائم على الدليل الآن. إذا لم تُـرجئ المملكة المتحدة تنفيذ قرارها بشأن جدول جرعات اللقاح، فينبغي لها أن تعمل على الأقل على إطلاق دراسات دقيقة لتقييم المخاطر. لقد أنتجت المملكة المتحدة بالفعل شكلاً متغيراً من الفيروس أكثر قابلية للانتقال. ولا يجوز لها تتسبب في مضاعفة الخطر الذي يهدد الصحة العامة بارتكاب أخطاء سياسية قد تكون قاتلة.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
سانجيف كريشنا أستاذ علم الطفيليات الجزيئية والطب في مركز العدوى التابع لجامعة سانت جورج في لندن. يولاندا أوجستين طبيبة في جامعة سانت جورج في لندن.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org