التخطيط الصناعي لم يُـسَـلِّـم لقاحات كوفيد

ديردري نانسن مكلوسكي، ألبرتو مينجاردي

شيكاغو/ميلانو ــ مع طرح لقاحات مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) بات بوسع أجزاء فقط من العالم أن تتنفَّس الصّعداء. في معظم أنحاء العالم، تُـذَكِّـرُنا نُـدرة الجرعات أو الافتقار التام إليها بنقص المنتجات الضرورية في أوروبا الشرقية الشيوعية في ثمانينيات القرن العشرين. إذا خصّصنا الطعام بالطريقة غير التجارية القائمة على سيطرة الدولة التي تُـوَزَّع بها اللقاحات، فسوف نخسر جميعًا قدرًا كبيرًا من أوزاننا.

مع ذلك، يرى بعض المراقبين في التطوير الناجح للقاحات دليلًا على أنَّ "الحكومة بدأت تعمل مرة أخرى". ذات يوم، على قائمة الانتصارات المفترضة التي تحقِّقها الحكومة النشطة، قامت الولايات المتحدة ببناء خطوط سكك حديدية عابرة للقارات، وسد جراند كولي، والطرق السريعة بين الولايات، وبرنامج الفضاء. والآن، نحصل على لقاح استدلت على صيغته شركة التكنولوجيا الحيوية Moderna في ماساتشوستس حرفيًّا بعد أسبوع من إطلاق الباحثين الصينيين التسلسل الجيني لفيروس SARS-CoV-2 الذي يسبِّب مرض فيروس كورونا 2019.

يرى المتحمسون للحكومة النشطة في هذا الإنجاز حالة من "التخطيط الصناعي" الناجح، وهي عبارة تبدو واعدة واجتذبت أخيرًا طيفًا عريضًا من الأتباع، بدءًا من السناتور الأميري ماركو روبيو من اليمين إلى الاقتصادية الكينزية الراديكالية ماريانا مازوكاتو من اليسار.

لكن لقاحات كوفيد-19 ليست انتصارًا لسيطرة الدولة والتخطيط بل كانت انتصارًا "للإبداع" ــ بحث يقوده القطاع الخاص ويعتمد على التجربة والخطأ للتوصل إلى أشياء جيدة يرغب المستهلكون في دفع ثمنها. الكلمة القديمة المضللة في التعبير عن هذا هي "الرأسمالية"، لكن هذا يعني ضمنًا أنَّ الثروات تأتي من تراكم الأشياء وليس من خلق أشياء جديدة.

هذا هو ما فعلته صناعة المستحضرات الصيدلانية، التي أُلقي عليها اللوم بحق في الولايات المتحدة لأنها تشتري النفوذ السياسي الذي يمنع الأميركيين من الحصول على الأدوية من كندا، في هذه الحالة. بينما قام القطاع الخاص بعمله المبدع، فإنَّ الحكومة الأميركية تحرّكت بتثاقل وبطء، برغم أنَّ بعض سياسات إدارة ترامب أعفت شركات الأدوية من الضوابط التنظيمية الفيدرالية المحافظة، وإن كان ذلك بشكل مؤقت.

منذ كارثة الثاليدومايد في عام 1961، صدرت التعليمات لإدارة الغذاء والدواء الأميركية ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها بتوخي الحذر في الموافقة على الأدوية الجديدة. ولكن قبل ذلك بأربع سنوات، في عام 1957، نجح عالِـم الأحياء الدقيقة موريس هيلمان في تطوير لقاح ضد مرض الأنفلونزا H2N2 الذي دمر آنذاك هونج كونج وأقنع شركة Merck بتصنيعه في غضون أربعة أشهر فقط.

هذه المرة، ساعدت الحكومة الفيدرالية من خلال العمل كبنك كبير لتمويل لقاحات كوفيد-19، لكنها لم تختر الفائزين على طريقة التخطيط الصناعي. بدلًا من ذلك، وعدت العمليةWarp Speed بشراء لقاحات جيدة، ودفعت مقدمًا ثمن الإمدادات المضمونة. وتفعل كوريا الجنوبية ذات الشيء، حيث تقدم إعانات الدعم لمشاريع البحث والتطوير القائمة على التجربة والخطأ، لكنها تعتمد على الشركات الساعية إلى تحقيق الربح في القيام بذلك.

كانت إدارة المشتريات الفيدرالية خلال الحرب العالمية الثانية مماثلة، حيث قامت الحكومة بإلقاء الأموال في شركات مبدعة صغيرة مثل شركة أوستن للسيارات الأميركية أو شركات ضخمة مثل جنرال موتورز. وعلى عكس أسطورة معجزة الإنتاج في زمن الحرب في الولايات المتحدة، كما أوضح المؤرخ الاقتصادي ألكسندر فيلد، كان التسرع غير فَـعَّال من منظور الكمال المفترض. لكن التسرع كان ضروريًّا لكسب الحرب. وكانت النتيجة تستحق العناء. وكذا كانت نتيجة عملية Warp Speed.

