توفير خدمات النطاق العريض للجميع
جون ب. تايلور، جاك مالِري
ستانفورد ــ كشف مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) عن مواطن القوة ونقاط الضعف في البنية التحتية لشبكة الإنترنت عريضة النطاق في أميركا. فمن الناحية الإيجابية، نجد أنَّ الأمر لم يتوقَّف عند تحمُّل العرض للزيادة الهائلة في الطلب على التجارة الإلكترونية والرعاية الصحية عن بُعد والاتصالات، بل إنه توسَّع أيضاً. ومع تقلص إمكانية الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية بالشكل الطبيعي المعتاد بسبب تدابير التزام المنازل والتباعد الاجتماعي، نجحت الإنترنت في تعويض هذه الفجوة، على الأقل جزئياً، بتوفير الاتصال عن بُعد لعشرات الملايين من الأشخاص.
بأسلوب مقنع، أوضح دوجلاس هولتز إياكين، وهو مدير سابق لمكتب الميزانية في الكونجرس الأميركي، أنَّ الفضل في ذلك يرجع للسياسة التنظيمية الحكومية التي أتاحت للقطاع التكنولوجي فرصة للنمو بإطلاقها العنان للمنافسة والابتكار. فقد زادت القدرة الحاسوبية بواقع 100 ضعف خلال الأعوام الخمسة عشرة الأخيرة، وأضحى النطاق العريض عالي السرعة أكثر انتشاراً اليوم في الولايات المتحدة منه في أوروبا، كما تجنَّبت الولايات المتحدة الكثير من اللوائح والضوابط التنظيمية الكثيرة غير الضرورية التي من شأنها تقييد مبادرات القطاع الخاص. نتيجة لذلك، نجد أنَّ 90% من الأميركيين البالغين يستخدمون الإنترنت الآن، بينما بلغت نسبة الشركات التي تستخدم إنترنت الأشياء 25%.
فضلاً عن ذلك، تتوقَّع شركة ماكينزي أن يزيد عدد الأجهزة المتصلة بإنترنت الأشياء في العالم إلى 43 مليار جهاز بحلول عام 2023. ويمكننا القول بكل ثقة إنَّ استخدام الإنترنت سيواصل النمو طالما تجنبنا السياسات التنظيمية المعاكسة. وبحسب استقصاء أُجرِي أخيراً وشمل أميركيين باشروا عملهم عن بُـعد خلال جائحة فيروس كورونا، فإنَّ ثلاثة أخماس الذين تجاوبوا مع الدراسة أكدوا تفضيلهم للاستمرار في العمل عن بُعد. كذلك بدأ 20% من المديرين الماليين بالفعل في التخطيط لمستقبل لا تقل فيه نسبة العاملين عن بُـعد في شركاتهم عن 20% من قوة العمل.
كما أنَّ للعمل عن بُـعد مزايا كثيرة، فهو أكثر إنتاجية، وقد يثمر عن تحسُّن في الأداء يُقدر بنحو 13%. الأهم من ذلك، أنَّ هناك مجالاً لتحسُّن أكبر وأوسع بفضل انتشار التقنيات المبتكرة الهادفة للحد من معدلات دوران (تبديل) الموظفين والتغيب، وتشجيع التعاون والتفاعل الاجتماعي وصور التشابك الأخرى التي ترفع المعنويات. فمثلا أصبحنا نرى شركات تستخدم بالفعل جلسات منفصلة جانبية، أو اجتماعات مصغرة للتحاور والمناقشة، عبر منصة زوم بهدف مساعدة المديرين في التعرُّف إلى الموظفين، واتخاذ خيارات تنظيمية أصوب، أو للحيلولة دون أن يتسبب العمل من المنزل في الإضرار بالتطوُّر الوظيفي.
غير أنَّ جائحة كوفيد-19 فضحت أيضاً نقاط ضعف جوهرية في البنية التحتية القائمة للإنترنت. ومن أبرز المشكلات هنا عدم المساواة في الوصول لخدمات الإنترنت – أو "الفجوة الرقمية". وقد تفحص راج تشيتي، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، البيانات المتعلقة ببرامج منصة زيرن لتعلُّم الرياضيات عبر الإنترنت فوجد أنه عندما تحوَّلت العملية التعليمية إلى الوسائط الإلكترونية في الربيع الماضي، هبطت معدلات التعلم بين أبناء الأسر المصنفة في الربع الأدنى دخلا بنسبة 60%، بينما لم تتجاوز نسبة الانخفاض بين أبناء الأسر المنتمية إلى الربع الأعلى دخلا 20%. علاوة على ذلك، يفتقر 18% من الطلاب في الولايات المتحدة إلى الاتصال بالإنترنت على نحو يمكن التعويل عليه من المنزل، بينما لا تتعدى نسبة من تتوافر لهم خدمات النطاق العريض بين الأسر التي يقل دخلها السنوي عن 30 ألف دولار 56%.
