هل يتغلب الاحتياطي الفيدرالي على خطأ سياسته المؤقتة؟
محمد عبد الله العريان
كمبريدج ــ استغرق الأمر وقتًا طويلًا، لكن المسؤولين الرئيسين في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أقروا أخيرًا بأنهم أخطأوا لأشهر عديدة في توصيف الارتفاع التضخمي الذي تبين أنه أكبر وأكثر دوامًا من كل توقعاتهم. هذا الاعتراف موضع ترحيب، وخاصة بالنظر إلى احتمال أن يظل التضخم مرتفعًا بدرجة غير مريحة في الأشهر المقبلة. يتمثل التحدي الآن، ليس فقط الذي يواجه الاحتياطي الفيدرالي بل وأيضًا الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات الكبرى في عموم الأمر، في الإبحار عبر تضاريس السياسية حيث أصبح الاتصال والتنفيذ أشد تعقيدًا بسبب سوء القراءة الجوهري للتضخم على أنه "مؤقت".
كان التوصيف الأولي للتضخم في وقت سابق من هذا العام مفهومًا. فمن مارس/آذار إلى مايو/أيار، بشكل خاص، لم يخلُ الأمر من تأثيرات أساسية قوية، لأنَّ التضخم خلال فترة العام السابق كان مكبوتًا بفعل إغلاق الاقتصاد العالمي في الاستجابة لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). إضافة إلى هذا، كان صنّاع السياسات يأملون أن تتمكّن الأسواق بسرعة من حل عدم التوافق الأولي بين الطلب القوي والعرض المتأخر مع استمرار فتح الاقتصاد.
بحلول فصل الصيف، كان من الواضح لبعضنا أنَّ مثل هذه العوامل العابرة كانت مصحوبة بقضايا أطول أجلًا. كانت الشركات عاكفة على تفصيل الطبيعة المستمرة للارتباكات التي غلبت على سلاسل التوريد. وكان النقص في العمالة يتضاعف، مما أضاف إلى عوامل التضخم التي تدفع التكاليف إلى الارتفاع. توقعت قِـلّة من الشركات أن تُـحَـلَّ هاتان المسألتان في أي وقت قريب ــ وأعربت عن ذلك في إعلان أرباح تلو الآخر.
ولكن بدلًا من إعادة النظر في إعلان التضخم الأولي في ضوء البيانات، استمر الاحتياطي الفيدرالي على ذات المسار. وانتقل مصطلح العابر أو المؤقت من كونه يعني بضعة أشهر إلى بضعة أرباع، حتى إنَّ بعض المعلقين والمسؤولين اعتنقوا مفاهيم مثل "المؤقت الممتد"، و"المؤقت المستمر" و"المؤقت الدوار". في هذه العملية، فقدوا قدرتهم على رؤية تحليلات الظاهرة العابرة.
الشيء العابر يعدُّ على نطاق واسع مؤقتًا وسريع التراجع. وعلى هذا، لا يرى الوكلاء الاقتصاديون ــ المستهلكون أو المنتجون أو أصحاب الأجور ــ أي سبب لتغيير سلوكهم. بل إنهم بدلًا من ذلك "ينظرون عبر" الظاهرة.
ولكن بحلول نهاية الصيف، بات من الواضح أنَّ السلوك على الأرض آخذ في التغير، خاصة أنَّ التضخم واصل صعوده الثابت (إلى 6.2% لمؤشر أسعار المستهلك الرئيس في أكتوبر/تشرين الأول و4.1% لمؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي، وهو المقياس المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي). مع ذلك، وبما يتفق مع الفخاخ السلوكية الكلاسيكية، ظلَّ الاحتياطي الفيدرالي متمسكًا بمفهوم العابر المؤقت، مع إصرار رئيسه جيروم باول مرة أخرى في الأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني على أنَّ "التضخم سيتجه إلى الانخفاض بشل كبير خلال العام المقبل".
