لنتعلم من الإغلاق

إقبال داليوال، سـمانثا فريدلاندر

كمبريدج ــ كما هي الحال مع أمور أخرى كثيرة، تأثرت التنمية الدولية بشدة بسبب جائحة فيروس كورونا. ولكن كيف يمكننا استخدام الدروس المستخلصة من الأزمة لإعادة تشكيل هذا القطاع، بدلاً من العودة إلى الوضع الراهن؟

بادئ ذي بدء، ذكرتنا هذه الأزمة بأنَّ الطبيعة لا تزال هي الغالبة المهيمنة، وينبغي لهذا أن يحفزنا على تكثيف الجهود للتخفيف من التهديدات الجهازية الأخرى والتكيف معها، وخاصة تغير المناخ، الذي سيظلُّ يشكِّل أكبر تهديد للتنمية. وفقاً لمختبر الأثر المناخي، فإن الانحباس الحراري الكوكبي من الممكن أن يتسبب في نحو 1.5 ملايين وفاة سنوياً في الهند بحلول عام 2100، لينافس بذلك حصيلة الوفيات الناجمة عن كل الأمراض المعدية مجتمعة. إضافة إلى توظيف معارفنا العلمية الحالية لحل المشكلات القائمة ــ من تحسين المراجعة البيئية إلى نشر أصناف من الأرز مقاومة للفيضانات ــ نحتاج إلى دفع عجلة الابتكارات التي تعمل على التقليل من الانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون والحد من التلوث، ومساعدة المجتمعات على التكيف مع تغير المناخ، وتوفير القدرة على الوصول إلى الطاقة النظيفة. والأمر الأكثر أهمية، يتعيَّن علينا أن نعمل على رعاية تجربة وتقييم مبادرات جديدة، وتوسيع نطاق المبادرات التي تخلف أكبر الأثر.

تعلمنا من الجائحة أيضاً أنَّ الصحة العامة لا تتعلَّق بالأمراض الجسدية وحسب. فبالنسبة إلى العديد من الناس ــ وخاصة في البلدان النامية ــ لا يُـعَـدُّ البقاء في المنزل خياراً آمناً. فمن المتوقَّع أن يسجِّل العنف المنزلي، بما في ذلك الإساءة البدنية والعاطفية، ارتفاعاً حاداً نتيجة للإغلاق. ومن الممكن أن تؤدي فترات العزلة الممتدة إلى تفاقم القلق الـمَـرَضي والاكتئاب، وغير ذلك من حالات الصحة النفسية المرتبطة بالعزلة. ويناضل أولئك الذين يكافحون الإدمان للحصول على الدعم الذي يحتاجون إليه. وبدلاً من الأمل في أن تختفي هذه المشكلات ببساطة عندما تنتهي عمليات الإغلاق (وهذا لن يحدث)، ينبغي لنا أن نعترف بأنَّ الصحة النفسية كانت لفترة طويلة مشكلة مهملة في مناقشة السياسات.

يتمثَّل درس آخر من الأزمة في أنَّ الحكومة ليس لها بديل. على مدار السنوات العشر الأخيرة، حاول العديد من الممولين الدوليين ومنظمات التنمية الدولية تجاوز الحكومات، نظراً لمخاوف ترتبط بالفساد أو الروتين. لكن الجائحة أوضحت أنَّ الحكومات هي الجهات الفاعلة الرئيسة عندما يتعلَّق الأمر باحتواء الأمراض المعدية، وإدارة سياسات التنمية، وتوفير الحماية الاجتماعية للعاطلين عن العمل، وتخفيف حدة الفقر. لهذا السبب، ركَّزنا في مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على بناء شراكات طويلة الأمد مع الحكومات، ونحن الآن ندعمها في توسيع نطاق السياسات القائمة على الأدلة.

تحتاج الحكومات أيضاً إلى امتلاك القدرة على تحويل الأموال النقدية إلى المواطنين المستضعفين بسرعة. في حين تمكنت الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة من تحويل أموال الطوارئ بشكل مباشر إلى مواطنيها، فقد فشلت بلدان أخرى عديدة أدخلت ضوابط تحفيز الأسر، أو التحويلات النقدية، أو غير ذلك من سبل الحماية الاجتماعية، في تسليمها إلى أولئك الذين هم في أشد الحاجة إلى الدعم. ومن الواضح أنَّ هذه البلدان تحتاج إلى إعادة النظر في كيفية تحديد الأفراد الأكثر فقراً، حتى يتسنَّى لها تزويدهم بأشكال الهوية الرقمية وغير ذلك من متطلبات الإدماج المالي. في المستقبل، ستكون هذه هي المكونات الأساسية في شبكة الأمان الاجتماعي في البلدان التي تمرُّ بجميع مراحل التنمية.

تتمثل قضية أخرى بالغة الأهمية في التعليم. على الرغم من أنَّ التعليم ممكن خارج المدارس الفعلية، فإنَّ الجائحة ستعوق تعليم العديد من الأطفال. وعلى هذا فإنَّ مساعدتهم على مواكبة العملية التعليمية تشكل أولوية ملحة. مع أغلاق المدارس، تتلخص الاستجابة الواضحة في ملاحقة طرق التعليم عبر الإنترنت. وتظهر الأبحاث أنَّ البرمجيات التي تسمح للطلاب بالتحرُّك بالسرعة التي تناسبهم قد تكون فعّالة.

