الحذر من مخاطر التقدم

دارون عاصم أوغلو

كامبريدج – يجب أن نتذكر دائماً أنه في اليانصيب الكبير للتاريخ، نحن نعدُّ من المحظوظين. إن وصف توماس هوبس للحياة " كمنعزلة وفقيرة وسيئة ووحشية وقصيرة" هو وصف مناسب لمعظم فترات التاريخ البشري، ولكن الأمور تغيَّرت فالجوع والمجاعات أصبحت أكثر ندرة، ومستويات المعيشة ارتفعت بالنسبة إلى معظم الناس، كما انخفض الفقر المدقع بشكل كبير خلال العقود القليلة الماضية. إنَّ معدل العمر المتوقع عند الولادة وحتى في الأماكن الأقل صحة من العالم يزيد على 60 سنة، بينما كان من المتوقع أن يعيش شخص بريطاني وُلِدَ في العقد الثالث من القرن التاسع عشر نحو أربعين سنة.

لكن هذا التحسُّن المذهل رافقته مخاطر كارثية، وحتى لو أن صدمة كوفيد -19 قد جعلتنا نتخلى عن ثقتنا الزائدة بالنفس، إلا أنه لا يزال علينا التعامل مع المخاطر التي تواجهنا. 

إن التحسُّن الذي حصل خلال المائتي سنة الماضية هو ثمار التصنيع، الذي كان ممكناً بسبب اكتسابنا للمعرفة وإتقاننا للتكنولوجيا، ولكن هذه العملية انطوت على بعض المقايضات، حيث سعت الشركات والحكومات والتي كان يدفعها الرغبة في الثروة إلى تخفيض النفقات وتعزيز الإنتاجية والأرباح، مما أدى إلى حصول ارتباك نتج عنه في بعض الأحيان أن يعاني مئات الملايين من البشر من الفقر والبطالة.

لعقود من الزمن كان يتم إجبار العمال في المناجم والمصانع بشكل وحشي على إنتاج المزيد، واستمر ذلك حتى تمكَّنوا من تنظيم أنفسهم وحصلوا على بعض السلطة السياسية، وبالطبع شجّع العصر الصناعي المبكر على العبودية والسعي للوصول للموارد الطبيعية، مما أدى إلى حروب كبيرة وأشكال وحشية من الحكم الإمبريالي.

لم تكن تلك التجاوزات انحرافاً عن المألوف أو أمراً محتوماً، ومنذ ذلك الحين تمَّ تصحيح العديد من تلك التجاوزات وذلك من خلال اقتصاد السوق وإصلاحات سوق العمل والجهات التنظيمية في الدولة ومؤسَّسات جديدة (وهي مؤسَّسات ديمقراطية في الغالب) ولكن هناك عواقب أخرى جوهرية وغير مقصودة للتصنيع لم يتم التعامل معها، لأنه لم تنشأ دائرة سياسية منظمة للتعامل معها. إن مصدر القلق الأكثر إلحاحاً هو المخاطر الكارثية العالمية وأكثرها وضوحاً هو التغير المناخي الذي يعدُّ من صنع البشر علماً بأنَّ التغير المناخي هو مثال رئيس على كيفية أنَّ عملية الإثراء يمكن أن تخلق تهديداً وجودياً.

ثانياً، وهي مشكلة مرتبطة بالأولى إلى حد ما وتتمثل في فقدان التنوع البيولوجي. إن تقديرات معدل انقراض الأنواع اليوم هي بين 100 إلى 1000 ضعف مرحلة ما قبل الصناعة، ومع ذلك هناك اهتمام محدود جداً بالمخاطر الناشئة عن مثل هذه الاضطرابات الكبيرة في الطبيعة.

إن الخطر العالمي الثالث هو الحرب النووية؛ فشطر الذرة يمثِّل تفوقنا على الطبيعة والإمكانية الكبيرة لإساءة استخدام العلم والتكنولوجيا، وعلى الرغم من أن التكنولوجيا النووية لديها العديد من التطبيقات السلمية (ويمكن أن تلعب دوراً قصير المدى في التعامل مع التغير المناخي) فإنَّ من أهم عواقبها تدشين حقبة من الدمار المؤكد المتبادل، وكما هي الحال مع التغير المناخي وفقدان التنوع البيولوجي، نحن ما زلنا عاجزين عن إدراك المخاطر التي تشكلها التكنولوجيا النووية على البشرية، وفي واقع الأمر فإنَّ الدول التي تمتلك ترسانات نووية تقوم حالياً بإعادة بنائها وتوسيعها.

