دروس من الإغلاق في إنجلترا
محمد عبد الله العريان
كمبريدج ــ من الواضح أن تحذير رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أخيراً من أنَّ رفع الإغلاق الثالث الحالي في إنجلترا لن يكون بسهولة "افتح يا سمسم"، على الرغم من انخفاض عدد الإصابات والتقدم المشجع الذي أحرزه برنامج التطعيم ضد مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، لا يجب أن يكون مفاجئاً لأي شخص متابع لديناميكيات الفيروس الأساسية. لماذا إذن لم تَـسـلُـك حكومة جونسون هذا النهج خلال عمليتي الإغلاق السابقتين؟
على الرغم من ميل بعض المراقبين حتى الآن إلى توجيه أصابع الاتهام إلى أخطاء ارتكبتها الحكومة، فإنَّ التفسير الواقعي أشد تعقيداً. وهو يحمل أيضاً دروساً مهمة لإدارة الأزمات في المستقبل.
بعد أن فَـرَضَ الإغلاق الأولي في إنجلترا في الربيع الماضي كبحاً مفاجئاً وقوياً للتفاعلات الاجتماعية وتسبَّب في إلحاق أضرار كبيرة بالاقتصاد، كانت حكومة المملكة المتحدة حريصة على إعادة الحيوية والنشاط إلى القطاعات التي تضرَّرت بشدة. على سبيل المثال، أطلقت الحكومة خطة "تناولوا طعامكم بالخارج لمساعدة الاقتصاد"، التي عرضت خصومات على الوجبات في المطاعم والحانات والمقاهي خلال شهر أغسطس/آب. ورغم أنَّ الحكومة كانت أقل تساهلاً عندما خرجت البلاد من الإغلاق الثاني في ديسمبر/كانون الأول، فإنها سمحت بقدر معين من التفاعل الاجتماعي والاقتصادي وخفَّفت القيود في قسم كبير من البلاد أثناء عطلة الكريسماس.
في كل من الحالتين، اضطرت الحكومة في وقت لاحق إلى الضغط على المكابح بشدة مع ارتفاع عدد الإصابات بكوفيد-19 ومعدلات الإدخال إلى المستشفيات. ولم تسلم من المشكلات الجهود المؤقتة الرامية إلى تطوير نهج توفيقي من خلال "نظام متعدد الطبقات" متباين إقليمياً من القيود ــ خاصة أنَّ تقييد حركة الناس كان أمراً بالغ الصعوبة. وأفضى هذا بدوره إلى إشعال شرارة تبادل اللوم، مع اعتراض كثيرين في مستهل الأمر على التغييرات المتكررة في سياسة الحكومة والرسائل المربكة حتماً التي تلت ذلك.
ولكن منذ فَـرَضَ جونسون الإغلاق الثالث في الخامس من يناير/كانون الثاني، أشارت الحكومة مراراً وتكراراً إلى أن الخروج من الأزمة في نهاية المطاف سيكون تدريجياً وبطيئاً وعُـرضة للعديد من المراجعات استناداً إلى الـعِـلم والأدلة، على الرغم من طبيعة نشر اللقاح التي غيَّرت القواعد. ومن إعادة فتح المدارس إلى استئناف التجارة بشكل طبيعي، تدير الحكومة التوقُّعات بطريقة متماسكة وحكيمة.
يرجع التفسير الأفضل للكيفية التي توصَّلت بها الحكومة إلى نهجها الحالي إلى الفجوات المعلوماتية، ومنهجية المخاطر، والتسلسل الخاطئ، والميول السلوكية، والرغبة السياسية (والإنسانية) في تحقيق مكاسب مبكرة.
أمّا في ما يتعلَّق بالمعلومات، فإنَّ الجهود المضنية التي بذلها العلماء والعاملون في مجال الرعاية الصحية خلال العام الماضي ساعدت إلى حد كبير على توسيع فهمنا لمرض فيروس كورونا 2019 وفيروس SARS-CoV-2 المسبّب له. وساعد هذا في تمكين إخضاع سياسات التقييد للتطور بحكم الأمر الواقع، حيث أفسح الإطار البسيط "المتقطع" المجال إلى التركيز على إدارة "ميزانيات المخاطر".
أثبتت هذه المعرفة كونها مفيدة في الانتقال من مرحلة ما بعد الإغلاق الأول إلى ما بعد الإغلاق الثاني. فقد عملت، على سبيل المثال، على تعزيز فهم صنّاع السياسات للمقايضات التي تنطوي عليها محاولات الإبقاء على المدارس مفتوحة (وهي أولوية قصوى، لأنَّ الإغلاق يشكل تهديدات متفاوتة للغاية للتحصيل التعليمي) في مقابل الحانات والمطاعم. وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، عملت على تحسين فهمنا للكيفية التي تتسبَّب بها تحورات فيروس كورونا الجديدة والأكثر عدوى إلى حدٍّ كبير في تقليل ميزانية المخاطر الإجمالية في المجتمعات في محاولة إيجاد التوازن بين الصحة العامة، واستئناف التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية، واحترام الحقوق والحريات الفردية.
