التفاوت بين الناس ولجنة ماكرون

داني رودريك، ستيفاني ستانتشيفا

كمبريدج ــ من المنتظر أن تتعافى الاقتصادات المتقدمة من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) بسرعة أكبر بالمقارنة بالبلدان المنخفضة الدخل. غير أنَّ الاقتصادات المتقدمة تواجه مجموعة مهمة ومترابطة من التحديات في السنوات المقبلة: تغير المناخ، والتفاوت بين الناس، والتكنولوجيات الجديدة، والشيخوخة الديموغرافية، والهجرة. ولن يفي العمل كالمعتاد بالغرض في أي من هذه المجالات، بل يستلزم الأمر اتباع نهج جديد في التعامل مع كل منها.

بينما كانت الجائحة تتسارع في أوائل عام 2020، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنشاء لجنة دولية من خبراء الاقتصاد لتقييم التحديات الأطول أمدًا وتقديم المقترحات فيما يتصل بالسياسات الواجب انتهاجها. برئاسة كبير خبراء صندوق النقد الدولي السابق أوليفييه بلانشارد ورجل الاقتصاد جان تيرول الحائز على جائزة نوبل، ناقشت اللجنة كلًّا من هذه القضايا على مدار عدة أشهر. وتمخضت ثلاثة تقارير أعدتها مجموعة فرعية من الباحثين، وصدرت في نهاية يونيو/حزيران، عن مقترحات مثيرة للاهتمام.

تولينا إعداد التقرير حول التفاوت بين الناس وانعدام الأمان الاقتصادي. وتُـعَـدُّ فرنسا حالة مثيرة للاهتمام في هذا الصدد، لأنها واحدة من الاقتصادات الرئيسة القليلة التي لم تشهد اتساعًا في فجوة التفاوت الإجمالية، قياسًا على المؤشرات التقليدية مثل مؤشر جيني. بيد أنَّ الفجوات الاجتماعية الاقتصادية عبر مختلف الطبقات لم تنغلق، ولا تزال مناطق عديدة متأخرة في خلق الوظائف الجيدة والفرصة الاقتصادية، وتظل البطالة بين الشباب شديدة الارتفاع، ويظلُّ الحراك الاجتماعي منخفضًا. تكشف استطلاعات المواقف عن مستويات عالية من انعدام الأمان الاقتصادي، وحس واضح بالظلم فيما يتصل بالترتيبات الاقتصادية القائمة، فضلًا عن قدر كبير من الدعم لسياسات حكومية أكثر فاعلية لمقاومة هذه الاتجاهات.

تتمثل إحدى الطرق لتعزيز العدالة والحراك الاجتماعي في ضمان عدم حرمان الناس لأنهم ببساطة ينتمون إلى أسر أكثر فقرًا. يقترح تقريرنا ضريبة ميراث وهدايا موحدة تستند إلى المستفيد على أن تكون تصاعدية في المبلغ التراكمي الـمُـستَـلَـم. بدلًا من فرض ضريبة على تحويلات الثروة عند كل وفاة، يفرض النظام الجديد الضريبة على إجمالي التحويلات التي يتلقاها الوريث، بحيث يكون معدل الضريبة أعلى على أولئك الذين يتلقون المزيد.

تتلخص استراتيجية مهمة أخرى في تقليص الفجوات في جودة التعليم والإنجاز. كانت هذه القضية جزءًا من مناقشات وطنية لبعض الوقت، في فرنسا وأماكن أخرى، وكان التقدم ملموسًا في السنوات الأخيرة. لكن الطريق لا يزال طويلًا. تركز مقترحاتنا على تحسين قدرة الأطفال المنتمين إلى خلفيات اجتماعية اقتصادية متدنية على الوصول إلى التعليم؛ وتحسين نتائج المدارس المنخفضة الجودة في المناطق المتأخرة؛ وإعادة النظر في مهنة التدريس وجعلها أكثر جاذبية؛ وإعطاء المزيد من المسؤوليات والاستقلالية لإدارات المدارس؛ وتعزيز المسارات المهنية والأكاديمية المهنية المزدوجة؛ وتحسين الانتقال من المدرسة إلى سوق العمل.

