يا مواطني العالم، اتحدوا!
نانسي بيردسال
واشنطن، العاصمة- لقد أدخل وباء فيروس كورونا العالم في حالة خطيرة من عدم التوازن، حيث أصبحت الدعوات المضللة للقومية الشعبوية، والضرورة الملحة الواضحة للتعاون العالمي والعمل الجماعي، حبيستي صراع مُميت بينهما (بالمعنى الحرفي للكلمة). وللأسف، من حقَّق فوزاً حتى الآن هي القومية. ولكن، يمكن للمواطنين ذوي العقلية العالمية في كل مكان أن يستأنفوا القتال، بل يجب عليهم ذلك- بدءاً بالولايات المتحدة.
وفي العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، اضطلعت أمريكا بدور الهيمنة العالمية الحميدة (في الغالب). إذ أكسبها تفوقها الاقتصادي والعسكري مصلحة واضحة في إرساء قواعد اللعبة والحفاظ عليها، فيما يتعلَّق بالتعاون الدولي والعمل الجماعي. ولهذا السبب، اتخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في إنشاء مؤسسات مثل الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية (سابقاً الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة).
ولكن مع تضاؤل القوة والنفوذ الأمريكيين، على الأقل نسبة إلى الصين، عادت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الانعزالية. إذ مع فرض الحد الأدنى من الضغط السياسي المحلي، اتخذ ترامب إجراءات عدوانية مناهضة للهجرة، وواصل حرباً تجارية مع الصين، ورفض التعاون مع حلفاء مجموعة السبع، ومجموعة العشرين لمعالجة التداعيات الاقتصادية للوباء.
ومع غياب الولايات المتحدة عن العمل الجماعي العالمي، شعرت الحكومات الأخرى بالجرأة لتحذو حذوها في الاستجابة للفيروس من خلال سياسة "إفقار الجار"، مثل تقييد صادرات الطعام والكمامات، والتسارع للحصول على الملكية الفكرية، وأرباح لقاح كوفيد-19 الفعّال.
وفي الوقت نفسه، فإنَّ قرار ترامب بتجميد التمويل الأمريكي لمنظمة الصحة العالمية في خضم الوباء تعبير رمزي عن مذهبه الذي يحمل شعار "أمريكا أولاً" أكثر من كونه قراراً مالياً. والمفارقة بالنسبة لأميركا هي أنَّ مناهضة ترامب للعولمة بازدراء تنعكس في تعميق الاستقطاب في الداخل، حيث يكشف الوباء عن التفاوتات الموجودة مسبقاً ويضخمها.
وللأسف، لا يوجد حالياً أيُّ مكان آخر للبحث عن القيادة الدولية. إذ يكافح الاتحاد الأوروبي نفسُه بعد البريكسيت مع القومية ذات التوجه الداخلي بين دوله الأعضاء، ولم يتمكَّن من الاتفاق حتى على تقاسم متواضع لأعباء إيواء اللاجئين. وما زال الاتحاد يقف في طريق مسدود بشأن مسألة إصدار "سندات كورونا" للمساعدة على إنقاذ اقتصاداتها خلال الأزمة الحالية.
وفي غضون ذلك، تفتقر الصين في عهد الرئيس، شي جين بين، إلى الغريزة والمصداقية الدولية اللازمتين للدفع بعجلة التعاون العالمي. ومن المؤكد أنَّ الصين تستوعب دوراً قيادياً. فقد انضمت إلى دائني مجموعة العشرين الآخرين في تعليق خدمة ديون البلدان المنخفضة الدخل، لدى جميع الدائنين الثنائيين الرسميين–من بينهم الصين التي تعدُّ واحدة من الأكبر والأغلى، وهذا راجع إلى مبادرة الحزام والطريق– والتي تعهدت بتقديم ملياري دولار لمنظمة الصحة العالمية. ولكن في الوقت نفسه، تستغل الصين الوباء من خلال استعراض عضلاتها في هونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي. وتهدف خطواتها الإيجابية إلى المنافسة مع الولايات المتحدة أكثر منه إلى تشجيع التعاون الدولي.
