الهند ودبلوماسية اللقاح الذكية
شاشي ثارور
نيودلهي ــ بينما تندفع بلدان العالم لتأمين لقاحات مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، دخلت تعبيرات بغيضة مثل "سباق اللقاحات" و"قومية اللقاح" في المعاجم العالمية. ولكن في وقت حيث يظلُّ التعاون العالمي فيما يتصل بتقاسم اللقاحات عند حده الأدنى، حتى إنَّ خطط منظمة الصحة العالمية لتوزيع اللقاحات لم تنطلق بَـعـد، سلكت الهند مسارًا مختلفًا، فاتبعت بهدوء "دبلوماسية اللقاح". فمن خلال حملتها التي أطلقت عليها مسمى "صداقة اللقاح"، شحنت الهند مئات الآلاف من اللقاحات الهندية الصنع (كوفيشيلد)، المصنعة بموجب ترخيص من أكسفورد-أسترا زينيكا، إلى نحو ستين دولة.
الواقع أنَّ الهند قوة صيدلانية عالمية، حيث تقوم بتصنيع نحو 20% من كل الأدوية غير المسجلة الملكية وتمثِّل ما يصل إلى 62% من إنتاج اللقاحات على مستوى العالم، ولهذا كانت سريعة الاستجابة عندما اندلعت الجائحة. قبل تطوير لقاحات كوفيد-19، زودت الهند نحو 100 دولة بعقاري الهيدروكسي كلوروكوين والباراسيتامول، وأرسلت المستحضرات الدوائية، ومجموعات الاختبار، وغير ذلك من المعدات إلى نحو 90 دولة. وفي وقت لاحق، حتى قبل الموافقة على لقاح أكسفورد-أسترا زينيكا، اتخذ أدار بوناوالا، رئيس معهد سيروم الهندي المملوك للقطاع الخاص والذي يبلغ من العمر 40 عامًا، قرارًا جريئًا بتصنيع اللقاح ــ وهي مقامرة بمليار دولار. وعندما وصلت الموافقات، تمكن معهد سيروم الهندي من تصنيع ملايين الجرعات، مما جعلها متاحة للحكومة لاستخدامها محليًّا أو تصديرها.
جرى شحن اللقاحات الهندية إلى أغلب البلدان المجاورة، بما في ذلك أفغانستان، وبنجلاديش، وبوتان، وسريلانكا، وجزر المالديف، وميانمار، ونيبال، وأيضًا إلى مناطق أبعد، إلى جزر سيشل، وكمبوديا، ومنغوليا، وباسيفيك آيلاند، ومنطقة الكاريبي، وبلدان إفريقية. كما ساعدت اللقاحات على إصلاح العلاقات المتوترة مع بنجلاديش وتوطيد العلاقات الودية مع جزر المالديف.
لا شكَّ أنَّ الصين وروسيا تروجان للقاحات من إنتاجهما، كما تكتسب شركات الأدوية الغربية ثروة دعائية (فضلًا عن مكاسب غير متوقعة نتيجة لارتفاع أسعار أسهمها). ولكن في تطوير اللقاحات لاستخدامه الخاص، تغافل الشمال العالمي عن التكلفة الباهظة للقاحات بيون تِك، ومودرنا، وجونسون آند جونسون، التي لا تستطيع البلدان الفقيرة تحمُّلها. من ناحية أخرى، تفيد التقارير حول اللقاحات الهندية الصنع أنها آمنة، وفعّالة من حيث التكلفة، ولا تحتاج إلى التخزين والنقل في درجات حرارة شديدة الانخفاض ــ على النقيض من بعض اللقاحات الأخرى.
لا شكَّ أنَّ دبلوماسية اللقاح الهندية ليست إيثارية بحتة. عندما أرسى أول رئيس وزراء في الهند، جواهر لال نهرو، أسس البنية التحتية للعلوم والتكنولوجيا في الهند، جاء التعبير عن نواياه بعبارات نبيلة وإنسانية وعالمية. لكنَّ خلفاءه أدركوا منذ فترة طويلة إلى أيِّ مدى قد تستفيد الهند من مهاراتها العلمية والطبية لتعزيز مكانتها الجيوسياسية. وفي وقت حيث تحيط الانتقادات بأغلب البلدان الأكثر ثراءً بسبب تكديسها لجرعات اللقاحات، تبرز الهند لأنها أرسلت 33 مليون جرعة إلى البلدان الأكثر فقرًا، ومن المنتظر أن ترسل ملايين أخرى.
لكن الأمر ينطوي على مغزى ضمني غير معلن: المنافسة مع الصين، التي اشتدت حدة التوترات معها بعد الاشتباكات على طول الحدود في منطقة الهيمالايا. الواقع أنَّ الهند لم تطغ على الصين باعتبارها الجهة التي تزود الجنوب العالمي باللقاحات الرخيصة التي يمكن الوصول إليها بسهولة وحسب؛ بل كانت أيضًا أسرع منها وأكثر فاعلية. على سبيل المثال، أعلنت الصين عن إرسال 300 ألف جرعة إلى ميانمار، لكن لم تسلم منها أي جرعة حتى الآن، في حين سارعت الهند إلى تزويدها بنحو 1.7 مليون جرعة. على نحو مماثل، تسبق اللقاحات الهندية نظيراتها الصينية إلى كمبوديا وأفغانستان.