أثناء الحرب العالمية الثانية، لم تكن حكومة الولايات المتحدة تختار عادة الفائزين الصناعيين مسبقًا. وعندما فعلت ذلك، فإنها لفتت انتباه السناتور آنذاك هاري ترومان وجلسات الاستماع بشأن المشتريات الفاسدة. في الأساس، جعلت الحكومة شركات خاصة تتنافس، مما أسفر عن فائزين مثل المشروع التعاوني Willys-Ford لتصنيع السيارة الجيب. وأطلق الجنرال (والرئيس لاحقًا) دوايت أيزنهاور على هذه السيارة الرباعية الدفع الغريبة المظهر التي بلا سقف وصف "واحد من ثلاثة أسلحة حاسمة" في الحرب.

في الحرب الحالية ضد كوفيد-19، طوَّرت شركات Moderna، وPfizer/BioNTech، وOxford-AstraZeneca، وJohnson & Johnson، الأسلحة الرئيسية حتى الآن. وبين الخاسرين كانت شركات مثل Merck، وSanofi، وإن كانت Sanofi تتعاون الآن مع Pfizer.

من الصعب تحديد ما إذا كانت لقاحات كوفيد-19 الصينية أو Sputnik V الروسية من الفائزين أو الخاسرين، لأنَّ الصين وروسيا اختارتا مسبقًا الفائزين المفترضين، بما يتماشى مع التخطيط الصناعي، ثم أصدرتا قدرًا ضئيلًا من البيانات للقائمين على التنظيم في أماكن أخرى لمساعدتهم في الحكم على السلامة والفعالية.

المهم في الأمر هنا هو أنَّ التخطيط الصناعي التفصيلي يكاد لا ينجح أبدًا. وكانت معظم انتصاراته المزعومة في حقيقة الأمر إخفاقات، مثل الطائرة الأنجلو فرنسية الأسرع من الصوت كونكورد. إنَّ الزعم بأنَّ البيروقراطيين في العواصم الوطنية بارعون في اختيار الفائزين ادعاء غريب. لكن في عام 1936، زعم جون ماينارد كينز أن الحكومة (بنصيحة من كينز ذاته بطبيعة الحال) "في وضع يمكنها من حساب الكفاءة الهامشية للسلع الرأسمالية (أي الربحية) لفترات طويلة وعلى أساس الميزة الاجتماعية العامة". وتتفق معه مازوكاتو، فتوصي بأن "تقود" الحكومة الاقتصاد من خلال إعطاء "التوجيه" لعملية الإبداع.

نحن لسنا مقتنعين بهذا. يعشق المدافعون الجدد عن السياسة الصناعية التي تقودها الدولة الادعاء بأنَّ اختراع الإنترنت كان نصرًا لها، على سبيل المثال. لكن الإنترنت، مثلها كمثل أغلب أشكال التقدم، كانت عبارة عن مجموعة من التكنولوجيات والإبداعات التي طورتها عملية التجربة والخطأ على مر السنين. والإنترنت التجارية التي نستخدمها منذ تسعينيات القرن العشرين ليست لها علاقة تُـذكَر بسابقتها المفترضة التي دعمتها الدولة، والتي كانت عبارة عن بروتوكول لشبكات عسكرية. صحيح أنَّ حكومة الولايات المتحدة قدمت بعض المال، لكنها لم تقدم "التوجيه"، إلا إذا كنا نتصور أن أميركا شنت الحرب الباردة من أجل إنشاء أمازون وجوجل.

بدلًا من ذلك، كانت عملية التجربة والخطأ، أو "الإبداعية"، هي المفتاح الأساسي. قام الخبير الاقتصادي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا جيفري هاريس بتأريخ وتسجيل محاولات سابقة لتطوير لقاحات لفيروس نقص المناعة البشرية، والتي لم تكتمل قط، وفيروس إيبولا التي جاءت متأخرة للغاية. لكن التجارب والأخطاء في استخدام تكنولوجيا mRNA، في شركة Moderna على سبيل المثال، أعدت المجتمع العلمي لتطوير لقاحات كوفيد-19. ولم يكن للسياسة الصناعية ولا توجيه الدولة علاقة تُـذكَـر بهذه العملية.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

ديردري نانسن مكلوسكي أستاذ الاقتصاد والتاريخ في جامعة إلينوي في شيكاغو، وهي المؤلفة المشاركة (مع ألبرتو مينجاردي) لكتاب "أسطورة دولة ريادة الأعمال" (المعهد الأميركي للبحوث الاقتصادية، 2020). ألبرتو مينجاردي أستاذ تاريخ الـفِـكر السياسي المشارك في جامعة IULM في ميلانو، والمدير العام لمعهد Istituto Bruno Leoni، وهو مركز بحثي فكري يتخذ من ميلانو مقرًّا له.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org