Dubai Digital Authority - هيئة دبي الرقمية

Contrast

Use toggle below to switch the contrast

Contrast

Read Speaker

Listen to the content of the page by clicking play on Listen

screen reader button

Text Size

Use the buttons below to increase or decrease the text size

A-
A
A+

أوروبا وفرصة الاستثمار المسؤول

أوليفيا جريجوار، برتراند بادري

باريس ــ يشهد التمويل تطوراً في اتجاه أكثر استدامة، وفي الوقت المناسب تماماً. بذلت صناديق معاشات التقاعد، وشركات التأمين، وصناديق الثروة السيادية تعهدات متعددة بشأن تغير المناخ، والتنوع البيولوجي، والإدماج الاقتصادي. وفي كل من هذه الحالات، يتمثل الهدف في التعامل مع التمويل كأداة، وليس غاية في حد ذاته، وتبني أهداف تتجاوز العائدات المالية.

اليوم يجري استثمار أكثر من 40.5 تريليون دولار على مستوى العالم وفقاً لمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والشركاتية. ولكن من يحدد ما الذي يشكل استثماراً يتفق مع هذه المبادئ (الاستثمار المسؤول)؟ نحن في احتياج إلى مجموعة من معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والشركاتية العالمية حقاً ــ وبوسع أوروبا، بل ينبغي لها، أن تضطلع بدور رائد في صياغة هذه المعايير وتنفيذها.

إنَّ تقييم الأداء غير المالي للشركات، بعيداً عن كونه مسألة فنية بحتة، يُـعَـدُّ قضية سياسية بالدرجة الأولى. تتمثل الخطوة الأولى في اختيار المؤشرات لقياس الأداء البيئي والاجتماعي للشركات. ثمَّ هناك مسألة وضع معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والشركاتية الأساسية، التي ستشترطها أوروبا، أو الولايات المتحدة، أو الصين على كل الشركات الراغبة في مزاولة أعمالها في سوقها، فضلاً عن إطار مرجعي قادر على التأثير بشكل مباشر في التدفقات المالية والاستثمارية.

يشكل تصميم هذه المؤشرات أداة لا تقدر بثمن لبناء السيادة. لذا، يتعيَّن على أوروبا، التي تُـعَـدُّ في كثير من النواحي رائداً عالمياً في المجالات البيئية والاجتماعية، أن تغتنم الفرصة، وتعمل على تعزيز حجتها لصالح نوع مختلف من السيادة التي تخدم كمنصة انطلاق لمبادرات عالمية.

منذ دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بناء السيادة الأوروبية في خطاب ألقاه عام 2017، تطور منظور الاتحاد الأوروبي بشأن هذه القضية بشكل كبير. وفي الوقت الحاضر، أصبحت البلدان الأعضاء أقل تناقضاً فيما تصل بالدفاع عن السيادة الأوروبية، سواء في الاستجابة للاحتكارات الرقمية الناشئة، أو المخاطر الاقتصادية المترتبة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو التهديد الذي تفرضه جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) على الصحة العامة.

لحماية نموذجها وقيمها، لم يعد من الجائز أن تكتفي أوروبا بالاستجابة للأحداث، بل يتعين عليها أن تتخذ موقفاً استباقياً في تحديد وبدء الإجراءات التي ستنتشر إلى خارج حدودها. إنَّ تقييم الأداء غير المالي للشركات من الممكن أن يشكل جزءاً من سيادة أكثر حزماً والتي تعمل أيضاً على تمكين أوروبا من معالجة قضايا ملحة بذات القدر مثل تغير المناخ، والمشكلات الاجتماعية، والتحولات الطارئة على الاصطفافات الجيوسياسية.

على سبيل المثال، حدد الاتحاد الأوروبي لنفسه أهدافاً بيئية بعيدة المدى، بدءاً بتحقيق الحياد الكربوني في موعد لا يتجاوز عام 2050. ولتحقيق هذه الغاية، عمل الاتحاد الأوروبي أخيراً على تطوير ما يسمى "علم التصنيف الأخضر"، أو التصنيف الموحد الذي يمكننا من تقييم استدامة سبعين من الأنشطة الاقتصادية التي تمثل في مجموعها 93% من انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي التي يطلقها الاتحاد الأوروبي.

على الجبهة الاجتماعية، أنشأ الاتحاد الأوروبي ميثاق الحقوق الأساسية في عام 2000، وفي عام 2017، أعلن الركيزة الأوروبية للحقوق الاجتماعية ــ التي تمنح مواطنيه وسائل جديدة وأكثر فاعلية لضمان المساواة في الوصول إلى سوق العمل، وظروف العمل العادلة، والحماية الاجتماعية المتزايدة. وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020، اقترحت المفوضية الأوروبية توجيهاً إدارياً لعموم الاتحاد الأوروبي لضمان الحد الأدنى المناسب لأجور العمال في البلدان الأعضاء.

