أوروبا غير مؤهلة لتحمل الركود المصاحب لفيروس كورونا
يانيس فاروفاكيس
أثينا ــ الآن، تناضل مجموعة اليورو لوزراء مالية منطقة اليورو للتوصل إلى اتفاق حول استجابة مالية منسقة فعّالة على مستوى الاقتصاد الكلي للتأثيرات الركودية الهائلة المترتبة على تفشي وباء مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19). وأخشى أن تكون النتيجة إعلانات بطولية تبشر بأرقام مبهرة تخفي عدم جدوى وضعف السياسات المتفق عليها.
تأتي الإشارة الأولى إلى ذلك من الإعلان أخيراً عن حزمة المساعدات المالية التي تقدمها الحكومة الألمانية للقطاع الخاص. ففي حين أشارت وسائل الإعلام الدولية إلى هذه الحزمة على أنها بازوكا من عيار 550 مليار يورو (600 مليار دولار أميركي)، يشير الفحص الدقيق إلى أنها ليست أكثر من مسدس ماء.
تكشف الحزمة الألمانية، التي تتألف من تأجيلات ضريبية وخطوط ائتمان ضخمة، عن سوء فهم خطير لطبيعة الأزمة. وهو ذات سوء الفهم الذي تسبب في إحداث أزمة اليورو قبل عشر سنوات. الآن، كما كانت الحال آنذاك، تواجه الشركات والأسر الإعسار وليس نقص السيولة. ولوقف الأزمة، يتعين على الحكومات أن تقطع الطريق "إلى النهاية" على مسار التوسع المالي الهائل. لكن هذا هو على وجه التحديد ما كان المقصود أن تتجنبه الحزمة الألمانية.
لا شك أنَّ وزراء المالية من البلدان التي تعاني من متاعب اقتصادية أعمق من تلك التي تواجه ألمانيا (على سبيل المثال، إيطاليا واليونان) سيحاولون الدفع في اتجاه تطبيق التوسع المالي الضروري. لكنهم سيصطدمون بجدار يتمثل في المعارضة من جانب وزير المالية الألماني وأنصاره المخلصين داخل مجموعة اليورو. وقريبا سوف يفض "الجنوبيون" خيامهم، ويختم إذعانهم حزمة أخرى ضئيلة ماليا من حزم مجموعة اليورو التي سيسحقها الركود القادم.
ولكن كيف يتسنى لي أن أكون على هذا القدر من اليقين؟ لأنني شهدت ذلك من قبل. إذ كنت أمثل اليونان في اجتماعات مجموعة اليورو في عام 2015، حيث تقررت هزيمة النضال اليائس الذي خاضته حكومتنا لتجنب المزيد من القروض على حساب ركود أعمق. إن الطريقة المنهجية التي أغلقت بها اجتماعات مجموعة اليورو في ذلك العام أي طريق يفضي إلى مناقشة متعقلة حول السياسات المالية المناسبة تحمل المفتاح إلى فهم السبب وراء فشل مجموعة اليورو أيضاً في إقامة دفاعات مالية فعّالة ضد الصدمة التي يحدثها الوباء.
تبرز هنا إحدى الرؤى من أحد اجتماعات مجموعة اليورو الحاسمة والذي عقد قبل خمس سنوات: أي وزير مالية من دولة متعثرة يتجرأ على معارضة خط برلين، أو يقترح حلولا تعود بالفائدة على غالبية الأوروبيين وليس القطاع المالي، فلابد أن يهيئ نفسه لاستقبال مصاعب جمة.
وقد حدث ذلك معي شخصياً. الواقع أن كل من يستمع إلى الساعات الطويلة من محاضر اجتماعات مجموعة اليورو في عام 2015، وهي متاحة الآن، سوف يسمع رئيس مجموعة اليورو وهو يهدد بإنهاء المفاوضات إذا تجرأت على تقديم مقترحات مكتوبة لم تكن ألمانيا راغبة في مناقشتها (فقط لكي يقول لوسائل الإعلام لاحقاً إنني وصلت إلى الاجتماعات "خاوي الوفاض").
ثم كان هناك رئيس صندوق الإنقاذ الأوروبي (آلية الاستقرار الأوروبية)، الذي اتهمني بالاهتمام بشكل أعظم من اللازم بالأسر المدينة وأقل من اللازم بتمويل البنوك (المفلسة بالفعل). ولا ينبغي لنا أن ننسى وزير المالية الألماني فلوفجانج شويبله الذي طلب الاحتفاظ بأرباح البنك المركزي الأوروبي من تداول السندات اليونانية لصالح الميزانية الألمانية ــ التي أسماها "ميزانيتي". وقد وافق الاتحاد الأوروبي على أنَّ هذه الأموال لا بد أن تُـعاد إلى اليونان؛ وفي النهاية، احتفظ بها شويبله لصالح الميزانية الألمانية.
