ما مدى جاهزية أوروبا للتعامل مع عالم ما بعد جائحة؟

نورييل روبيني، برونيلو روزا

نيويورك ــ في الأسبوع المنصرم، كشفت المفوضية الأوروبية عن خطة لمساعدة البلدان الأوروبية على إدارة الصدمة التي لا تقل وطأة عن أزمة الكساد العظيم والتي أحدثتها جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). بناءً على اقتراح فرنسي ألماني حديث، تدعو المفوضية إلى إنشاء صندوق التعافي الأوروبي بقيمة 750 مليار يورو (834 مليار دولار أميركي)، على أن يجري توزيع 500 مليار يورو من إجمالي المبلغ كَـمِـنَـحٍ، و250 مليار يورو كقروض.

من المقرر أن تتدفَّق الأموال الصادرة من خلال هذه الخطة المسماة "جيل الاتحاد الأوروبي التالي" عبر برامج الاتحاد الأوروبي، من أجل تحقيق أهداف المفوضية، بما في ذلك أجندتها الاقتصادية الخضراء والرقمية. وسوف تجمع المفوضية الأموال في السوق من خلال إصدار سندات طويلة الأجل، وسوف تكون جهودها مدعومة بزيادة مقترحة في ضرائب جديدة، كتلك المتعلقة بالانبعاثات الغازية المسبّبة للانحباس الحراري الكوكبي، والخدمات الرقمية، وغير ذلك من مجالات التجارة العابرة للحدود الوطنية.

على الرغم من كوننا بين قِـلّة من المعلقين الذين توقّعوا أن يعرض الاتحاد الأوروبي خطة أكبر كثيراً مما توقّعه معظم المشاركين في السوق وخبرائها، فإننا ننصح صنّاع السياسات الأوروبيين أيضاً بالتمسُّك بالواقعية حول ما يمكن تحقيقه في اللحظة الراهنة. فمن السابق لأوانه الاحتفال بـ"لحظة هاميلتون" التي طال انتظارها في الاتحاد الأوروبي لتبادلية الديون.

في ظل الظروف الحالية، لا يزال الاتحاد الأوروبي يشكِّل اتحاد نقل غير مكتمل حيث تتنقل الموارد (البشرية والمادية والمالية) من المحيط إلى المركز ــ أي إلى المملكة المتحدة أو ألمانيا. من عجيب المفارقات هنا أنَّ المملكة المتحدة، التي تمثِّل أحدَ أقطاب هذا التجاذب، قرَّرت ترك الاتحاد الأوروبي، ظاهرياً لوقف تدفُّق المهاجرين إلى اقتصادها. مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي حدث رسمياً في الحادي والثلاثين من يناير/كانون الثاني، بدأ الاتحاد الأوروبي يتفكَّك حرفياً.

يعتقد المتفائلون أنَّ الاتحاد الأوروبي، مع خروج المملكة المتحدة، ربما يصبح متماسكاً أخيراً. لكن هذا التنبؤ يبدو وردياً أكثر مما ينبغي. فلم تكن المملكة المتحدة تشكِّل عقبة أمام التكامل إلى الحد الذي يجعلها عذراً لبلدان أعضاء أخرى مترددة لتجنُّب إقامة علاقات أوثق. على سبيل المثال، لم تكن المملكة المتحدة هي التي حجبت الخطة الأوروبية للتأمين على الودائع، والتي تشكّل ضرورة لإكمال اتحاد منطقة اليورو المصرفي؛ بل تستحق ألمانيا هذا الشرف.

مع صعود الأحزاب الشعبوية في مختلف أنحاء أوروبا، كان من الواضح لفترة طويلة أنَّ الأزمة الكبرى المقبلة ستشكِّل تهديداً وجودياً للاتحاد الأوروبي. والآن، يتعيَّن على الاتحاد الأوروبي أن يثبت أنه على مستوى التحدي المتمثل في إتمام عملية التكامل. وإلا فإنه قد يواجه "لحظة جيفرسون"، التي قد تعيده إلى شكل من أشكال الاتحاد الكونفدرالي يتمتّع بسيادة مشتركة محدودة.

