عاشت الثورة البيولوجية
مايكل تشوي وماتياس إيفرز
سان فرانسيسكو ـ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حذَّر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة من التهديد "غير المسبوق" للأمن الغذائي الناجم عن انتشار فيروس كورونا المستجد. وقد أثبتت الحقائق أنَّ الأضرار الجانبية الناجمة عن هذه الجائحة قد تكون أكثر خطورة من المرض نفسه.
وقد دعت معظم المؤسَّسات الدولية الرائدة المهتمة بالأمن الغذائي الآن إلى اتخاذ إجراءات فعّالة لمنع تفشي الأمراض المعدية في المستقبل، وجعل النظم الغذائية أكثر مقاومة للصدمات. يجب أن نولي اهتماماً أكبرَ للابتكار البيولوجي، بينما نسعى جاهدين لمواجهة التحديات المزدوجة المتمثلة في إطعام عدد متزايد من السكان وإدارة الموارد الطبيعية على نحو مُستدام.
حتى قبل اندلاع الجائحة، حذَّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من أنَّ أكثرَ من 820 مليون شخص يواجهون نقصاً في الغذاء. مع توقُّع نمو عدد سكان العالم بنحو ملياري نسمة بحلول عام 2050، سيُشكِّل تحسين الوصول إلى الغذاء الصحي الميسور التكلفة أمراً بالغ الأهمية في الحدِّ من سوء التغذية وتكاليف الرعاية الصحية ذات الصلة.
إنَّ الابتكار في مجال الزراعة والإنتاج الغذائي قديم قِدَمَ الزراعة نفسها، ومع ذلك هناك حاجة ماسّة إليه في الوقت الحالي. وجدت الأبحاث الحديثة التي أجراها معهد ماكينزي العالمي أنَّ الابتكار البيولوجي في مجال الزراعة وتربية الأحياء المائية والإنتاج الغذائي يمكن أن يُحقِّقَ عوائدَ اقتصاديةً تصل إلى 1.2 تريليون دولار على مدى العقد أو العقدين المقبلين. باختصار، تبلغ قيمة صناعة الأغذية والزراعة العالمية اليوم نحو 5 تريليونات دولار.
ما الذي يمكن أن يحقق هذا النمو؟ تشمل أفضل الابتكارات الواعدة البروتينات البديلة، وتربية المواشي، والهندسة الوراثية للسمات النباتية والحيوانية، ورسم خرائط للميكروبيوم وتعديلها. يتزايد اهتمام المستهلكين بالمصادر البديلة للبروتينات على مستوى العالم، وذلك بسبب المخاوف بشأن قضايا الصحة والبيئة ورعاية الحيوان.
لقد أصبح بيع بدائل اللحوم النباتية ظاهرة شائعة، على الرغم من الحاجة إلى تحسين اقتصاديات إنتاجها. على سبيل المثال، يُمثِّل اللبن النباتي 15٪ من مبيعات الحليب بالتجزئة في الولايات المتحدة و8٪ في بريطانيا. وتستخدم شركات مثل "كلارا فودز" الأمريكية هندسة الخميرة المتقدمة وتقنيات التخمير لإنتاج بروتينات بياض البيض الخالية من المواد الحيوانية.
وعلى نحو مماثل، أصبحت اللحوم والمأكولات البحرية المزروعة في المختبرات تلوح في الأفق - حيث يتمُّ تصنيع الأنسجة العضلية من الخلايا في المختبر لتقليد قوام بروتينات اللحوم الحيوانية. في وقت سابق من هذا الشهر، أصبحت سنغافورة أول حكومة توافق على بيع اللحوم المزروعة في المختبرات (الدجاج المستزرع الذي أنشأته شركة "إيت جاست" في سان فرانسيسكو). على مدى السنوات العشر القادمة، قد تتنافس اللحوم والمأكولات البحرية المزروعة في المختبرات مع البروتينات الحيوانية التقليدية في السعر.
إنَّ التربية الانتقائية للنباتات والحيوانات ليست تقنية جديدة، ولكن تربية المواشي بمساعدة الواسمات الجزيئية جعلت العملية أرخص وأسرع بشكل ملحوظ، لأنها تتيح اختيار السمات المرغوبة حتى لو لم يتم تحديد أو فهم الجينات الدقيقة التي تولدها بعد. تعني التكلفة المنخفضة لتسلسل الحمض النووي أنه يمكن اكتشاف الآلاف من الواسمات المحتملة في وقت واحد. في حين أنَّ تطوير أصناف محاصيل جديدة سابقاً قد يتطلَّب 25 عاماً، إلا أنه يمكن اليوم القيام بذلك في أقل من سبع سنوات. وبما أنَّ تقنية الاختيار بمساعدة الواسمات لم تنتشر بعد في البلدان النامية كما هي الحال في الاقتصادات المتقدمة، فلا تزال هناك فرص هائلة للنمو في هذا المجال.