لكن من الواضح أنَّ التعلُّم عن بُـعد ليس خياراً وارداً للطلاب الذين يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى الإنترنت، أو الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو الذين يشاركون جهاز كمبيوتر واحد أو هاتف واحد بين العديد من أفراد الأسرة. لقد توقَّف تعليم هؤلاء الأطفال فعليا أثناء الجائحة، كما كانت الحال بالفعل بين العديد من اللاجئين في العالم، وأكثر من نصفهم من الأطفال. سيكون من المهم للغاية مساعدة هؤلاء الأطفال في اللحاق بالركب عندما يحين الوقت. وهنا تُـظـهِـر الأبحاث أنَّ "معسكرات التعلُّم" المكثفة المتكررة حيث يجري تجميع الطلاب وفقاً لمستوى تعلمهم الحالي، وليس تبعاً للسِّن أو الصف التعليمي، قد تكون مفيدة للغاية.

من الأحياء الفقيرة في البرازيل وقوافل المهاجرين في الهند إلى ضواحي فرنسا ومجتمعات الملونين في الولايات المتحدة، تحمل الفقراء العبء الأكبر من التكاليف الصحية والاقتصادية والنفسية الناجمة عن جائحة كوفيد-19. لكن الوصول إلى الأشخاص الأكثر احتياجاً للمعلومات المفيدة يمثل تحدياً كبيراً، لأنَّ قدرة قنوات الوسائط الإعلامية التقليدية على الوصول إليهم محدودة، ووسائط التواصل الاجتماعي تعج بالمعلومات المضللة. ولهذا، يختبر الباحثون ما إذا كان تجنيد أفراد من ذوي الاتصالات القوية أو الأشخاص "المؤثرين" من شأنه أن يضمن نشر الرسائل بصورة جديرة بالثقة من خلال الشبكات الاجتماعية القائمة مسبقاً.

في غضون ذلك، دفعت الجائحة صنّاع السياسات في كل مكان إلى التجريب مع استراتيجيات مختلفة لتشجيع التباعد الاجتماعي، وغسل اليدين، وغير ذلك من تدابير الوقاية من العدوى. كما يمكنهم التفكير في جعل بعض التحويلات النقدية القائمة مشروطة بالسلوك الصحي، حيث وجدت الأبحاث أنَّ هذه طريقة فعّالة للتخفيف من انتشار الفيروس وتحسين الصحة العامة في الإجمال.

هذه استراتيجية أخرى لا يجب أن تقتصر على الأزمة الحالية. على سبيل المثال، في الأوقات التي لا تتفشى فيها جائحة ما، من الممكن أن يعتمد تلقي المصاريف النقدية على ما إذا كان الأطفال حصلوا على التطعيم أو يخضعون لفحص سنوي. لقد أصبحت السياسات التي تشجِّع أنماط حياة أكثر صحة متزايدة الإلحاح، وذلك نظراً للتهديد المتصاعد المتمثّل في أمراض غير معدية يمكن الوقاية منها إلى حدٍّ كبير، والتي تقتل بالفعل أكثر من 40 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم كل عام.

في غياب إمكانية جمع البيانات بشكل شخصي أثناء الإغلاق، تحول العديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية إلى استخدام بيانات إدارية. وقد تكون البيانات التي تجمعها الحكومات والمنظمات غير الحكومية بالفعل مفيدة للغاية في اختبار فاعلية البرامج الجديدة. على سبيل المثال، تعمل مبادرة مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر التي تحمل مسمّى "إبداعات في جمع البيانات وتجارب العمل"، على بناء الشراكات لمساعدة الحكومات على تحسين استخدامها للبيانات الإدارية. كما أجبرت الأزمة العديد من المشاريع البحثية على جمع البيانات من خلال دراسات المسح عبر الهاتف. ومرة أخرى، ستزيد الدروس المستخلصة من هذا العمل من خبرة واطلاع الباحثين الذين يستخدمون دراسات المسح عبر الهاتف لجمع البيانات في المستقبل. مما يمكّن الحكومات والمنظمات غير الحكومية من جمع معلومات أكثر دقة في الوقت الفعلي من المجتمعات التي تخدمها.

تُـعَـدُّ جائحة كوفيد-19 الصدمة المتزامنة الأكبر التي يشهدها العالم منذ أجيال. لكن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة من نوعها. ونحن في احتياج ماسٍّ إلى التعلُّم قدر المستطاع من التجربة الحالية وتكييف ممارسات وأبحاث التنمية الدولية وفقاً لذلك. ولا يجوز لنا أبداً أن نسمح لأنفسنا بأن تفاجئنا أزمة أخرى ونحن في غفلة من أمرنا.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

إقبال داليوال المدير التنفيذي العالمي لمختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر (J-PAL). سـمانثا فريدلاندر كبيرة باحثين في السياسات في مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org