ولكن هنا أيضاً تضع أوروبا نفسها في موقف دفاعي. على الرغم من أنَّ أوروبا تحمي سيادتها من خلال بناء مثل هذا الإطار البيئي والاجتماعي، فإنها لا ترغب في تقديم هذه الأفكار لأي مكان آخر. ولكن في ظلِّ اقتصاد عالمي حيث تحاول كل دولة صياغة معايير تحقق مصالحها الخاصة، فإنَّ المفتاح هنا ليس مجرد الدفاع عن نموذج، بل تقديمه للعالم باعتباره الأساس لمزيد من المناقشة.

منذ نشأته، تعرض الاتحاد الأوروبي مراراً وتكراراً للانتقاد بسبب تباطؤه وروتينه البيروقراطي. ولكن في اتحاد يتألف من 27 دولة ذات سيادة، يكون كل قرار بالضرورة نتيجة للتفاوض والتسوية. علاوة على ذلك، لا ينبغي اتخاذ القرارات حول ما يشكِّل سلوكاً جيداً أو رديئاً نسبة للقاعدة باستخفاف. وعلى هذا فمن عجيب المفارقات أنَّ نموذج الحوكمة الشاملة الذي تتبناه أوروبا قد يمنحها ميزة تنافسية في تشكيل معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والشركاتية العالمية.

من خلال سوقها الموحدة الضخمة والمزدهرة، ومعدل ادخارها المرتفع، وقطاعها المالي القوي، تستطيع أوروبا أن تؤثِّر في هذه المعايير من خلال ما أطلق عليه زكي العايدي مسمّى "القواعد فوق القوة". هذا هو النقيض التام للقوة السياسية والعسكرية التقليدية، أو على حد تعبير العايدي "القدرة على إنتاج وإنشاء آلية عالمية للمعايير القادرة على هيكلة العالم، لكبح السلوك الجامح من جانب اللاعبين، لتزويد أولئك الذين يلتزمون بالقواعد، وخاصة الأقل قوة بينهم، بوفرة من الفرص لجعل القواعد قادرة على الصمود ضد الجميع، بما في ذلك الأقوياء".

علاوة على ذلك، لأنَّ قياس الأداء غير المالي يتجاوز كثيراً الحسابات البسيطة، فإنَّ الانتقال إلى رأسمالية مستدامة بيئياً واجتماعياً من خلال شفافية المشاركين والمسؤولية المشتركة قد يصبح الركيزة الأساسية لهوية أوروبية جديدة.

في وقت حيث تسعى أوروبا إلى تجاوز انقساماتها السياسية الداخلية، يحظى الاتحاد الأوروبي بالفرصة لتأكيد قيمه البيئية والاجتماعية دون مطالبة البلدان الأعضاء بدعم نموذج اقتصادي بعينه، بل ببساطة عن طريق التمسك بالنهج القائم على النتائج. على الرغم من الاختلافات التاريخية والثقافية بين البلدان الأعضاء، فإنها تتمتَّع بالعديد من القيم المشتركة التي تمكنها من الاتفاق على الأساسيات في قضايا مثل المساواة بين النوعين الاجتماعيين أو الحماية البيئية.

كان جان مونيه، وهو أحد الآباء المؤسسين للتكامل الأوروبي، يعتقد أنَّ السيادة تتراجع عندما تترسخ في أنماط قديمة. وبعد تصميم سيادة تختلف جوهرياً عن نماذج الحوكمة المختبرة سابقاً، يتعيَّن على الاتحاد الأوروبي الآن أن يُـظـهِـر حيويته من خلال توسيع نطاق قوته بما يتجاوز سوقه الموحدة.

ينبغي للاتحاد الأوروبي، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، أن يتبنّى معايير جديدة، لا أن يخاف منها. ومن خلال مطالبة الشركات بتقييم الأثر البيئي والاجتماعي الذي تخلفه أنشطتها قبل منحها القدرة على الوصول إلى سوقه، يحظى الاتحاد الأوروبي بفرصة فريدة لتأكيد تفرُّده ومدى سيادته.

بهذا، تسهم أوروبا في مناقشة عالمية بالضرورة بشأن الانتقال نحو نموذج اقتصادي رأسمالي مستدام ومرن وشامل. كان هذا الهدف مفهوماً ضمناً بين أهداف التنمية المستدامة واتفاق باريس للمناخ الذي تبناه العالم في عام 2015. والآن يجب علينا أن نجعله هدفاً صريحاً.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

أوليفيا جريجوار وزيرة الدولة للشئون الاجتماعية والتضامن والاقتصاد المسؤول في وزارة المالية الفرنسية. برتراند بادري المدير الإداري الأسبق للبنك الدولي، والرئيس التنفيذي المؤسس لمنظمة "أزرق كالبرتقالة لرأس المال المستدام"، ومؤلف كتاب "هل ينقذ التمويل العالم؟"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org