إنَّ الخطر الرئيس الرابع هو الذكاء الاصطناعي، والذي يمكن أن يقودنا لتقنيات لا نستطيع التحكم بها، وإضافة إلى خطر أن تمحو الخوارزميات فائقة الذكاء البشرية فإنَّ من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للمراقبة والقمع مما يمهد الطريق لنوع جديد من العبودية، كما أن الحكومات تقوم بالفعل بتطوير الذكاء الاصطناعي والأسلحة التي يتم تشغيلها ذاتياً، والتي يمكن أن يكون لها استخدامات إجرامية كثيرة، وخاصة إذا انتهى بها المطاف في الأيدي الخطأ.

على الرغم من أن لا أحد يمكنه إنكار تلك المخاطر فإنَّ الإنسان عادة ما يستبعد وبقوة أي احتمالية لوقوع سيناريو كارثي، ولكن هذا الطرح ينطوي على التضليل فخلال القرن العشرين كان العالم قريباً من حرب نووية في عدة مناسبات ونظراً لأننا كنّا محظوظين فنحن نفترض الآن بأثر رجعي أنَّ الخطر لم يكن أبداً كما يبدو.

لكن انظروا للسيناريو المضاد، فمثلاً كيف سيكون وضعنا اليوم لو لم يتم تجنُّب حرب نووية شاملة بسبب ما فعله فاسيلي إليكساندروفيتش إرخيبوف، وهو الرجل الثاني في قيادة الغواصة والوحيد الذي في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية كان يحث على ضبط النفس عندما كان القادة الآخرون على متن الغواصة النووية السوفياتية ب-50 يعتقدون مخطئين أنهم كانوا يتعرضون لهجوم من الولايات المتحدة الأمريكية؟ إن من المؤكد أنه لما كنا لنستطيع قراءة كتب عن الانخفاض المفترض للعنف مع مرور الزمن.

من ناحية أخرى فإنَّ أولئك الذين يقرون بالمخاطر التي يشكلها التغير المناخي والذكاء الاصطناعي عادة ما يقفزون لاستنتاج مفاده أن النمو الاقتصادي نفسه هو المشكلة؛ فهم يجادلون بأن تخفيض الانبعاثات والمحافظة على الطبيعة ومنع إساءة استخدام التكنولوجيا يتطلب إبطاء أو وقف الإنتاج والاستثمار والابتكار.

لكن التراجع عن النمو والتقدم التكنولوجي هو أمر غير واقعي وغير مستحسن فالعالم ما يزال بعيد عن انهاء الفقر. إنَّ ما يحتاجه الناس بشدة حالياً في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء هو الوظائف الجيدة والتي تستفيد من التكنولوجيا، لما فيه مصلحة العمال أنفسهم، علماً أنه بدون تأمين التوظيف ونمو الدخل، لن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون آخر الديماغوجيين اليمينيين الذين يهددون الديمقراطيات الراسخة.

إن الخيار المسؤول الوحيد هو تشكيل استراتيجية نمو جديدة تؤكد نوعية الابتكار التكنولوجي اللازمة للتعامل مع التهديدات العالمية. يجب أن يكون الهدف هو إنشاء بيئة تنظيمية تشجع الشركات ورواد الأعمال على تطوير التقنيات التي نحتاجها بالفعل بدلاً من تلك التي هي مجرد أدوات لزيادة الأرباح وحصة السوق لقلة محدودة من الناس، وبالطبع نحتاج إلى تركيز أكبر بكثير على الازدهار المشترك، وذلك حتى لا نكرِّر أخطاء العقود الأربعة الماضية، وذلك عندما أصبح النمو مفصول عن التجربة الحياتية لمعظم الناس (على الأقل في العالم الانجلو-ساكسوني).

على الرغم من سجلنا السيء في التصدي للتغير المناخي، إلا أنه يمكننا التمسك بحقيقة أن أشكال الطاقة المتجددة والتي كانت مكلفة في السابق أصبحت الآن أكثر تنافسية مع الوقود الأحفوري وهذا لم يحدث؛ لأننا أدرنا ظهرنا للتكنولوجيا، بل هو نتيجة للتقدم التكنولوجي بسبب اقتصاد السوق المنظم حيث استجابت الشركات وخاصة في أوروبا لتسعير الكربون والدعم المالي والطلب الاستهلاكي.

إن الوصفة نفسها يمكنها أن تنجح ضد مخاطر كارثية أخرى. إن الخطوة الأولى هي الإقرار بأن تلك المخاطر حقيقية، وحينها فقط نستطيع أن نمضي قدماً في بناء مؤسَّسات أفضل وإعادة تمكين الدولة لتشكيل نتائج السوق مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة للبشرية.

 

دارون عاصم أوغلو هو أستاذ في الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومؤلف مشارك مع جيمس أ روبنسون لكتاب الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية.

 

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org