غياب الصين عن النقاش حول التضخم المُفرط

جيمس كي. جالبرايث

أوستن - أثار حجم خُطة الإنقاذ الأمريكية (ARP) التي وضعها الرئيس الأمريكي جو بايدن- بقيمة 1 تريليون دولار في الإنفاق لهذا العام، و900 مليار دولار أخرى بعد ذلك، إضافة إلى برنامج البنية التحتية والطاقة المُتجددة الذي تم التعهد به بقيمة 3 تريليونات دولار - مخاوف العديد من خبراء الاقتصاد الكلي. والسؤال المطروح الآن: هل مخاوفهم مُبررة؟

في الواقع، يمكن تجاهل خبراء الاقتصاد في البنوك وسوق السندات، خاصة بعد إثبات عدم صحة توقعاتهم في السابق. في العام الماضي، حذر العديد من هؤلاء الخبراء من أنَّ قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي في مكافحة فيروس كورونا (CARES) الذي تبلغ قيمته 2.2 تريليون دولار من شأنه أن يؤدي إلى التضخم المفرط من خلال زيادة حجم الكتلة النقدية بشكل هائل. لكن ذلك لم يحدث.

ومن أبرز النقَّاد أتباع النظرية الكينزية الجُدد مثل لورانس سامرز من جامعة هارفارد والعديد من أتباعه. لدى سامرز تحليلاً مُختلفًا. كان عمه، بول سامويلسون - بالاشتراك مع زميله روبرت سولو الحائز على جائزة نوبل في المستقبل - من قدم مُنحنى فيليبس الشهير في عام 1960. قدم هذا النموذج البسيط بعضًا من أنجح التنبؤات التجريبية في التاريخ الاقتصادي خلال عقده الأول، وأصبح قاعدة اقتصادية عامة منذ ذلك الحين.

من خلال الاعتماد على البيانات المستقاة من بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر والولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب، افترض منحنى فيليبس وجود علاقة عكسية بين معدلات التضخم والبطالة: فمع انخفاض معدلات أحدهما، ترتفع مُعدلات الآخر. يبدو أنَّ ذلك ما يُثير قلق سامرز في الوقت الحالي. إن حزم الإنقاذ والدعم الفيدرالي المختلفة هائلة بالفعل، حيث تُمثل خطة الإنقاذ الأمريكية وحدها نحو 6٪ من الناتج المحلي الإجمالي. والواقع أنَّ الحجم الكامل للإنفاق الفيدرالي أكبر من ذلك، حيث بلغ 13٪ من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لإحدى التقديرات. وعلى سبيل المقارنة، فإنَّ "فجوة الإنتاج" المقدرة تقليديًّا (مقدار الركود في الاقتصاد) تصل إلى ربع ذلك فقط، وربما أقل.

علاوة على ذلك، فإنَّ معدل البطالة الرسمي، الذي يبلغ 6.2٪، ليس بعيدًا تمامًا عن مستوى 4٪ الذي يُعتقد تقليديًّا أنه يُمثل "العمالة الكاملة". يتركز أولئك الذين يتلقون مدفوعات الإغاثة الحكومية في الجزء السفلي من توزيع الدخل، وبالتالي، يتعين عليهم من الناحية النظرية إنفاق أكثر وتوفير قدر أقل من المبالغ النقدية المدفوعة، لاسيما بالنظر إلى أنَّ العديد من الأسر لديها بالفعل بعض المدخرات المستمدة من قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي في مكافحة فيروس كورونا. من خلال منطق منحنى فيليبس القديم، يمكن أن يؤدي برنامج "التحفيز" الجديد إلى انخفاض معدل البطالة وإلى العمالة الكاملة وارتفاع معدل التضخم من 0.6٪ في عام 2020 إلى 2-3٪ على الأقل.

