ثروة الأمم وصحتها
ويليام هـ. بيوتر
نيويورك ــ إنَّ العواقب التي قد يخلفها مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) غير مؤكدة على الإطلاق، لكنها قد تكون كارثية. اعتباراً من الخامس من مارس/آذار، حددت منظمة الصحة العالمية 85 دولة ومنطقة حيث ظهرت حالات إصابة نشطة بفيروس كورونا 2019 ــ ارتفاعاً من 50 دولة في الأسبوع السابق. حتى الآن، جرى الإبلاغ عن 100 ألف حالة إصابة بالعدوى فضلا عن 3800 وفاة في مختلف أنحاء العالم، ويكاد يكون من المؤكد أن هذه الأرقام لا تعبر بالكامل عن حجم ونطاق تفشي المرض.
لكي نفهم كيف من الممكن أن يتسبَّب الوباء في إحداث ركود عالمي (أو ما هو أسوأ)، فلا نحتاج إلا إلى الاطلاع على الفصل الثالث من القسم الأول من كتاب آدم سميث ثروة الأمم: "إنَّ تقسيم العمل مقيد بنطاق السوق". لقد بات من الواضح بالفعل أنَّ الوباء من الممكن أن يتسبب في إحداث صدمة سلبية على جانب العرض إذا انخفض حجم العمالة المتاحة بسرعة بسبب مرض (أو وفاة) الأشخاص في سن العمل نتيجة للمرض. الأمر الأسوأ من ذلك أنَّ انتشار الخوف الطليق من العدوى من الممكن أن يقود إلى تعليق سلاسل الإمداد الحرجة. كما تولي وسائل الإعلام بالفعل قدراً كبيراً من الاهتمام لسلاسل الإمداد العابرة للحدود التي تشمل الصين وكوريا الجنوبية وغيرهما من دول المواجهة؛ ولكن مع ارتباطها بشركات في مختلف أنحاء العالم، لا تشكِّل هذه المراكز سوى غيض من فيض.
علاوة على ذلك، لا تقل سلاسل الإمداد المحلية عُـرضة للخطر. فمع انتشار فيروس كورونا، سينقطع عدد أكبر من الروابط بين المشترين والبائعين ــ الروابط الوسيطة والنهائية. الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ "نطاق الأسواق" سوف يتقلص، كما ستتقلص على نحو مضطرد مكاسب تقسيم العمل ــ التي تشكِّل واحدة من محركات "ثروة الأمم" الرئيسة ــ بسبب الحاجة إلى المزيد من الموارد لإنتاج محلي ما كان يستورد في السابق بثمن أقل من أماكن أخرى. ومن المؤكد أنَّ العودة إلى إنتاج الكفاف أو الاكتفاء الذاتي، حتى ولو كان ذلك مؤقتاً، سيكون مدمراً بشكل هائل على المستوى الاقتصادي.
في الثالث من مارس/آذار، نشرت الحكومة البريطانية "خطة عمل" يبدو أنها تحتوي على استراتيجية متماسكة بشكل معقول تضع رأي آدم سميث نصب عينيها وتعالج أزمة الصحة العامة في ذات الوقت. يدعو مصممو هذه الاستراتيجية إلى استجابة من أربع مراحل متتالية: الاحتواء، والتأخير، والبحث، والتخفيف. ولكن في ضوء انتشار فيروس كورونا في الصين، وكوريا الجنوبية، وغير ذلك من الدول المصابة بالمرض بشدة، فإنَّ فرصة المملكة المتحدة لاحتواء المرض قد ولت. ففي الرابع من مارس/آذار وحدة، قفزت حالات الإصابة بفيروس كورونا 2019 في البلاد بنحو 60%، وحصد الفيروس أول الأرواح في اليوم التالي. والعديد من هذه الحالات الجديدة (بما في ذلك حالة المريض المتوفى) لم تكن راجعة إلى السفر إلى الخارج، مما يشير إلى أنَّ الانتقال المجتمعي جارٍ بالفعل.
