توفير التمويل النقدي
أدير تورنر
لندن - استجابة لوباء كوفيد 19، أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن شراء كميات غير محدودة من سندات الخزانة، وسيقوم بنك إنجلترا بشراء سندات بقيمة 200 مليار جنيه إسترليني (250 مليار دولار)، كما أطلق البنك المركزي الأوروبي برنامجاً طارئاً لشراء سندات منطقة اليورو بقيمة 750 مليار يورو (815 مليار دولار). من شبه المؤكد أنَّ البنوك المركزية ستنتهي في النهاية بتوفير التمويل النقدي لتمويل العجز المالي. السؤال الوحيد هو ما إذا كان ينبغي عليهم توضيح هذا الأمر.
من الواضح أن السياسة النقدية وحدها عاجزة في ظل الظروف الحالية. فقد خفَّضت البنوك المركزية أسعار الفائدة الأساسية، وأسهم شراء السندات في خفض العائدات طويلة الأجل. ومع ذلك، لا أحد يعتقد أن من شأن أسعار الفائدة المنخفضة أن تفتح الطريق أمام زيادة الإنفاق الاستهلاكي أو الاستثمار في الأعمال التجارية. وبدلاً من ذلك، سيتم تعويض النمو الاقتصادي المنخفض (قدر المستطاع) عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية، ودعم الدخل المباشر للعمال المسرَّحين، وخفض الضرائب. سيؤدي هذا حتمًا إلى عجز مالي غير مسبوق.
من الناحية النظرية، يمكن أن يؤدي تمويل هذا العجز عن طريق بيع السندات الحكومية إلى زيادة عوائد السندات، مما قد يعوض التأثير التحفيزي. ولكن مع شراء البنوك المركزية للسندات وتراجع العائدات، يمكن للحكومات اقتراض كل ما تحتاجه بأسعار فائدة متدنية للغاية.
لما اعتمدت الولايات المتحدة سياسة مُماثلة خلال الحرب العالمية الثانية، كان دور بنك الاحتياطي الفيدرالي في تسهيل تمويل الديون واضحًا للغاية: من عام 1942 إلى عام 1951، التزم بشراء سندات الخزانة بأي كمية مطلوبة للحفاظ على استقرار عائدات السندات. في هذه المرة، تمَّ تجنب مثل هذه الالتزامات الصريحة، ولكن التأثير هو نفسه: تجعل البنوك المركزية من السهل تمويل العجز المالي الكبير.
يعتمد التمويل النقدي الدائم على ما إذا كانت السندات قد تمَّ بيعها مرة أخرى للقطاع الخاص، مع عودة الميزانيات العمومية للبنوك المركزية إلى المستويات "الطبيعية". لم تحدث تغييرات مماثلة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
في كتابهما الذي يحمل عنوان "تاريخ النقد في الولايات المتحدة"، قدّر ميلتون فريدمان وآنا شوارتز في وقت لاحق أن نحو 15٪ من جهود الحرب كانت تُموّل بأموال البنك المركزي بدلاً من الضرائب أو الديون التي تمَّ سدادها فعليًّا. في اليابان، حيث يقابل 25 عامًا من العجز المالي الكبير عمليات شراء كبيرة للسندات الحكومية من قبل بنك اليابان، من الواضح أيضًا أن حيازات البنك المركزي من السندات لن يتم بيعها أبدًا: تمَّ توفير تمويل نقدي دائم.
لذلك، ليس من الضروري أن يكون التمويل النقدي واضحًا حتى يكون دائمًا. قد تستلزم جميع عمليات شراء الأصول من قبل البنوك المركزية على مدى العقد الماضي - ما يسمّى بالتسهيل الكمي (QE) - في وقت لاحق بعض التمويل النقدي.
يُرعب هذا الاحتمال أولئك الذين يعتقدون أنَّ التمويل النقدي سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى التضخم المفرط. لكن هذه المخاوف غير منطقية. قال الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان أنه في حالة الكساد الانكماشي، يتعيَّن علينا نثر الأموال من المروحيات ليتمكَّن الناس من التقاطها وإنفاقها. لنفترض أنَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمر بنثر 10 ملايين دولار فقط من أموال طائرات الهليكوبتر هذه: سيكون التأثير في النشاط الحقيقي أو التضخم ضئيلًا للغاية. لكن لنفترض أنه أمر بنثر مبلغ 1000 مليار دولار: من الواضح أنه سيكون هناك تضخم مفرط. يعتمد تأثير التمويل النقدي في الحجم.
