الحد من التكاليف الاجتماعية المترتبة على الجائحة
أندرو شينج؛ شياو قنج
هونج كونج ــ في عام 1960، قَـدَّم رجل الاقتصاد رونالد كواس، الحائز على جائزة نوبل، "مشكلة التكلفة الاجتماعية": تنطوي الأنشطة البشرية غالباً على تأثيرات خارجية سلبية، وعلى هذا فإنَّ الحريات الفردية من غير الممكن أن تكون مطلقة. وهنا يجب أن تتدخَّل المؤسَّسات. لن نجد مثالاً أفضل لهذه الديناميكية من أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19).
بينما عانت كلُّ البلدان تقريباً نتيجة للجائحة، فإنَّ أداء بعض البلدان كان أفضل كثيراً من غيرها. ففي حين نجحت بعض البلدان في خفض حالات كوفيد-19 إلى الصِّـفر تقريباً، كانت معدلات الإصابة والوفاة بهذا المرض في ارتفاع مضطرد لعدة أشهر في بلدان أخرى. وكما لاحظت شركة ماكينزي آند كومباني، فقد عاد النشاط الاقتصادي المرتبط بالتنقل التقديري إلى طبيعته في المجموعة الأولى من البلدان. أما بين بلدان المجموعة الأخيرة، فلا يزال هذا النشاط أقل بنحو 40% من مستويات ما قبل الجائحة.
لا يعاني الجميع بالتساوي. إذ يتحمَّل العمال من ذوي الأجور المنخفضة، وفرصهم أقل في الحصول على الرعاية الطبية أو البقاء في المنزل؛ لأنَّ وظائفهم مصنفة على أنها "أساسية"، على سبيل المثال، وطأة الأعباء السريرية والاقتصادية.
هذا يعرض الجميع للخطر. فحتى لو تمكَّنت دولة ما من احتواء الموجة الأولى من إصابات كوفيد-19، فسوف تظلُّ عُـرضة للخطر، مع استمرار استيراد الفيروس من البلدان الأسوأ أداءً. بعبارة أخرى، تمتد التكاليف الاجتماعية المترتبة على نقص الترتيبات المؤسَّسية في بعض البلدان إلى البلدان التي كان أداء مؤسَّساتها جيداً.
تتمثَّل الخطوة الأولى نحو معالجة هذه المشكلة في تحديد أي الترتيبات المؤسَّسية أكثر فاعلية في الحدِّ من التكاليف الاجتماعية المترتبة على أزمة كوفيد-19. لا يقتصر الأمر على وجود مؤسَّسات قوية كما قد يفترض المرء. إذ تتميز الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالقوة المؤسسية، وكل منهما كان لديها عدة أسابيع، إن لم يكن عدة أشهر، للاستعداد قبل بدء تفشي المرض، ومع ذلك تواجه كلٌّ منهما واحدة من أعلى مستويات الإصابة والوفاة على مستوى العالم.
على النقيض من ذلك، كانت بلدان شرق آسيا أول البلدان التي أصابتها عدوى المرض، بمعنى أنَّ الوقت الذي أتيح لها للاستعداد كان ضئيلاً، إن كان أتيح لها أي فسحة من وقت. ومع ذلك فإنَّ العديد منها كانت بين البلدان التي نجحت في خفض حالات الإصابة بعدوى كوفيد-19 إلى ما يقرب من الصِـفر. ترجع هذه الاختلافات إلى مواقف مختلفة: فأيُّ الأدوار والمسؤوليات يوكلها كل مجتمع للحكومة، وإلى أيِّ مدى تتوقع الحكومة أن يعمل المجتمع كعامل جماعي لتحقيق الصالح العام؟
في الولايات المتحدة، هناك تأكيد باقٍ منذ أمد بعيد على الحرية الشخصية. ومن الشائع تماماً أن نسمع تعبير "الحكومة الصغيرة"، حيث يزعم كثيرون أنَّ الأفراد الذين يعملون كمشاركين مهتمين بمصالحهم الذاتية في الأسواق وفي العمليات الاجتماعية والسياسية ينتهون بشكل طبيعي إلى نتائج إيجابية. أمّا التدخل الحكومي ــ حتى في حالة الجائحة ــ فهو يشكِّل انتهاكاً للحقوق الفردية، وخرقاً للمعنى الحقيقي لكون المرء أميركيا. وتعكس الاحتجاجات ضد أوامر الاحتماء في المكان وارتداء الأقنعة هذا الرأي.
يختلف هذا تمام الاختلاف عن العقلية السائدة في شرق آسيا. على سبيل المثال، يعزو العديد من المراقبين الغربيين نجاح الصين في احتواء كوفيد-19 إلى نظامها الاستبدادي، الذي يُـفْتَـرَضُ أنه انتهك الحريات الفردية، والخصوصية، والكفاءة الاقتصادية على نحو من غير الممكن أن تتمكَّن أيُّ حكومة ديمقراطية من محاكاته أبداً.