ومع ذلك، فقد واجه منحنى فيليبس انتقادات شديدة منذ عام 1969. ولمدة 25 عامًا بعد ذلك، رأى التفكير الاقتصادي السائد أنه ليس منحنى مُنحدر إلى الأسفل بل خطًّا رأسيًّا، على الأقل "على المدى الطويل". كان المعنى الضمني أنَّ أيَّ محاولة لخفض معدل البطالة إلى ما دون "المعدل الطبيعي" أو "معدل التضخم غير المتسارع للبطالة" (NAIRU) من شأنه أن يؤدي إلى حدوث تضخم مُفرط. إنني على يقين من أنَّ سامرز لديه ثقة أكبر في الرأسمالية الأمريكية أكثر مما توحي به وجهة النظر هذه؛ ومع ذلك، كان دائمًا يميل إلى تبنّي هذه المدرسة الفكرية المتقلبة.

ومن ناحية أخرى، أثبتت الوقائع عكس فكرة مُنحنى فيليبس. منذ أوائل الثمانينيات - ومن منتصف التسعينيات والمرحلة التي أعقبتها - لم يحدث أي تضخم، ولم يكن انخفاض معدل البطالة يميل إلى إحداثه. إنَّ العلاقة بين معدلات التضخم والبطالة ليست رأسية أو مُنحدرة للأسفل، ولكنها مُسطحة، وهذا يعني أنها غير موجودة - هذا إن وُجدت. وقد أشرتُ إلى ذلك في مقال صدر في عام 1997 بعنوان "حان الوقت للتخلص من مُعدل التضخم غير المتسارع للبطالة". وبعد مرور إحدى وعشرين عامًا، تمكن أوليفييه بلانشارد من أتباع النظرية الكينزية الجُدد من طرح نفس السؤال في نفس الصحيفة: "هل ينبغي لنا أن نرفض فرضية المعدل الطبيعي؟".

ماذا حدث؟ يمكن تلخيص الإجابة في كلمة واحدة: الصين. منذ أوائل الثمانينيات، بدأ الدولار الأمريكي في الارتفاع، مما أدى إلى انهيار القاعدة الصناعية في الغرب الأوسط والنقابات العُمالية في الولايات المتحدة. أدى الانهيار الذي أعقب ذلك في أسعار السلع الأساسية العالمية- والاتحاد السوفييتي معها- إلى تمهيد الطريق أمام الصين للظهور باعتبارها الجهة الرائدة في إنتاج السلع الاستهلاكية المُصنعة على مستوى العالم.

في هذه الأثناء، تلاشت جميع القوى التي أدت إلى ارتفاع أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة بعد عام 1970، بما في ذلك خفض قيمة الدولار، وارتفاع أسعار النفط، وتسويات تكاليف المعيشة بالنسبة للعاملين في مجال التصنيع (والتي تمَّ تمريرها في هيئة أسعار أعلى). لم تكن العمالة الكاملة السبب في حدوث ذلك، وبالتالي لم يتسبَّب التوظيف الكامل في أواخر التسعينيات وفي الفترة التي سبقت اندلاع جائحة كوفيد 19 في إعادة التضخم. وعلاوة على ذلك، لم يعد هناك ميل إلى تغذية تقلبات أسعار النفط بالأجور والأسعار الأخرى، وذلك لأن الوظائف الأمريكية اليوم تعمل بشكل رئيس في مجال الخدمات، حيث يكون سعر العمالة هو السعر الذي تدفعه.

لكن، ألن تقوم الصين في هذه المرحلة باستغلال ارتفاع الطلب الأمريكي لرفع الأسعار؟ الجواب هو لا، نظرًا إلى أنَّ الشركات الصينية تخشى فقدان حصتها في السوق أمام البلدان الأخرى، ولأنَّ القيم الاقتصادية في الصين لا تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح بل الاستقرار الاجتماعي ونمو الإنتاج المُطرد وخفض التكاليف من خلال التعلم والتقنيات الجديدة. لن تنفر مثل هذه الشركات زبائنها من خلال رفع الأسعار لاستغلال القليل من الطلب الإضافي. قد تكون هناك بعض الطلبات المتراكمة وعمليات التسليم المتأخرة، وبعض الزيادات في الأسعار بسبب ارتفاع تكاليف الشحن وارتفاع الأجور في الصين. ومع ذلك، فإنَّ الخطر التضخمي الحقيقي الوحيد يصدر من أولئك الذين يشعلون نيران الحرب مع الصين. إنَّ الحرب تكون دائمًا تضخمية. إنَّ شنَّ الحرب مع أكبر مورد للسلع لدينا سيكون كابوسًا للتضخم.

