العولمة تَــرُد الضربات
ريتشارد هاس
نيويورك ــ أصبح ذِكـر صيف 2021 مرتبطًا بدرجة كبيرة بجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الجارية، وتسارع تغيُّر المناخ. وكلا الأمرين من مظاهر العولمة وواقع عالَـم يتسم على نحو متزايد بتدفقات ضخمة وسريعة عبر الحدود لكل شيء تقريبًا، من السلع والخدمات ورأس المال إلى الإرهابيين والأمراض.
القليل في أيامنا هذه يظلُّ محليًّا. فلم يظل فيروس كورونا القاتل الذي ظهر لأول مرة في ووهان في الصين محصوًرا هناك، ومن المؤكد أنَّ غازات الانحباس الحراري الكوكبي المنبعثة في أي مكان تزيد من سخونة الغلاف الجوي والمحيطات في كل مكان.
تُـظـهِـر هاتان الأزمتان القصور المؤسف الذي يعيب الجهود المبذولة في التصدي لجوانب من العولمة تنطوي على مشكلات معقدة. وقد أظهر ما يسمّى بالمجتمع الدولي مرة أخرى إلى أيِّ مدى ينطبق عليه وصف مجتمع. الواقع أنَّ الإمدادات من لقاحات كوفيد-19 تقلُّ بمليارات الجرعات عن المطلوب. على نحو مماثل، نجد أنَّ الأموال اللازمة لتغطية تكاليف التحصين على مستوى العالم أقل من المطلوب بمليارات الدولارات. تضع الحكومات بلدانها في المرتبة الأولى من الأهمية، حتى على الرغم من ظهور متحورات من الفيروس سريعة الانتشار بين السكان غير المحصنين في أماكن أخرى، ورغم أنَّ هذه المتحورات لا تبالي بحدود سياسية.
نتيجة لهذا، تظلُّ الجائحة تشكِّل تهديدًا جسيمًا. يُـقال إنَّ حصيلة الوفيات تتجاوز حتى الآن أربعة ملايين، لكن الرقم الحقيقي أعلى بعدة مرات، وهو ما يرجع في بعض الحالات إلى أنظمة التسجيل المعيبة وخفض الأرقام عمدًا بأوامر من قادة شعبويين في البرازيل، والهند، والمجر، وروسيا، وأماكن أخرى. وبالمثل، تأتي العواقب الاقتصادية بالغة الضخامة، حيث تشير التقديرات إلى أنَّ الجائحة تسبَّبت في تقليص الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من 3%. كما انزلق ما يقرب من 100 مليون إنسان إلى براثن الفقر المدقع مرة أخرى. واتسعت فجوات التفاوت بين البلدان وداخلها.
ما يجعل هذه التطورات أكثر إثارة للإحباط هو أننا نعرف ماذا يتعيَّن علينا أن نفعل حيال كوفيد-19 ونمتلك الوسائل اللازمة للقيام بذلك. فالآن أصبح لدينا العديد من اللقاحات الآمنة والفعّالة إلى حدٍّ غير عادي. ولا يتطلَّب الأمر سوى زيادة الإنتاج لتلبية الطلب العالمي.
في بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة، المطلوب هو العكس: زيادة الطلب لتلبية العرض المتاح. الواقع أنَّ التردد في التعامل مع اللقاحات، الذي تفاقم بفعل السياسات الحزبية أو المعلومات المضللة المتداولة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وقنوات التلفزيون، والبرامج الحوارية الإذاعية، أصبح منتشرًا بدرجة بالغة الخطورة. إذا جرى استكمال التطعيم بتدابير الصحة العامة الكفيلة بإبطاء انتشار المرض ــ ارتداء أقنعة الوجه، والتباعد الاجتماعي، وإتاحة الاختبارات الدقيقة بسهولة، وتتبع المخالطين، والحجر الصحي ــ فسوف تتراجع أعداد الإصابات وتقل حدتها بشكل كبير، وتتلاشى الجائحة كما نعرفها.