يلاحظ كثيرون بحق أنَّ الاحتياطي الفيدرالي لا يملك الأدوات اللازمة لفتح سلاسل التوريد أو زيادة مشاركة قوة العمل. ولكن لو أبقى الاحتياطي الفيدرالي لفترة أطول على عقلية التضخم المؤقت، فإنه يجازف بإطلاق العنان لمحرك آخر قوي لزيادة الأسعار في المستقبل ــ والذي يتمثل في توقعت التضخم غير المقيدة. ورغم أنَّ هذا لا يعني العودة إلى معدلات التضخم التي بلغت خانة العشرات في سبعينيات القرن العشرين، فإنه سيؤدي إلى استمرار معدلات التضخم عند مستويات أعلى كثيرًا من أن تتحمّلها الأسواق المالية بأمان.
كلما تأخر الاحتياطي الفيدرالي في التفاعل على النحو الصحيح مع تطورات التضخم، ازداد الاحتمال بأن تنتهي به الحال ــ بسبب اضطراره إلى الضغط عل مكابح السياسة بشدة ــ إلى كونه السبب الرئيس وراء نمط التضخم العابر الذي راهن عليه للأسف بجزء من مصداقيته. ولكن إذا ثبت أنه كان على حق بهذه الطريقة، فقد يجازف الاحتياطي الفيدرالي بإحداث ركود محلي مدمر، وتقلبات في السوق، وتداعيات غير مباشرة قد تزعزع استقرار الاقتصاد العالمي.
مثل هذا النمط مألوف لدى المؤرخين الاقتصاديين. يسعى الاحتياطي الفيدرالي، وقد وجد نفسه عالقًا خلف منحنى التضخم، إلى تشديد السياسة النقدية على نحو مفاجئ، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إلحاق ضرر شديد بالطلب وسحب البساط من تحت أقدام الشركات التي تتطلع إلى رفع الأسعار وإبقائها عند مستويات مرتفعة. يفقد العديد من العمال وظائفهم، مما يحرم قوة العمل من القدرة على المساومة. وتمرُّ الأسواق عبر نوبات من نقص السيولة المزعزعة للاستقرار، مما يهدد بحدوث تداعيات سلبية على الاقتصاد المتعثر بالفعل.
الواقع أنَّ سيناريو المجازفة هذا مثير للقلق بشكل خاص بالنسبة إلى الشرائح الأكثر ضعفًا من السكان. فبعد اضطرارهم بالفعل إلى التعامل مع أسعار أعلى تؤثر في أجزاء كبيرة من ميزانيتهم الأسبوعية، سيواجهون أيضًا خطر البطالة وخسارة الدخل نتيجة لذلك. وإلى جانب الضرر غير الضروري الذي لحق بالرفاهة الاقتصادية، ستنشأ أيضًا تداعيات سلبية على المستويات الاجتماعية السياسية والمؤسسية.
من المشجع إذن أن ينفذ باول في اليوم الأخير من شهر نوفمبر/تشرين الثاني تحولًا مفاجئًا في التعامل مع التضخم في الاتجاه المعاكس، وأن يؤكد أنَّ الوقت حان "لاعتزال" توصيف التضخم على أنه مؤقت. يتعين على الاحتياطي الفيدرالي الآن أن يتابع عن طريق القيام بأمرين بسرعة. أولاً، كجزء من محاولة عاجلة لاستعادة المصداقية التي تشكِّل ضرورة أساسية لتوجيهاته المسبقة للسياسات واستقلاليته التشغيلية، ينبغي له أن يوضِّح بالتفصيل علنًا السبب وراء إعلان التضخم الخاطئ وما الذي يعتزم القيام به لتجنُّب حدوث زلات مماثلة في المستقبل. ثانيًا، يتعين على الاحتياطي الفيدرالي أن يتحرَّك بسرعة أكبر كثيرًا في تقليص مشترياته الشهرية من الأصول. وسوف يساعد تخفيف قدمه عن مسرع سياسة التحفيز، التي تظلُّ تشكل ضرورة أساسية في وضع "الانتقال إلى سرعة أعلى"، في التخفيف من خطر اضطرار الاحتياطي الفيدرالي إلى الضغط على مكابح السياسة بطريقة غير منضبطة في منتصف عام 2022.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
محمد عبد الله العريان رئيس كلية كوينز كوليدج في جامعة كمبريدج، وأستاذ في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا. وهو مؤلف كتاب "اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي" (راندوم هاوس، 2016).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org