في الواقع، لا تُعاني الأسر الأمريكية من نقص في الهواتف الذكية وغسالات الأطباق وأحذية الجري. ما ينقصها هو الثقة والأمن. وبالتالي، فإنَّ الكثير من أموال خطة الإنقاذ لبايدن لن تذهب إلى الصين على الإطلاق. سوف تتجه نحو الادخار من أجل تغطية التكاليف المستقبلية، والرهون العقارية، والشركات، وتسديد الديون.

صحيح أنَّ بعض هذه الأموال سيتم إنفاقها على الخدمات التي تمَّ فقدانها في العام الماضي، الأمر الذي يؤدي إلى إحياء الوظائف في تلك القطاعات إلى حدٍّ ما. سيتم استخدام جزء من هذه الأموال لصيانة أو إصلاح أو تحديث المساكن - وهي النفقات التي تمَّ إهمالها عندما كان الناس يخشون تكبد تكاليف إضافية لدفع أجر سباك أو كهربائي أو صباغ. وسيتم تخصيص بعض هذه المساعدات المالية لبناء منازل جديدة، كما يحدث بالفعل.

أمّا بالنسبة للباقي، فسيتم تخصيص جزء كبير منه لشراء الأسهم والسندات والعقارات - خاصة الأراضي وبيوت الضواحي والمنازل الريفية التي أصبحت ثمينة أثناء الجائحة. في هذه المرحلة على وجه الخصوص سترتفع الأسعار، مما يزيد من إثراء أولئك الذين يمتلكون بالفعل مثل هذه الأصول. إنَّ فجوة الثروة الهائلة بالفعل ستزداد اتساعاً. نظرًا إلى أنَّ الأسهم والسندات والمنازل القائمة والأراضي ليست سلعًا استهلاكية منتجة حديثًا، فإنَّ هذه الزيادات في الأسعار لن تظهر في المؤشرات التي تقيس التضخم. سيتعين علينا مراقبتها من خلال مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" وعلى الموقع العقاري الأكبر على مستوى العالم والأكثر شهرة "زيلو"، حيث يتم الترحيب بارتفاع الأسعار باعتباره أمرًا جيدًا.

يتكون الدرس المستفاد من شقين. أولاً، لم يعد الاقتصاد الكلي السائد المؤيد للنظرية الكينزية الجديدة في الستينيات دليلاً مُفيدًا لفهم الاقتصاد الأمريكي الذي أصبح مُرتبطًا بشكل وثيق مع بقية العالم وأعيد تشكيله بشكل أساسي إثر صعود الصين. ثانياً، لا تُشكِّل مشكلات عدم المساواة وعدم الاستقرار التي تعاني منها أمريكا في واقع الأمر قضايا تتعلق بالندرة المادية. إنها تعكس سوء التوزيع غير المستدام للثروة والسلطة.

جيمس كي. جالبرايث هو أستاذ الدراسات الحكومية ورئيس العلاقات الحكومية / التجارية في كلية ليندون بي. جونسون للشؤون العامة بجامعة تكساس في أوستن. في الفترة ما بين عامي 1993 و1997، شغل منصب كبير المستشارين الفنيين لإصلاح الاقتصاد الكلي في لجنة تخطيط الدولة الصينية. وهو مؤلف مؤخرًا لكتاب بعنوان "عدم المساواة: ما يحتاج الجميع إلى معرفته".

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org