عولمة أقل وتعددية أكثر

كمال ديرفيس

واشنطن العاصمة – لقد كشفت كارثة كوفيد-19 أوجه الضعف الكامنة في اقتصاد عالمي مترابط بشكل مفرط، وعملية الإنتاج فيه تتم عند الطلب، مما يعني أنَّ التراجع عن العولمة أصبح محتوماً بشكل متزايد وإلى حدٍّ ما فإنَّ هذا التراجع يمكن أن يكون إيجابياً، ولكن تحقيق نتائج إيجابية سوف يعتمد على تعددية عميقة وشاملة وفعالة.

إنَّ أحد أقوى محركات دعم التوجُّه للحد من العولمة هو ضعف نماذج الإنتاج التي تعتمد على سلاسل توريد عالمية طويلة ومعقدة، والتي عملت على التضحية بالصلابة والمرونة على مذبح الفاعلية قصيرة المدى وتخفيض النفقات ومع وجود العديد من الشركات والصناعات التي تعتمد على موردين في أماكن بعيدة – وتفتقد لأي بدائل – فإنه لا يوجد أيُّ جزء من سلاسل القيمة تلك يستطيع العمل بدون أن تعمل جميع الأجزاء، وكما شاهدنا خلال أزمة كوفيد-19، لا يستطيع المرء أن يعرف متى سوف تتوقَّف الأجزاء عن العمل.

إنَّ هذا ينطبق على وجه الخصوص على الصين وهي مركز لسلسلة التوريد العالمية. أنَّ الصين تلعب دوراً محورياً في تصنيع مجموعة واسعة من المنتجات الاستهلاكية الشائعة بما في ذلك الهواتف النقَّالة وأجهزة الكمبيوتر والبضائع المنزلية، وإضافة إلى ذلك تعدُّ الصين أكبر مورد للمكونات الدوائية الفعّالة، وعليه فإنَّ أيَّ أزمة تؤثِّر على الإنتاج هناك يمكن أن تعطِّل الإمدادات الطبية في جميع أنحاء العالم.

وعليه،لم يكن من المفاجئ أنَّ الإغلاق الذي حصل في الصين بسبب كوفيد -19 كان له تأثير مباشر على الإنتاج العالمي ولكن لحسن الحظ يبدو أنَّ الصين قد تمكَّنت من السيطرة على فيروس كورونا المستجد، حيث بدأت الأنشطة الاقتصادية في البلاد بالعودة للوضع الطبيعي، وعليه كان التعطيل محدوداً. ولكن لا يوجد ضمان أن التعطيل المقبل لن يكون أكثر حدة أو يدوم وقتاً أطول.

إنَّ مثل هذا التعطيل قد يأتي على شكل أزمة صحة عامة أخرى أو كارثة طبيعية ولكن يمكن أن يكون أيضاً قراراً سياسياً – أي ما أطلق عليه الخبيران في العلوم السياسية؛ هنري فارل وآبراهام ل نيومان "استخدام الاعتماد المتبادل كسلاح".

لقد كان هذا مصدراً للقلق حتى قبل الجائحة، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية ولأسباب تتعلَّق بمخاوف الأمن القومي بمنع شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي من الوصول لأسواقها وتقييد قدرتها على الوصول للتقنية الأمريكية والموردين الأمريكان. تقوم العديد من الحكومات بتكثيف تدقيقها على الاستثمارات الأجنبية وتخفيض الحد الذي إذا تمَّ تجاوزه، يتم تفعيل القيود بالإضافة الى زيادة عدد القطاعات التي تعدُّ استراتيجية والعمل على إعادة الإنتاج في تلك المناطق.

يدعو العديد من نشطاء المناخ كذلك للمزيد من الإنتاج المحلي. إنَّ الشحن العالمي مسؤول عن انبعاث 796 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنة 2012، مما شكل نحو 2،2% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون البشرية المنشأ لتلك السنة وقفاً للمنظمة البحرية الدولية. إنَّ تقليل المسافات من أجل نقل البضائع سوف يعزز من الأهداف العالمية لتخفيض الانبعاثات، ولكن بأي ثمن؟

إنَّ الجهود لمنع "تسرب الكربون" – عندما تنقل الشركات الإنتاج من البلدان التي طبقّت إجراءات قوية لخفض الانبعاثات (مثل أسعار الكربون أو اليات السقوف والمبادلات أو الإجراءات الصارمة)- توحي أيضاً بوجود بعض أشكال الحد من العولمة. إنَّ البعض ينادي بالفعل بفرض ضرائب كربون حدودية للحد من هذه الظاهرة – وهي مقاربة سوف تعزز الحافز لدعم الإنتاج المحلي.

إنَّ كلَّ هذا يوحي بأنَّ إزالة العولمة إلى حدٍّ ما مع التركيز على الصلابة والاستدامة قد يكون أمراً حتمياً ومرغوباً به في الوقت نفسه ولكن هذه العملية تنطوي على مخاطر جدية وذلك من ارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج إلى حدوث صراع جيوسياسي.