في مواجهة الهاوية، ابتكرت فرنسا وألمانيا خطة لتخفيف التداعيات الاقتصادية المدمرة الناجمة عن الجائحة. ولكن برغم أنَّ اقتراحهما لا يخلو من مزايا، فإنه ما كان لـيُـرضي ألكسندر هاملتون ــ وعن حق. فبادئ ذي بدء، لن يأتي إصدار السندات المتصور مع "ضمانات مشتركة ومتعددة"، وهو بهذا لن يشكِّلَ تبادلية حقيقية للديون. الواقع أنَّ اقتراح الممول جورج سوروس الذي يقضي بإصدار سندات الاتحاد الأوروبي الدائمة، أو سندات دين الحكومة البريطانية الموحد، من شأنه أن يخفِّف من هذه المشكلة، لكنه لن يحلها. وفي كل الأحوال، إذا لم تكن الأموال متاحة بحلول هذا الصيف، فربما يفوت الأوان بالفعل بالنسبة إلى البلدان المتضررة بشدة مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا، والتي ستواجه موسماً سياحياً مروعاً فوق كل ذلك.

الحقيقة الأقرب إلى صميم القضية هنا هي أنَّ حالة انعدام الثقة بين دول الاتحاد الأوروبي "الأربع المقتصدة" (النمسا، والدنمارك، وهولندا، والسويد) من ناحية والدول الجنوبية "المسرفة" المزعومة (بما في ذلك إيطاليا، وإسبانيا، واليونان) من ناحية أخرى تظلُّ عميقة إلى الحد الذي بات معه من الصعب صراحة تخيُّل التوصُّل إلى أيِّ حلٍّ طويل الأجل. أرسل حكم صادر أخيراً عن المحكمة الدستورية في ألمانيا إشارة قوية إلى المؤسَّسات الأوروبية حول ما يمكن توقعه في المستقبل. ورغم أنَّ هذا الحكم ستنقضه في نهاية المطاف محكمة العدل الأوروبية ويتجاهله البنك المركزي الأوروبي، فإنَّ البنك المركزي الأوروبي يواجه رغم هذا قيوداً سياسية تحكم تصرفاته.

سيكون لزاماً على ألمانيا إمّا أن تعرض تقديم دعم مالي جزئي من الاتحاد الأوروبي بأموال دافعي الضرائب من مواطنيها، وإمّا أن تسمحَ لمؤسَّسات الاتحاد الأوروبي بتوفير الدعم المتبادل الكافي (بدءا بميزانية منطقة اليورو) للاتحاد النقدي بالكامل. وإذا كان صندوق تعافي الاتحاد الأوروبي المقترح قادراً على تنشيط ميزانية منطقة اليورو ــ وخاصة وظيفة تثبيت الاستقرار التي لم يتم الاتفاق عليها قَـط ــ فإنَّ هذا في حدِّ ذاته سيمثِّلُ إنجازاً كبيراً.

بالتوقيع على خطة مشتركة مع فرنسا، أدركت ألمانيا أنها لا تستطيع ببساطة أن ترفض كلاً من الدعم النقدي والدعم المالي (أي الاتحاد المالي والتحويلي الناشئ). فكلٌّ من الأمرين ضروريٌّ لبقاء اليورو. ولكن حتى في ظل هذين الدعمين، ستظلُّ أسئلة حرجة بلا إجابة، وخاصة استدامة الدين العام المتصاعد بسرعة في إيطاليا. وسوف يكون لزاماً على إيطاليا أن تخطو خطوات واسعة لاستعادة النمو والقدرة التنافسية الآن بعد أن تلقت ميزتها النسبية المتمثلة في السياحة ضربة شديدة.

في مجمل الأمر، على الرغم من أنَّ أيَّ نهجٍ أوروبيٍّ مشتركٍ في التعامل مع أزمة كوفيد-19 يُـعَـدُّ خطوة في الاتجاه الصحيح (وأفضل من التقاعس التام بكل تأكيد)، فإنه ليس هناك من الأسباب ما يجعلنا ننتظر من الاتحاد الأوروبي أن يخرج عن تقليده الطويل الأمد المتمثل في التخبط بحثاً عن مَـخـرَج من الأزمة. وإذا تمكَّن القادة الأوروبيون من منع الانهيار الفوري لمشروعي الاتحاد الأوروبي واليورو، فإنهم بهذا يتجنَّبون على الأقل التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهائلة المترتبة على المزيد من التفكك السريع. لكن الاستجابة النهائية التي تعكس القصور الذاتي القديم من شأنها أن تجعل أوروبا غير مجهزة للتعامل مع عالم ما بعد جائحة كوفيد-19، حيث تتخذ اقتصادات قارية كبرى أخرى ــ الولايات المتحدة، والصين، والهند ــ القرارات الجيوستراتيجية والاقتصادية الأكثر أهمية.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

نورييل روبيني أستاذ علوم الاقتصاد في كلية شترين لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة Roubini Macro Associates ومضيف موقع NourielToday.com. برونيلو روزا الرئيس التنفيذي ورئيس قسم الأبحاث في مؤسسة Rosa & Roubini Associates، وهو أستاذ زائر في جامعة بوكوني.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org