منذ تطوير أول نبتة مُعدلة وراثياً (التبغ) في أوائل الثمانينيات، أصبحت الهندسة الوراثية راسخة. ولكن مرة أخرى، لا تزال التكنولوجيا تُحرز تقدماً سريعاً. جعلت أدوات جديدة مثل "كريسبر" تعديل الجينات أكثر دقة، مما سمح بتكييف المحاصيل بشكل أكثر فاعلية مع الظروف المحلية مثل درجة الحرارة ونوع التربة. يمكن أن تصل المنتجات المعدلة بتقنية "كريسبر" إلى متاجر البقالة في الولايات المتحدة على مدار السنوات العشر القادمة، بدءاً من الفراولة الأكثر حلاوة وذات عمر افتراضي أطول.
يتمثَّل مجال واعد آخر للابتكار في أجهزة تسلسل الحمض النووي المحمولة، والتي يمكن استخدامها قريباً من قِبَل المزارعين لتشخيص أمراض النباتات، مما قد يؤدي إلى تحسين الجودة والعائد مع وقف أو الحد من استخدام المبيدات الحشرية. لا يزال التعديل الجيني لتحسين الصحة والإنتاجية في الأغذية الحيوانية مثل منتجات الألبان ولحم الأبقار والخنازير والدواجن ناشئاً، لكن الاهتمام بهذا المجال ازداد منذ اندلاع حمى الخنازير الإفريقية عام 2019.
وبالمثل، يُساعد رسم خرائط للميكروبيوم - بما في ذلك البكتيريا والفطريات والفيروسات - الباحثين على إيجاد طرق لزيادة مُرونة المحاصيل والحيوانات والتربة في مواجهة الجفاف والأمراض. في هذه المرحلة، يعمل التقدُّم في مجال الحوسبة والتسلسل على تسريع وتيرة الاكتشاف، حيث تعمل شركة "نوفوزايمز" الدنماركية للتكنولوجيا الحيوية بالفعل على تقديم الميكروبات المعدلة وراثياً لاستخدامها بدلاً من المواد الكيميائية المعززة للإنتاجية والجودة.
يمكن أن تساعدنا العديد من هذه الابتكارات البيولوجية على معالجة ليس فقط مشكلة الجوع، ولكن أيضاً استنزاف الموارد والمخاطر المناخية الأوسع نطاقاً. وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة، تُولد تربية المواشي من أجل اللحوم والبيض والحليب 14.5٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية. كما يتم استخدام ثلث مجموع الأراضي الزراعية لإنتاج علف الحيوانات. تعدُّ الزراعة أيضاً أكبر مساهم في إزالة الغابات، حيث تحتل 43٪ من الأراضي الخالية من الجليد والقاحلة في العالم. على سبيل المثال، يُقلل "إمبوسيبل برجر" النباتي من الانبعاثات بنسبة 89٪ مقارنة ببرغر تقليدي مصنوع من اللحم البقري.
من ناحية أخرى، يُعزِّز تغير المناخ الحاجة إلى الابتكارات البيولوجية، مثل المحاصيل التي تمَّ تعديلها لتحمل الطقس القاسي، أو للنمو في بيئات جديدة، بما في ذلك المناطق التي تعاني من درجات الحرارة المرتفعة، والملوحة العالية، أو موجات الجفاف المُتكررة.
تُسهم العديد من الابتكارات بالفعل في تحسين الأمن الغذائي، ومع مرور الوقت، سيستمر الكشف عن الإمكانات الكاملة لتسلسل الحمض النووي وتقنية "كريسبر" بأسعار معقولة. سوف يستغرق دخول اللحوم المزروعة في المختبرات للأسواق وقتاً طويلاً، ولكن بمجرد تحقيق ذلك، قد يكون التأثير الناتج بعيد المدى وواسع النطاق.
لطالما لعب التنظيم والتصورات العامة دوراً إيجابياً وسلبياً في الابتكار البيولوجي. لم تصل الموجة الأولى من المنتجات المعدلة وراثياً المتوافرة تجارياً إلى العديد من البلدان حتى الآن، ولا تزال 19 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تحظر جزئياً أو كلياً بيع هذه المنتجات. في إفريقيا، تُعدُّ المنتجات الغذائية المعدلة وراثياً قانونية في عدد قليل من البلدان.
من الواضح أنَّ السلامة تُشكِّل أهمية بالغة. ولكن إذا كان من الممكن معالجة مخاوف المنظمين والمستهلكين، فقد تُساعدنا الثورة الحيوية على معالجة التحديات العالمية مثل الأمن الغذائي وتغير المناخ.
مايكل تشوي هو شريك في معهد ماكينزي العالمي، ومتخصِّص في البيانات الضخمة. ماتياس إيفرز هو شريك رئيس في مكتب ماكينزي في هامبورغ وشارك في قيادة أعمال البحث والتطوير العالمية للشركة في ممارسة المنتجات الصيدلانية والطبية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org