في واقع الأمر فإنَّ بعض الزيادة في تكاليف الإنتاج ستكون أمراً لا يمكن تجنُّبه، بينما تحاول البلدان تنويع وزيادة سلاسل التوريد العائدة لها وربما لن يكون من الصعب على الاقتصادات الكبيرة جداً أن تغطي تكاليف تنويع إنتاجها، ولكن الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة الحجم قد تجد التكاليف باهظة جداً. إنَّ البلدان التي تحاول تخزين إمدادات البضائع الحيوية قد تواجه أيضاً بعض القيود المتعلقة بالتكلفة.

إنَّ المخاوف المتعلقة بالمناخ وضرائب الكربون الحدودية قد تؤدي إلى تفاقم المشكلة، وذلك من خلال تحفيز دورات من ردود الفعل الانتقامية وزيادة الضغوطات على التجارة الدولية. وبالمثل فإنَّ تخفيض التجارة والاستثمار الأجنبي بحجة الأمن القومي قد يزيد من التوترات السياسية. علماً أنه من خلال تحفيز دورة من ردود الفعل الانتقامية، فإنَّ ذلك قد يؤدي إلى تدهور الاقتصادات.

إنَّ بروز كتلتين كبيرتين ومتنوعتين ترتكزان حول الولايات المتحدة الأمريكية، والصين قد يقلل بعضاً من التكاليف الاقتصادية المتعلقة بالحد من العولمة، ولكن ذلك سيقوض أيضاً الدور الوسيط الذي تلعبه معظم البلدان (والتي ستضطر لاختيار طرف) وسيزيد من تسييس الاقتصاد العالمي وتآكل شرعية النظام العالمي، وإضافة إلى ذلك فإنَّ ترسيخ خصومة متقلبة وطويلة المدى يعني أنها سوف تشكِّل تهديداً خطيراً للسلام. إن إضافة كتلة ثالثة تتألف من الاتحاد الأوروبي وغيره من الاقتصادات التي تتجه للتعاون لن تفعل الكثير لتعويض هذه العيوب.

إن المقاربة الأفضل ستكون قائمة على أشكال فعّالة من التعددية والتعاون العالمي، ومن أجل التحقُّق من وجود استعداد كافٍ لمواجهة الجائحة يجب على العالم على سبيل المثال تطوير نظام إنذار مبكِّر مشترك أكثر طموحاً، والاتفاق على تخزين المعدات الطبية في مراكز إقليمية بإشراف منظمة الصحة العالمية مع وجود سياسات راسخة لتقاسم التكاليف وخطط مرنة للانتشار وبالمثل فإنَّ البروتوكولات والتمويل للتطوير السريع للقاحات والقدرة الإنتاجية يجب أن يتمَّ الاتفاق عليها

 (وتحديثها بشكل مستمر). إنَّ هذا سيجعل العالم في وضع أقوى لإدارة تفشي الأمراض على نطاق واسع، بدلاً من المقاربة المبنية على أساس أنَّ على كل بلد أن يتعامل مع تفشي الأمراض لوحده.

أمّا في مجال الأمن القومي، يجب على البلدان العمل معاً من أجل تطوير ما يشبه "معاهدات الحد من الأسلحة" للفضاء الإلكتروني وحوكمة البيانات والذكاء الصناعي والهندسة الحيوية. إنَّ مثل تلك الاتفاقيات يجب أن تمنع سباقاً خطيراً لاستخدام التقنيات الجديدة، كأسلحة مع تشجيع الابتكار الذي يعزِّز رفاهية البشر وأمنهم.

بالنسبة إلى التغير المناخي فإنَّ هناك حاجة لسياسات أكثر طموحاً بكثير من أجل تحقيق الهدف العالمي – الذي تمَّ تكريسه في اتفاقية باريس للمناخ لسنة 2015- والمتمثل في صفر انبعاثات بحلول سنة 2050. إنَّ إعلانات النوايا وضغوطات الأقران لن تكون كافية. إنَّ ضرائب الكربون الحدودية كجزء من إطار متفق عليه دولياً يشمل دعم مالي للبلدان الأقل نمواً يمكن أن يسرِّع إحراز تقدم بشكل كبير بدون التأثيرات السلبية للإجراءات التي يتم فرضها عند الطلب.

إنَّ كارمن راينهارت والتي ستتولى منصب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي أعلنت أخيراً وبشيء من القلق أن " كوفيد -19 هو المسمار الأخير في نعش العولمة". لكن إزالة العولمة إلى حدٍّ ما لا تعني بالضرورة حدوث أزمة اقتصادية علماً أنه بوجود تعاون عالمي متجدد وفعَّال، فإنَّ التكاليف يمكن أن تكون محدودة ويمكن تعظيم الفوائد؛ القوة والأمن والاستدامة. إنَّ بناء تعددية جديدة لن يكون سهلاً، وربما قد تبدو عملية مستحيلة لأسباب ليس أقلها استخفاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتعاون، ولكن إدارة أمريكية جديدة ستبرز في نهاية المطاف وعلى أي حال فإنه نظراً لمخاطر البدائل فإنَّ عدم المحاولة ليس خياراً.

كمال ديرفيس، وزير سابق للشؤون الاقتصادية في تركيا وعمل سابقاً كمسؤول إداري لبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة وهو حالياً زميل تنفيذي في معهد بروكينغز. 

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org