إنَّ رد الفعل القومي التلقائي على هذا الوباء ليس مفاجئاً. وعلى الرغم من أنَّ فيروس كورونا لا يعرف الحدود، شأنه في ذلك شأن تغير المناخ، فإنَّ معظم الناس يُعَرِّفون أنفسهم على أنهم مواطنون في البلاد التي ينتمون إليها. ونحن جميعاً قوميون تقريباً في داخلنا- أو وطنيون، بعبارة أفضل إذا أردت.
وفضلاً عن ذلك، من الصعب تصور بديل للنظام الدولي الحالي القائم على دول ذات سيادة. إذ ينظر المؤرخون عموماً إلى إنشاء نظام الدولة الحالي على أنه مساهمٌ رئيسٌ في عالم أقل عنفا،ً ويعيش فيه عدد أكبر من الناس حياة أفضل من أي وقت مضى. وبالفعل، قال الخبير الاقتصادي، داني رودريك، إنَّ الدولة القومية هي شرط مسبق للديمقراطية الليبرالية، ولا يمكن للديمقراطية أن تعمل على المستوى العالمي.
وفي الوقت نفسه، ذكَّرنا الوباء بأننا نعتمد بشدة على التعاون بين الدول. ويمكن أن يكون هذا التعاون صريحاً، كما هي الحال مع الاتفاقيات التجارية، أو ضمنياً، مثل إدارة المخاطر المالية العالمية، أو تحقيق أهداف اتفاقية باريس بشأن المناخ. واليوم، سيهددنا الفشل جميعاً في التعاون في معالجة كوفيد-19، لأنَّ الجميع عرضة للإصابة بالفيروس إلى أن يتحصن منه الجميع.
كذلك، تتطلب مكافحة القومية المدمِّرة التي يجسدها ترامب، أن يدفع المواطنون الصالحون في كل دولة حكوماتهم إلى التعاون ودعم المؤسسات المتعددة الأطراف، والعمل على الاستفادة من فوائد الالتزام بالقواعد والمعايير الدولية المتفق عليها. وخلال هذا القرن، كما لم يحدث من قبل، ستكون هذه الجهود في مصلحة جميع البلدان ومواطنيها.
ولحسن الحظ، لا يمنع تحديد المرء لهويته على أنه مواطن بلده من أن يكون مواطناً عالمياً أيضاً. ففي أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على سبيل المثال، وافق أكثر من 80٪ من المشاركين في استطلاع في 17 دولة متقدمة على أنَّ لديهم "مسؤولية أخلاقية للعمل على الحد من الجوع والفقر المدقع في البلدان الفقيرة"
إننا نستفيد جميعاً من عمل منظمة الصحة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة الدول السبع، ومجموعة العشرين؛ وعندما تتعثر هذه المنظمات، لا ينبغي أن نلوم ضعفها، بل إخفاق الدول الأعضاء القوية في الحفاظ على قوتها. ومثلما يخلق الوباء شعوراً بالتضامن بين مواطني الولايات المتحدة، فإنه يمكن أن يُعلم الناس في كل مكان أن يفكروا خارج حدودهم الوطنية، وأن يعتمدوا فكرة التضامن العالمي.
ويجب على المواطنين الأمريكيين أخذ زمام المبادرة في هذا الجهد. لقد اعتاد الأمريكيون على رؤية حكومتهم تتقدم خلال الأزمات العالمية- كما فعلت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش في مكافحة الإيدز، وكما فعلت إدارة باراك أوباما في معالجة الأزمة المالية العالمية، ووباء الإيبولا. وعليهم الآن أن يطالبوا إدارة ترامب بمكافحة الوباء باستراتيجية توازن بين المصالح الوطنية لأمريكا وبين نطاقها وقدرتها الدوليين اللذين لا غنى عنهما.
ولم تعد الولايات المتحدة المهيمنة عالمياً، لكن قيادتها ما زالت الخيار الأفضل للعالم في الأزمة الحالية. وحان الوقت لوضع هذا الاقتراح على المحك.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
تشغل نانسي بيردسال منصب رئيسة فخرية، وكبيرة الزملاء في مركز التنمية العالمية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org