شرح مرونة الصين الاقتصادية

تشانج جون

شنغهاي ــ أدت عمليات الإغلاق الواسعة النطاق، وإغلاق الحدود، وغير ذلك من التدابير الرامية إلى مكافحة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، إلى تعطيل سلاسل الإمداد العالمية وإصابة الاقتصاد العالمي بالشلل إلى حدٍّ كبير. ومع ذلك فإنَّ نقطة الضعف الحقيقية التي تعيب الاقتصاد العالمي اليوم ليست سرعة تأثر وحساسية شبكات إنتاجه الخاضعة للعولمة، بل تكمن بالأحرى في المواقف الغاضبة المريرة تجاه العولمة ــ وتجاه الصين بشكل خاص.

الواقع أنَّ الخوف من نفوذ الصين الاقتصادي المتنامي يدفع العديد من قرارات التجارة الخارجية والاستثمار هذه الأيام، وليس فقط في الولايات المتحدة. أثارت المخاوف بشأن اعتماد التصنيع العالمي على الصين دعوات تنادي بإعادة التصنيع إلى الداخل وقطع الصين عن سلاسل الإمداد العالمية. وتهدد الولايات المتحدة بخنق الاقتصاد الصيني من خلال الانفصال التكنولوجي.

لكن منتقدي الصين مخطئون في افتراضهم أنَّ نموها الاقتصادي المستمر يعتمد بشكل شبه كامل على صيانة نظام التجارة الحرة العالمية والقدرة على الوصول إلى التكنولوجيا الغربية. فرغم أنَّ الصين تُـعَـدُّ بلا أدنى شك أحد المصنعين العالميين المهمين، فإنَّ المحركات الحقيقية لأدائها الاقتصادي خلال العقد الأخير أو نحو ذلك كانت النمو السريع الذي طرأ على قدرتها الشرائية والاستثمارات في الأصول الثابتة ــ بما في ذلك القطاع التكنولوجي المزدهر في البلاد.

إنَّ العالم لم يقدر بشكل كامل بعد أهمية تحول الجاذبية الاقتصادية في الصين نحو الداخل وبعيداً عن "التداول الخارجي". ويرجع هذا جزئياً إلى أنَّ العديد من الاقتصاديين انشغلوا بدلاً من ذلك بانتقاد توسع الصين الاستثماري وإبراز مخاطر الديون المحتملة الناشئة عن ذلك. ونتيجة لهذا، لا يزال الساسة في أميركا والعديد من البلدان الأخرى يعتقدون أنَّ الطريقة الأكثر فاعلية لاحتواء الصين هي استهداف موقعها في سلاسل التجارة والإمداد العالمية.

من المؤكد أنَّ الصين كانت حتى الآن المستفيد الأكبر من العولمة الاقتصادية على مدار العقود الأخيرة، وهو ما يرجع في الأساس إلى اندماجها في نظام التجارة الحرة العالمي قبل وبعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. صحيح أنَّ صنّاع السياسات في الصين كانوا في أواخر ثمانينيات القرن العشرين يدعون إلى استخدام البلاد لسلاسل الإمداد العالمية والأسواق الدولية لمساعدتها على تعزيز التصنيع وتكوين رأس المال. وعلى هذا فقد استفادت الصين من العمالة الرخيصة الوفيرة لديها، واعتمدت نهج "النهايتان في الخارج"، فاستوردت القطع والمكونات من أجل إعادة تجميع منتجات نهائية للتصدير.

لكن صنّاع السياسات في الصين أدركوا منذ فترة طويلة أنَّ نموذج النمو هذا من غير الممكن أن يحوّل الصين إلى اقتصاد متطور بالكامل ومرتفع الدخل. وبشكل خاص، كان التأثير الشديد الذي خلفته الأزمة المالية العالمية في عام 2008 على الاقتصادات الغربية السبب الذي اضطر الصين إلى التعجيل بعملية "تغيير التركيز" من خلال تطوير سوق محلية ضخمة أكثر تكاملاً وتشجيع النمو "المدفوع بالتداول الداخلي". واكتسبت هذه الجهود المزيد من الزخم في السنوات الأخيرة نتيجة تصاعد الاحتكاكات التجارية مع أميركا، وإدراك حقيقة مفادها أنَّ التوسع الاقتصادي الصيني المستمر يستلزم التغلب على اختلالات بنيوية.

اتخذت الصين عدة خطوات لتصحيح هذه الاختلالات وتعزيز الطلب المحلي. بادئ ذي بدء، سمحت الصين للرنـمينبي بالارتفاع في مقابل الدولار الأميركي لمدة عشر سنوات على الأقل بعد عام 2005، وبدأت تفتح سوقها المحمية أمام الشركات الأجنبية بما يتماشى مع التزاماتها لدخول منظمة التجارة العالمية. ولم تكتفِ الحكومة بتحرير الواردات، وخاصة من السلع الوسيطة والرأسمالية، بل بدأت أيضاً تسمح بالتغلغل الأجنبي في الأسواق المالية وغير ذلك من القطاعات غير القابلة للتداول. ومن خلال إنشاء عدد متزايد من مناطق التجارة الحرة، احترمت الصين تعهداتها فيما يتصل بالاستثمار في المحافظ الأجنبية وتسهيل تدفقات رأس المال عبر الحدود.