ربما لعب التسلسل الخاطئ في الاستجابة للجائحة دوراً في هذا الصدد. فقد تضاءلت احتمالات نجاح الأساليب السابقة التي انتهجتها حكومة المملكة المتحدة في إعادة الفتح بشكل مستدام بسبب الافتقار إلى إحراز القدر الكافي من التقدم فيما يتصل بتدابير الاستجابة للجائحة مثل الاختبار، وتتبع المخالطين، والعزل الذاتي. وعلى هذا فإنَّ معدلات الإصابة المنخفضة التي تحقَّقت بتكلفة باهظة خلال أول عمليتي إغلاق لم يكن من الممكن الحفاظ عليها، وسرعان ما فَـرَضَ هذا ضغوطاً متجددة على المستشفيات والعاملين في مجال الرعاية الصحية.
زعم كثيرون أنَّ القيادة غير الحاسمة أدت إلى تفاقم التقلبات التي اتسمت بها سياسة الحكومة. لكن التحوُّلات تدين بالكثير في واقع الأمر إلى فخاخ سلوكية كلاسيكية تكون غادرة بشكل خاص خلال أوقات عدم اليقين الشديد.
يتجسَّد جمود المداولة غالباً في المراحل الأولى من وضع شديد الميوعة، كما هي الحال مع الإغراء العظيم بعد ذلك للعودة السريعة ببساطة إلى مناطق الارتياح السابقة. ويزيد انحياز الإغفال والتفاؤل من شدة التحدي، وخاصة إذا كان التأطير العام جزئياً ــ كما كانت الحال مع رواية "الحياة مقابل سبل العيش" الضيقة الأفق التي هيمنت في البداية على قدر كبير من مناقشة الإغلاق على مستوى العالم.
ولعلَّ تبجيل جونسون للحقوق الفردية أسهم أيضاً في إعادة الفتح بسرعة مفرطة. كان العامل الأخير والحتمي إلى حد كبير متمثلاً في قِـصَـر النظر السياسي. تسبَّب ذلك على نحو متكرر في إرباك سياسات الحكومات التي يجب أن تؤدي وظيفتها بمرور الوقت، بما في ذلك الإصلاحات البنيوية الأساسية التي كثيراً ما يسبق جني فوائدها الكبيرة في الأمد البعيد تحمل تكاليف التكيف في الأمد القريب.
الواقع أنَّ الإغراء القوي المفهوم الذي يخضع له الساسة في سعيهم إلى تحقيق مكاسب مبكرة يُـفضي في الأغلب الأعم إلى الإعلان عن "إنجاز المهمة" قبل الأوان. عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في الأول من مايو/أيار 2003، وسط ضجة إعلامية عظيمة على متن حاملة الطائرات الأميركية أبراهام لينكولن، بأنَّ الولايات المتحدة أكملت عملياتها القتالية الرئيسة في العراق، كان القتال في حقيقة الأمر أبعد ما يكون عن نهايته.
إنَّ اتخاذ قرارات جيدة على نحو مستمر أثناء الأزمات وفي ظل حالة من عدم اليقين الشديد أمر بالغ الصعوبة حقاً. وبدلاً من تبني نهج "الانفجار العظيم" الحاسم، يتطلب الأمر عدداً من المراجعات وردود الفعل عند منتصف المسار في الاستجابة لتطورات سريعة على الأرض. ومن الثابت أنَّ الرغبة القوية في تجنُّب ارتكاب أيِّ أخطاء من الصعب للغاية أن تتحقَّق. من ناحية أخرى، يواجه أولئك الذين يعانون من الأزمة عدداً من التحديات، بما في ذلك "إجهاد الحكم" الحتمي.
تتبع استجابة المملكة المتحدة المتطورة لجائحة كوفيد-19 نمطاً ملحوظاً في العديد من الأزمات السابقة في مختلف أنحاء العالم. وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى الحفاظ على عقلية متفتحة، والتفكير بشكل تحليلي فيما يتصل بميزانيات المخاطر، والتمييز بعناية بين الأخطاء القابلة للإصلاح وتلك غير القابلة للإصلاح، واتخاذ خطوات مبكرة نشطة للحد من الفخاخ السلوكية الشائعة. وكلما أولينا الانتباه إلى هذه القضايا لحظياً، كلما تعاظمت فرص تحسين أساليبنا في إدارة الأزمات في المستقبل.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
محمد عبد الله العريان كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، ورئيس كلية كوينز كوليدج في جامعة كمبريدج، وكان رئيساً لمجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية، وأحدث مؤلفاته كتاب "اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنُّب الانهيار التالي".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org