كما أنَّ المخاوف بشأن التأثير طويل المدى في ميزانيات البنك المركزي وربحية البنك التجاري في غير محلها. لا تخلق البنوك المركزية بشكل مباشر الأموال التي يحتفظ بها الأفراد أو الشركات في الاقتصاد الحقيقي؛ بدلاً من ذلك، تقوم بإنشاء القاعدة النقدية التي تحتفظ بها البنوك كأصول احتياطية. ونتيجة لذلك، ستواجه البنوك المركزية، التي تدفع أسعار الفائدة على الاحتياطيات، تكلفة مستمرة إذا قامت بخلق المزيد من هذه الأموال.
ومع ذلك، يمكن للبنوك المركزية أن تخلق أموالاً غير مُكلفة من خلال دفع فوائد صفرية على بعض احتياطيات البنوك التجارية، حتى أثناء دفع سعر أساسي إيجابي على الهامش. وبينما قد تفرض مثل هذه الاحتياطيات ذات السعر الصفري ضريبة فعلية على إنشاء الائتمان عند انتعاش النشاط الاقتصادي، فقد يكون ذلك مرغوبًا لأنه سيمنع مضاعفة التحفيز الأولي من خلال خلق أموال البنك التجاري في المستقبل.
لذلك، عند الفحص الدقيق، تتلاشى جميع الاعتراضات الفنية الواضحة على التمويل النقدي. ليس هناك شك في أن التمويل النقدي ممكن من الناحية التقنية وأن السلطات المالية والنقدية الحكيمة يمكن أن تختار المبلغ "الصحيح".
السؤال الحاسم الآن هو ما إذا كان يمكن الوثوق بحكمة السياسيين في تنفيذ هذه المهمة. معظم محافظي البنوك المركزية مُتشككون، ويخشون أن يصبح التمويل النقدي مفرطًا بمجرد السماح به علانية. في الواقع، يعتقد الكثيرون أن معرفة إمكانية حدوث ذلك يُشكل ثمرة محظورة خطيرة يجب أن تظل من المحرمات.
قد يكونون على حق: تتمثل السياسة الأفضل في توفير التمويل النقدي مع إنكار الحقيقة. قد تعاني الحكومات من عجز مالي كبير. يمكن للبنوك المركزية جعل هذه العمليات قابلة للتمويل بأسعار قريبة من الصفر. وقد يتم عكس هذه العمليات في حال كانت معدلات النمو الاقتصادي والتضخم المستقبلية أعلى مما هو متوقع حاليًا. إذا لم يكن الأمر كذلك، فإنها ستصبح دائمة. لكن لا ينبغي لأحد أن يعترف بهذه الإمكانية مُسبقًا.
ومن المفارقات أن الخطر الوحيد في اعتماد هذا النهج هو أن البنوك المركزية ستكون موثوقة على نحو متزايد. إذا كان الأفراد أو الشركات يثقون بوعد صنّاع السياسة بعدم السماح أبدًا بتمويل نقدي وبأن جميع عمليات التيسير الكمي سيتم عكسها بالتأكيد، فإنهم يتوقعون أن يتم سداد جميع الديون العامة الجديدة من الضرائب المستقبلية. من شأن توقع هذا العبء أن يقلل الاستهلاك والاستثمار في الوقت الراهن.
يتمثل النهج البديل في الصدق - مع التعويض عن الخطر المتمثل في أن يؤدي الصدق إلى التضخم المفرط. جادل محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي في خطاب له في 5 إبريل/ نيسان بأن التمويل النقدي الصريح "لا يتوافق مع السعي إلى تحقيق هدف التضخم من قبل بنك مركزي مستقل". وقد أوضح رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي السابق بن برنانكي سبب عدم صحة هذه الفكرة، واقترح بدلاً من ذلك أنه يتعين على البنوك المركزية المستقلة تحديد قيمة أي تمويل نقدي بينما تقرر الحكومات كيفية إنفاق الأموال.
يمكن للبنوك المركزية المستقلة اتخاذ قرارات واضحة بشأن الكميات المُثلى من التمويل النقدي الدائم. ولكن سواء فعلوا ذلك أم لا، فإن نسبة كبيرة من عمليات التسهيلات الكمية الحالية سوف تقوم بتمويل عجز مالي واسع في وقت لاحق.
أدير تورنر هو رئيس لجنة تحولات الطاقة، وكان يشغل منصب رئيس هيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة من 2008 إلى 2012. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "بين الدين والشيطان".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org