من بين الأشياء الأخرى التي تُظهرها لنا تلك الجائحة أنَّ ضمان توافر اتصال رقمي لمن يفتقرون إليه أمر أساسي، بل وأهم من توفير الدعم المالي للطرق والجسور. ولحسن الطالع أنَّ هناك فرصاً واضحة للارتقاء بنظم معدات وبرمجيات الإنترنت الخاصة بنا، وبعض تلك الفرص تقوم على الرغبة الشعبية في زيادة الإنفاق على البنية التحتية.
من أمثلة ذلك، تشريع "أحفر مرة واحدة" المقدم أخيراً، والذي يهدف إلى زيادة سرعة نشر الإنترنت، حيث يطالب هذا التشريع بتركيب مسار للنطاق العريض ــ متمثلاً في أنابيب بلاستيكية تحوي كابل اتصالات مصنوعاً من الألياف البصرية ــ خلال إنشاء أي طريق يُموَّل فيدرالياً. وفي مجلس النواب الأميركي، تعاونت النائبة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا أنا إيشو مع النائب الجمهوري عن ولاية فيرجينيا الغربية ديفيد ماكينلي للتقدم بمقترح قانون الحفر لمرة واحدة الشامل لجميع الولايات لعام 2020، والذي يطالب الولايات بإخطار مزودي النطاق العريض بمشروعات الإنشاء على الطرق السريعة حتى يمكنهم التنسيق لتركيب نطاق عريض إضافي.
ثمة خيار آخر ملائم وهو توفير مزيد من التمويل المباشر لتحسين إتاحة خدمة الإنترنت بحسب التصور المقترح أخيراً لقانون الحلول الطارئة الشاملة للتعافي الصحي والاقتصادي، حيث يقترح الفصلان الثاني والثالث من مشروع القانون إنشاء صندوق طوارئ خاص بتمويل اتصالات النطاق العريض، لتوسيع الاتصال بالإنترنت بطرق عدة تشمل تسديد حتى 100 دولار مقابل كل جهاز كمبيوتر متصل بالإنترنت تقوم الشركات بتوفيره لذوي الدخول المنخفضة من الأسر أو طلاب مدارس التعليم الأساسي أو الثانوي.
تثير الفجوة الرقمية مشكلة تقليدية فيما يتعلق بالتسعير، وهي ما تُعرَف أحياناً بالتمايز السعري. ولعلاج تلك المشكلة، ينبغي لنا التفرقة بين ذوي المرونة السعرية الأدنى والأعلى ــ أي من يمكنهم شراء خدمة الإنترنت دون دعم، ومن لا يمكنهم ذلك. ويمكن تحديد ذلك التمييز وفقاً لعوامل المكان والزمان والدخل، أو بتقديم سعر أقل للأسر التي تعول أطفالاً (على افتراض أنها غالباً ما تمثِّل مستهلكين ذوي مرونة سعرية عالية).
لكن زيادة استخدام النطاق العريض بين الأسر المنخفضة الدخل يتطلَّب ما هو أكثر من تشجيع التطوير الخاص وإضافة الدعم، إذ لا يميل الأشخاص الذين يفتقرون إلى خدمات الإنترنت إلى تغيير واقعهم غالباً. فبحسب استقصاء أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2013، قال 34% من المشاركين غير المتصلين بالإنترنت إنهم لا يستخدمون الإنترنت لأنهم غير مهتمين بالخدمة، فيما حدد 19% فقط التكلفة كسبب لعدم استخدامهم الإنترنت. وبالتالي لا بدَّ من شرح وتوضيح مزايا النطاق العريض على نحو أوسع وأشمل لتعليم هؤلاء الذين يفتقرون إلى خدماته.
خلال الأشهر القليلة الأخيرة، لم تقتصر جائحة كوفيد-19 على إبراز فوائد النطاق العريض، بل أظهرت أيضاً ضرورة إتاحة الإنترنت للجميع. لذا ينبغي لأي تشريع جديد ــ سواء على المستوى الفدرالي أو المحلي ــ أن يركز على خلق الحوافز وتقديم الدعم المالي الإضافي لمد خدمات النطاق العريض للمحرومين منها، فلم يعد الاتصال الرقمي رفاهية، بل بات ضرورة.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al-Semellawi
جون ب. تايلور وكيل وزارة الخزانة الأميركية من عام 2001 إلى عام 2005، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، وزميل رفيع المستوى في مؤسسة هوفر. وهو أيضاً مؤلف كتاب محاربون ماليون عالميون وكتاب اختاروا الحرية الاقتصادية (بالاشتراك مع جورج ب. شولتز). جاك مالِري باحث مساعد في مؤسسة هوفر.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org