في ذات الوقت، مارس وزراء شمال أوروبا تهديد "إخراج اليونان"، وبالمثل "الخطة ب" (فرض عملة بديلة على اليونان) لإجباري على قبول المزيد من القروض. وبدلاً من تقديم سبل واقعية لتخفيف الديون وإعادة الهيكلة، انهال علينا وابل من الإنذارات: "خذها كما هي أو اتركها"، وقائمة طويلة من المصائب التي من شأنها أن تحل على شعبنا إذا لم نقترض المزيد ولم نقبل المستويات السخيفة من التقشف الإضافي الذي ضمن عدم قدرة اليونان على السداد أبداً.
تعرض اجتماعات مجموعة اليورو 2015 على المستمعين مقعداً في الصف الأمامي لمشاهدة رياضة دموية تجسدها القوة غير الخاضعة للمساءلة. كل شيء هناك: قرارات حاسمة تتعارض تماماً مع العِلم والعمليات الحسابية البسيطة. والاستئساد على الضعيف إلى أن يستسلم. والسرقة التي تكاد تكون مفضوحة. والأخبار الكاذبة المستخدمة كسلاح ضد أولئك الذين يجرؤون على المقاومة. وأخيرا، وليس آخراً، ازدراء الشفافية وغيرها من الضوابط والتوازنات التي تشكل ضرورة أساسية في أي ديمقراطية.
ليس من قبيل المصادفة أن تنتشر مثل هذه المواضيع الآن عبر الغرب. وبوسعي أن أقول إنَّ اجتماعات مجموعة اليورو في عام 2015 كانت الساحة التي هُـزِمَـت فيها الديمقراطية الأوروبية، وهي الهزيمة التي تردد صداها ليس فقط في مختلف أنحاء أوروبا بل وأيضاً في الأميركيتين وأماكن أخرى. وفي غضون أقل من عام واحد، لم تعد أمور مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترمب مجرد افتراضات خيالية مسلية. كانت الممارسات التي تنتقدها المؤسسة الليبرالية الآن معروضة بوضوح شديد في اجتماعات مجموعة اليورو ــ ذات المؤسسة التي تقرر اليوم استجابة السياسة المالية الأوروبية للركود المصاحب لفيروس كورونا.
لا شكَّ أنَّ المتشككين في أوروبا، سواء كانوا خارج الاتحاد الأوروبي، مثل ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتن، أو داخله مثل فيكتور أوربان في المجر، وماتيو سالفيني في إيطاليا، ومارين لوبان في فرنسا، سيستمدون قدراً عظيماً من الشجاعة من إصدار وثائق مجموعة اليورو المكتوبة لعام 2015. لكن نشرها علنا يصب في مصلحة المشروع الأوروبي. فالكشف عن مساوئ عملية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي أمام المواطنين شرط أساسي لتمكين الديمقراطيين من إنقاذ الاتحاد الأوروبي من خلال استعادة السيطرة على مؤسساتنا.
الأوربيون ليسوا أغبياء. وحتى لو كانوا لا يعلمون بالضبط ماذا يجري وراء الأبواب المغلقة في هيئات اتخاذ القرار في أوروبا، فبوسعهم أن يستشعروا أن القرارات التي تنتجها هذه العملية تفشل في استخدام الموارد الحالية لصالح غالبية الأوروبيين في غالبية البلدان الأعضاء.
يملي علينا واجبنا أن نعمل على تنوير المواطنين حول الكيفية التي تتخذ بها القرارات باسمهم على نحو روتيني، حتى في ديمقراطياتنا الليبرالية، ضد مصالحهم ودون علمهم، من قِبَل مسؤولين يمقتون الديمقراطية في حين يتظاهرون بالدفاع عنها.
إذا فشلنا في هذه المهمة، فمن المحتم أن تأتي قرارات الاتحاد الأوروبي، وخاصة في ظل هذا الوباء، بشأن السياسة المالية، والاستثمار الأخضر، والصحة، والتعليم، وسياسة الهجرة، غير فعّـالة كتلك التي تسببت في تفاقم وتضخيم أزمة اليورو قبل عشر سنوات. ولن يستفيد من هذا الفشل سوى أمثال ترامب وبوتن، ومن هم على شاكلة أوربان، وسالفيني، ولوبان، في أوروبا، الذين يريدون تفكيك وإسقاط مؤسساتنا المشتركة من الداخل.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
يانيس فاروفاكيس وزير المالية الأسبق في اليونان، وهو زعيم حزب MeRA25 وأستاذ علوم الاقتصاد في جامعة أثينا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org