عندما استحوذت أزمة المصداقية على اللقاحات الصينية في البرازيل التي ضعضعتها الجائحة، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ 50% من البرازيليين الذين شملتهم الاستطلاعات غير راغبين في تناول اللقاح سينوفاك، لجأ الرئيس جايير بولسونارو إلى الهند، التي سارعت إلى الاستجابة. وفي تغريدته التي أعرب فيها عن شكره، أوضح بولسونارو امتنانه بصورة من ملحمة رامايانا الهندية، حيث ظهر اللورد هانومان وهو يحمل جبلًا كامًلا لإيصال عشبة سانجيفاني بوتي المنقذة للحياة إلى لانكا.
كما تصل اللقاحات الهندية حتى إلى البلدان الأكثر ثراءً. فقد طلبت المملكة المتحدة عشرة ملايين جرعة من معهد سيروم الهندي. أما كندا، فقد قام رئيس وزراؤها جاستن ترودو، الذي ناكد نظيره الهندي نارندرا مودي أكثر من مرة، بمكالمة مودي هاتفيًّا لكي يطلب مليوني جرعة من اللقاح؛ وفي غضون أيام تسلمت كندا أول نصف مليون جرعة. كما أعلن ترودو عفويًّا أنَّ انتصار العالم على كوفيد-19 يرجع إلى "القدرة الصيدلانية الهائل التي تتمتع بها الهند، وقيادة رئيس الوزراء مودي في تقاسم هذه القدرة مع العالم".
تستخدم الهند قدرة الدولة في هذا القطاع بمهارة للإعلان عن بديل لهيمنة الصين الاقتصادية والجيوسياسية. وفي حين كانت الصين متكتمة في إصدار البيانات حول لقاحاتها، مما أدى إلى مجادلات حول فاعليتها، فقد نظَّمت الهند رحلات لسفراء أجانب لزيارة مصانع الأدوية في بيون وحيدر أباد.
ولا يقل التباين مع سلوك البلدان الأكثر ثراءً إثارة للدهشة. فوفقًا لمعهد الصحة العالمية التابع لجامعة ديوك، عملت البلدان المتقدمة التي تضمُّ 16% من سكان العالم ــ بما في ذلك كندا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكل منها ضمنت إمدادات كافية لتطعيم سكانها عدة مرات ــ على تأمين 60% من إمدادات اللقاح العالمية لأنفسها. وتشمل بلدان أخرى تستحوذ على كَـم من الإمدادات يتجاوز احتياجاتها المحلية أستراليا، وشيلي، والعديد من بلدان الاتحاد الأوروبي.
يُـبدي العالم قدرًا كبيرًا من الاهتمام بالهند بينما تتقاسم الإمدادات المتاحة لديها من اللقاحات مع غيرها من بلدان العالم، بدلًا من اختيار المسار القومي المتمثل في منع الصادرات. كما عرضت الهند 1.1 مليار جرعة من اللقاح على برنامج كوفاكس التابع لمنظمة الصحة العالمية لتوزيع لقاحات كوفيد-19 على البلدان الأكثر فقرًا. وكما قال مودي في تغريدته على تويتر، "نحن معًا جميعًا في الكفاح ضد الجائحة. والهند ملتزمة بتقاسم الموارد والخبرات والمعرفة من أجل الصالح العام".
إذا كان في الأمر أي سبب للقلق فهو أنَّ الهند صَـدَّرَت ثلاثة أضعاف الجرعات التي أعطتها لشعبها. والدولة متأخرة عن هدفها المعلن بتحصين 300 مليون شخص بحلول شهر أغسطس/آب، بعد تطعيم نحو ثلاثة ملايين عامل في مجال الرعاية الصحية في حملة بدأت في السادس عشر من يناير/كانون الثاني. وسوف يؤدي القلق المتزايد بشأن ارتفاع أعداد الحالات المصابة بالعدوى، وظهور سلالات جديدة من كوفيد-19 قد لا تستجيب للقاحات المتاحة، والاقتصاد الذي لم يتعافَ بشكل كامل بعد، إلى تفاقم صعوبة التحدي الذي يواجه الهند في الوفاء بالتزاماتها تجاه البلدان النامية وتلبية الطلب المحلي في ذات الوقت.
إنَّ التصدي لهذا التحدي مصلحة وطنية حيوية. وكانت دبلوماسية اللقاح الهندية نِـعمة لطموح الهند إلى الاعتراف بها كقوة عالمية. في مكافحة الجائحة، ذهبت الهند بعيدًا إلى ما يتجاوز مجرد تقديم الرعاية الصحية الروتينية أو توفير الأدوية غير المسجلة الملكية. لا شكَّ أنه من غير المؤكد ما إذا كان تعزيز القوة الناعمة من خلال الصادرات من مستلزمات الرعاية الصحية كفيل بتعزيز مكانة الهند في النظام العالمي بشكل كبير. ولكن عندما يُـعاد ترتيب المقاعد الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إذا حدث ذلك على الإطلاق، فسوف تعرف الحكومات المعترفة بالجميل مَـن بذل قصارى جهده لإنقاذ عالم يعاني من هجمة شرسة يشنها كائن مُـمـرِض مهلك.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
شاشي ثارور وكيل الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، ووزير الدولة للشؤون الخارجية ووزير الدولة لتنمية الموارد البشرية في الهند سابقا، وهو عضو البرلمان عن حزب المؤتمر الوطني الهندي.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org