وصلت تأثيرات الأزمة الأخرى، تغير المناخ، بسرعة أكبر مما توقع كثيرون. لسنوات، كان الاتجاه السائد متمثلًا في تأجيل أيِّ استجابة منسقة لهذا التهديد، على الرغم من الأدلة الواضحة المتنامية التي تؤكد ارتفاع درجة حرارة الكوكب. وكما هي الحال غالبًا، يأتي العاجل ليزاحم المهم. لكن صيف 2021 يثبت أنَّ تغير المناخ قضية مهمة وعاجلة في آن.
والتأثيرات عديدة. في الولايات المتحدة، خرجت حرائق الغابات في الغرب عن نطاق السيطرة مع ارتفاع درجات الحرارة، وأضحى الضباب الدخاني يغطي مساحات شاسعة من البلاد. وتشهد أوروبا والصين فيضانات عارمة. وفي إفريقيا، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، تظهر علامات الجفاف الممتد. كانت الخسائر في الأرواح متواضعة نسبيًّا، لكنها من الممكن أن تتزايد بشكل كبير. وسوف تتصاعد التأثيرات الاقتصادية على نحو مماثل. وترتفع بشكل حاد أعداد النازحين داخليًّا أو أولئك الذين يضطرون إلى الهجرة، حيث أصبحت مساحات شاسعة من الأراضي غير ملائمة لحياة البشر.
يكثر الحديث حول كيفية إبطاء تغير المناخ، لكن الأمر لا يتعدى الأحاديث في الأغلب الأعم. وسوف يواصل مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP26) في مدينة جلاسجو في نوفمبر/تشرين الثاني التأكيد على نهج تقدم بموجبه البلدان فرادى التزامات طوعية لخفض انبعاثاتها الغازية.
هذا أمر بالغ الأهمية، ولكن من الواضح أنَّ العديد من البلدان تركِّز بشكل أكبر على النمو الاقتصادي بأي ثمن، وهي غير قادرة على تبنّي مسارات للطاقة من شأنها أن تقلِّل بشكل ملموس من مساهماتها في تغير المناخ، أو غير راغبة في ذلك. ويبقى أن نرى ما إذا كانت الإرادة متوافرة لتبني التعريفات الكفيلة برفع أسعار السلع التي تنتجها مصانع تعمل بإحراق الفحم، أو فرض عقوبات على الحكومات التي ترفض الكف عن تدمير الغابات المطيرة التي تمتص ثاني أكسيد الكربون. يتعين علينا أن نحدِّد أيضًا ما إذا كانت البلدان الأكثر ثراءً على استعداد لتوفير الأموال والتكنولوجيات التي تحتاج إليها البلدان الأكثر فقرًا للتحوُّل إلى مزيج من الطاقة أكثر اخضرارًا.
من ناحية أخرى، على الرغم من كون التركيز على إبطاء تغير المناخ أمرًا ضروريًّا، فإنه غير كافٍ. لقد حدث بالفعل قدر كبير من تغير المناخ، وسوف يأتي المزيد بصرف النظر عن القرارات التي ستتخذ في جلاسجو. هناك احتياج واضح أيضًا إلى بذل الجهود للتكيف مع التأثيرات الحالية أو الحتمية المترتبة على تغير المناخ، لجعل المدن والمناطق الريفية على حدٍّ سواء أكثر قدرة على تحمُّل الحرارة المتزايدة وحرائق الغابات المتنامية، وزيادة تواتر العواصف والفيضانات، وموجات الجفاف الأكثر حدة. لن يكون تعزيز القدرة على الصمود أقل أهمية من الوقاية.
أخيرًا، يتعيَّن علينا أن نعمل على التعجيل بتطوير وتنظيم التكنولوجيات الجديدة التي تَـعِـد بإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي أو عكس أشعة الشمس بعيدًا عن الأرض. صحيح أنَّ مثل هذه الاستجابات المحتملة لتغير المناخ غير مثبتة الجدوى ومثيرة للجدال، لكن إذا كان لنا أن نستقي أيَّ شيء من الفشل الجماعي في التعامل مع جائحة كوفيد-19، فيجدر بنا أن نكون على استعداد لدراسة مثل هذه الاستجابات عاجلًا وليس آجلًا. لم يعد هناك مفرٌّ من العولمة؛ السؤال الوحيد الآن يدور حول رغبتنا في إدارتها والكيفية التي نعتزم إدارتها بها.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وأحدث مؤلفاته كتاب "الـعـالَـم: مُـقَـدِّمـة موجزة".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org