يرجع أحد الأسباب التي جعلت فرنسا قادرة على تجنُّب اتساع فجوة التفاوت الإجمالية إلى المستويات العالية من الإعانات الاجتماعية والحد الأدنى للأجور هناك. لكن هذا في حد ذاته يخلق مشكلات ترتبط به. ففي غياب ارتفاع متناسب في الإنتاجية، قد تتسبب الزيادات التي تفرضها الحكومة في الأجور عند القاع في خلق مقايضة بين الدخل وتشغيل العمالة، وخاصة لأولئك الذين يدخلون سوق العمل للتو. ويشهد معدل البطالة المرتفع بشكل مفرط بين الشباب، ما يقرب من 20%، على هذا التوتر.

تتطلب الزيادة في المعروض من الوظائف الجيدة المجزية لمن هم عند أسفل جدول توزيع الدخل زيادة متناسبة في الإنتاجية. هناك تلازم واضح بين الوظائف الجيدة والشركات الجيدة. وعلى الرغم من أهمية التدريب والتعليم، فإنهما لا يكفيان في غياب الشركات المنتجة التي تخلق الوظائف الجيدة. كما تتكامل السياسة الاجتماعية وسياسة النمو، ويجب أن يأتي تصميمهما بما يتفق مع هذا التكامل.

بوضع كل هذا في الاعتبار، نقترح مجموعة من العلاجات التي تربط سياسات سوق العمل بالسياسات الصناعية، والإقليمية، وسياسات الإبداع والابتكار. تتضمّن استراتيجية الوظائف الجيدة سياسات سوق العمل النشطة التي تتسم بالتنسيق بشكل أوثق مع أصحاب العمل وتوفِّر خدمات أوسع للباحثين عن عمل. في الوقت ذاته، تعيد هذه الاستراتيجية توجيه السياسات الصناعية والإقليمية القائمة بعيدًا عن إعانات الدعم الضريبية والحوافز النقدية ونحو الخدمات العامة المخصصة للشركات الموجهة خصيصًا نحو خلق الوظائف الجيدة. وهي تعيد النظر في حوافز الإبداع السائدة لتحفيز التكنولوجيات الداعمة للعمالة بوضوح والتي تعمل على تعزيز وظائف التصنيع والخدمات التي تتطلّبُ مهارات متوسطة ولا تحلُّ محلها.

يتعيَّن على صنّاع السياسات أيضًا أن يعكفوا على معالجة المخاوف المشروعة من تسبب العولمة ونقل التصنيع والإنتاج والخدمات إلى الخارج على المستوى الدولي في تقويض العدالة والوظائف الجيدة. ومن المثير للاهتمام هنا أنَّ المستجيبين الفرنسيين، عند سؤالهم عن نقص الوظائف الجيدة، ألقوا باللائمة على العولمة والاستعانة بمصادر خارجية بما يعادل ضِـعف لومهم للتكنولوجيا (57% مقابل 28%). وفي حين أنَّ السياسة التجارية غير قادرة بمفردها على خلق وظائف جيدة، فإنها كفيلة بمنع تقويض سياسات الوظائف الجيدة المحلية من خلال سباق دولي إلى الحضيض فيما يتصل بمعايير العمل وضوابطه التنظيمية.

لتحقيق هذه الغاية، نقترح آلية وقاية اجتماعية من شأنها أن تعمل على توسيع حق البلدان في التمسك بقواعدها الخاصة ــ كما هي الحال فيما يتعلق بسلامة المنتجات، أو السلامة البيئية، أو الضرائب ــ بحيث يشمل مجال تنظيم سوق العمل. بموجب اقتراحنا، يصبح من الممكن ــ بعد عملية محلية من المداولة والمشاركة اللائقة ــ تقييد الواردات التي أنتجت في ظل ظروف تنتهك حقوق العمال في الخارج وتهدد الوظائف أو ظروف العمل في الداخل. ونحن نزعم أن آلية "مكافحة الإغراق الاجتماعي" من هذا القبيل من شأنها أن تساعد على إعادة الشرعية إلى المنافسة الدولية، من خلال العمل كصمام أمان.

رغم أنَّ بعض توصياتنا تخصُّ فرنسا على وجه التحديد، فإنَّ العديد منها (إن لم يكن معظمها) على صلة أيضًا باقتصادات متقدمة أخرى. وإلى جانب التوصيات المرتبطة بتغير المناخ والقضايا الديموغرافية الواردة في تقريرين آخرين، تتيح توصياتنا الفرصة لهذه البلدان للتصدي للتحديات الاقتصادية الأكثر أهمية في السنوات المقبلة.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

داني رودريك أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي في جامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب "حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي متعقل". ستيفاني ستانتشيفا أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة هارفارد.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org