ثانياً، زادت الصين من مشاريع البنية الأساسية المادية والاستثمارات اللوجستية بمعدل تجاوز 20% سنوياً على مدار السنوات الخمسة عشر الأخيرة، فأسفر ذلك عن إنشاء طرق سريعة محلية جديدة ومحسنة، وسكك حديدية، ومطارات، ومرافق الموانئ. وخلال العقد الأخير، على سبيل المثال، أنشأت الصين شبكة سكك حديدية عالية السرعة بطول أكثر من 35 ألف كيلومتر.

ثالثاً، منذ بداية هذا القرن، دأبت السلطات الصينية على دعم بناء شبكات واسعة النطاق للبنية الأساسية للمعلومات والاتصالات، وشجعت الشركات الخاصة على الإبداع في القطاعات التكنولوجية المتطورة مثل الدفع عبر الأجهزة المحمولة، والتجارة الإلكترونية، وإنترنت الأشياء، والتصنيع الذكي. وقد ساعد هذا على تعزيز ظهور العديد من شركات التكنولوجيا الدولية المحلية المقر، بما في ذلك علي بابا، وTencent، و JD.com. وفي بداية عام 2020، قررت الحكومة إطلاق جولة جديدة من الاستثمار الواسع النطاق في محطات الجيل الخامس من الاتصالات.

أخيراً، عملت الحكومة الصينية بنشاط على تعزيز الخطط الاستراتيجية الوطنية التي تستهدف دمج المناطق الاقتصادية الضخمة المحلية وتوليد الطلب المحلي. ويشمل هذا بناء منطقة شيونجان الجديدة، حيث سيجري نقل وظائف العاصمة غير الأساسية من بكين، وهذا من شأنه أن يعجل بتطوير مثلث بكين وتيانجين وخبي. إضافة إلى هذا، كانت الحكومة تعمل على تطوير منطقة خليج جوانجدونج-هونج كونج-ماكاو الكبرى وتشجيع التعاون الأوثق بين 16 مدينة تقع على حزام نهر يانجتسي. وكانت دلتا نهر يانجتسي تقود عملية التكامل الاقتصادي بين المقاطعات الصناعية في الأغلب، بقيادة شنغهاي.

على نحو مماثل، حصل اثنان من أهم المراكز الحضرية في جنوب غرب الصين ــ تشنجدو، عاصمة إقليم سيشوان، وتشونجتشينج، المدينة الرئيسة الواقعة عند منابع نهر يانجتسي ــ على حوافز لإنشاء "دائرة المدينة المزدوجة" من خلال التعاون الاقتصادي الأوثق. علاوة على ذلك، فإنَّ مشاريع مثل خط السكك الحديدية للشحن إلى أوروبا من غرب وجنوب غرب الصين، و"القناة البرية البحرية الجديدة" إلى الجنوب، لن تساعد على تعزيز اقتصاد البر الرئيس الصيني وحسب، بل ستساعد أيضاً على تثبيت استقرار سلاسل الإمداد العالمية.

في الواقع، على الرغم من التحوُّل الجاري في ثِـقَـلها الاقتصادي، لن يكون لدى الصين بكل تأكيد أي حافز للانفصال عن سلاسل الإمداد التكنولوجية العالمية أو التقهقر إلى العزلة. بل على العكس من ذلك، ستظل الصين مشاركاً نشطاً ومساهماً في التجارة العالمية والاستثمار. وفي فتح المزيد من فرص الوصول إلى أسواقها المحلية أمام المستثمرين الأجانب، ستزيد الصين من دعم العولمة من خلال المساعدة على تصحيح اختلالات التجارة العالمية. ومن شأن الجهود المبذولة لتحفيز الطلب المحلي أن تعمل على خلق المزيد من التوسع والفرص للمستثمرين المحليين والأجانب، وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي العالمي في المستقبل.

من السذاجة أن نعتقد أن الانفصال التكنولوجي القسري، أو العقوبات التجارية، أو التغييرات القسرية في سلاسل الإمداد العالمية، قد تضع حداً لتوسع الصين الاقتصادي في المستقبل. وإذا كان المنتقدون يعانون قِـصَـر النظر إلى الحد الذي يعجزون معه عن رؤية هذا الواقع، فإنَّ الخسارة ستكون من نصيبهم.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

تشانج جون عميد كلية الاقتصاد في جامعة فودان، ومدير مركز الصين للدراسات الاقتصادية (مركز فكري بحثي يتخذ من شنغهاي مقراً له).

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org