وهذا يقود المملكة المتحدة إلى مرحلة "التأخير"، حيث تتمثّل الأولوية القصوى في تحديد الحالات في وقت مبكر وعزلها. وهنا من الممكن أن يلعب الوعي العام دوراً مساعداً. يتلخص الهدف في كسب الوقت إلى أن تحل الأشهر الأكثر دفئاً، أو إلى أن يتم إنتاج اللقاح (مرحلة "البحث") ونشره على نطاق واسع.
بمجرد تمكّن الوباء من المملكة المتحدة (وغيرها من البلدان التي تمثّل أغلب الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، فإنها بذلك تدخل بشكل كامل إلى مرحلة "التخفيف"، حيث تتمثل الأولوية في توفير الخدمات الأساسية ومساعدة الأكثر عُـرضة للخطر. في هذه المرحلة، لا يكمن الخطر في تباطؤ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وحسب، بل في دخول الناتج والإنتاج في حالة من الانحدار المادي المستمر، بسبب تعطل القنوات القائمة للمعاملات السوقية.
في هذا السيناريو، سرعان ما تتضاعف شدة صدمة العرض السلبية الأولية (بما يتفق مع رأي سميث) بفِعل صدمات الطلب التي تحدث عنها جون ماينارد كينز. يبدأ تراجع الطلب الإجمالي مع أولئك الذين يعجزون عن العمل بسبب المرض أو الذين يمنعون من الوصول إلى العمل، لكن هذا التأثير يتضخم بفِعل زيادة الادخار الاحترازي نتيجة لعدم اليقين، فضلاً عن انخفاض النفقات الرأسمالية. الأسوأ من ذلك هو أنَّ هذا المناخ الجديد من عدم اليقين قد يدوم لسنوات، اعتماداً على ما إذا كان فيروس كورونا ليتحول إلى مشكلة متكررة.
مع انخفاض أسعار الفائدة بشدة بالفعل، يصبح المزيد من التخفيضات من قِبَل البنوك المركزية بين الأدوات المتاحة الأقل فعالية لتخفيف مثل هذه الظروف الاقتصادية. وإلا فإنَّ المؤسسات القابلة للحياة التي قوطعت أوامر الشراء التي تصدرها لأسابيع أو حتى أشهر قد تواجه خطر الإفلاس. ولا ينبغي للبنوك المركزية، والهيئات التنظيمية المالية، وغير ذلك من جهات صنع السياسات أن تكتفي بإتاحة الائتمان بشروط ميسرة، بل يتعين عليها أن تعمل أيضاً على تحفيز (أو توجيه) المقرضين لدعم قدرة المقترضين المتضررين من فيروس كورونا على سداد ديونهم. وتوفر ميزانيات البنوك المركزية الوسيلة لإصلاح الثغرات في الموارد المالية المتاحة للشركات والأسر. ورغم أنَّ هذا التدخل من شأنه أن ينتج حتماً عدداً من الشركات الميتة الحية التي كانت لتفشل حتى في غياب الوباء، فإن معالجة هذه القضية من الأفضل أن تترك ليوم لاحق.
أخيراً، ينبغي للحكومات أن تكون مستعدة لتحمل فاتورة الأجور للعاملين المصابين بالمرض أو المحتجزين في الحجر الصحي. ومن الممكن استخدام الحوافز المالية التقليدية (الإنفاق العام الموجه بذكاء والتخفيضات الضريبية) لمعالجة النقص في الطلب الفعّال.
الواقع أنَّ صنّاع السياسات يمتلكون الأدوات الاقتصادية التي يحتاجون إليها للحد من الضرر الناجم عن فيروس كورونا. ولكن حتى مع تطبيق هذه التدابير، قد لا يتمكّن الاقتصاد العالمي من تجنُّب سيناريو كئيب ــ أقرب إلى الكساد منه إلى الركود.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
ويليام هـ. بيوتر كبير خبراء الاقتصاد الأسبق لدى سيتي جروب، وهو أستاذ زائر في جامعة كولومبيا.