توضح نظرية كواس أسباب الخلل في هذا المنطق. فكما يشرح، ربما تكون السوق قادرة على تقليل التكاليف الاجتماعية إلى الحد الأدنى إذا توافرت المعلومات الكاملة لكل القوى الفاعلة، التي تواجه تكاليف معاملات أقرب إلى الصِّـفر. لكن مثل هذه الشروط غير واقعية حتى في الأوقات العادية.
أثناء الجائحة، لا يستطيع أيُّ فرد أن يتلقّى معلوماتٍ شاملةً ولحظيةً عن الفيروس. الواقع أنَّ مجرد وجود ناقلين للمرض لا تظهر عليهم أعراضه يحول دون إمكانية الحصول على "المعلومات الكاملة". ولأنَّ تكاليف المعاملات التي يفرضها ارتداء أقنعة الوجه، والحجر الصحي، والاختبار، وتتبع المخالطين، باهظة، فإنَّ جعل الامتثال مسألة اختيار فردي لن يكون كافياً أبداً لاحتواء الفيروس.
لكن التدخُّل المركزي على النمط السوفييتي ليس احتمالاً وارداً: فلن يتمكَّن وكلاء الدولة من مراقبة كلِّ تحرُّك يقوم به كلُّ شخص وفرض كلِّ سلوكٍ احترازيٍّ في كلِّ الأوقات. وخلافاً للاعتقاد السائد، لم يكن هذا ما فعلته الصين. ما حدث بدلاً من ذلك هو أنَّ الدولة الصينية، انطلاقاً من إدراكها لحقيقة مفادها أنَّ تشجيع العمل الطوعي بالكامل لا يكفي، قامت بفرض قواعد شاملة وإلزامية لتسهيل الامتثال الفردي والمجتمعي، فضلاً عن توفير الدعم المالي واللوجستي للتنفيذ.
للتوضيح، عند وصولنا إلى شنتشن من هونج كونج، توجَّه أحدُنا إلى فندق مخصَّص ــ مجهَّز بفريق طبي يقوم بإجراء الاختبارات ومراقبة درجات الحرارة ــ لحجر صحي إلزامي لمدة 14 يوماً. وفي الطريق إلى الفندق، تواصل معه مالك الفندق ومسؤول الاتصال المجتمعي، بعد أن أبلغتهما السلطات للاستعداد لوصول جديد من الخارج.
من المطار إلى فندق الحجر الصحي إلى المنزل، كان كلُّ فرد ــ ضباط الهجرة، وسائقو الحافلات، والمسؤولون عن أجهزة الفحص الأمني، والموظفون الطبيون، وموظفو الفندق ــ يرتدون معدات الحماية الشخصية الكاملة. وكانت المناطق المشتركة تخضع للتطهير بشكل منتظم. وبالطبع، وفرت الدولة كل الموارد اللازمة.
بطبيعة الحال، يفضل أيُّ مسافر الذهاب إلى منزله، وليس البقاء في فندق الحجر الصحي لأسبوعين. لكن تكاليف الامتثال الباهظة ظاهرياً بالنسبة إلى الأفراد لا تفوق التكاليف الاجتماعية الإجمالية المترتبة على التدخلات الجزئية. وعلى هذا، فبفضل الدعم المؤسَّسي والتوجيه الواضح ــ المقدم عن طريق العديد من القنوات بما في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي ــ اتخذ الناس الاحتياطات اللازمة. كما كانت المسؤولية عن التنفيذ محددة بوضوح عبر الهيئات الحكومية.
الواقع أنَّ النتائج ــ انخفاض حاد في عدد الإصابات والوفيات ــ تتحدث عن نفسها. وقد حقَّقت دول أخرى في شرق آسيا ــ مثل اليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وفيتنام ــ نجاحات مماثلة، باستخدام نهج مؤسَّسي مشابه للغاية. وفي كلِّ الحالات، تدخَّلت الحكومة في وقت مبكر، فوضعت قواعد وإرشادات شاملة، ووفرت الموارد اللازمة لتطبيق التدابير ذات الصلة. وفي كل من هذه الحالات، كان المجتمع متقبلاً للتدخل من جانب الحكومة بهدف النهوض بالصالح العام.
من الأهمية بمكان أن ندرك أنَّ هذه البلدان لديها ثقافات وأنظمة سياسية شديدة الاختلاف. وعلى هذا فإنَّ محاولات تحويل الاستجابة المؤسَّسية الفعَّـالة للجائحة إلى ساحة معركة سياسية أو إيديولوجية ممارسة مضللة في أفضل تقدير. الدرس الذي يقدِّمه لنا رونالد كواس يتلخص في أنَّ كلَّ مجتمع، بصرف النظر عن الإيديولوجية أو السياسة، يتعيَّن عليه أن يعمل على وضع ترتيبات مؤسَّسية كفيلة بالتقليل من التكاليف الاجتماعية. فمن المؤكد أنَّ أولئك الذين يعانون من عواقب قرارات اتخذها آخرون من غير المرجَّح أن يستمتعوا "بحريتهم".
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
أندرو شينج زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونج كونج، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام. شياو قنج رئيس مؤسسة هونج كونج للتمويل الدولي، وهو أستاذ ومدير معهد أبحاث طريق الحرير البحري في كلية إتش إس بي سي لإدارة الأعمال في جامعة بكين.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org