Dubai Digital Authority - هيئة دبي الرقمية

Contrast

Use toggle below to switch the contrast

Contrast

Read Speaker

Listen to the content of the page by clicking play on Listen

screen reader button

Text Size

Use the buttons below to increase or decrease the text size

A-
A
A+

نهاية الإجماع الاقتصادي

جان بيساني فيري

باريس ــ تفرض الأزمات اختبارات صعبة على الحكومات. في عام 2008، تبين أنَّ معظم الحكومات تفتقر إلى الكفاءة عندما اجتاحت الفوضى المالية العالم المتقدم. وفي غضون بضع سنوات، ترك أغلب قادة هذه الحكومات مناصبهم بعد أن عاقبهم الناخبون بعدم التصويت لصالح إعادة انتخابهم مع وصول الغضب العام إلى ذروته. حتى الآن، استجابت الحكومات بشكل أفضل كثيرًا للتداعيات الاقتصادية المترتبة على صدمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). ولكن هل يكافئهم الناخبون، أو هل يلتهم الغضب الشعبي الأنظمة الديمقراطية مرة أخرى؟ إنَّ مستقبلنا السياسي يعتمد على كيفية تقييم الناخبين لأداء القادة الوطنيين.

لنرجع أولًا إلى الخامس عشر من سبتمبر/أيلول 2008، عندما تقدم بنك الاستثمار الأميركي ليمان براذرز بطلب لإشهار الإفلاس. أعقب ذلك الفوضى المالية، وانزلق الاقتصاد إلى حالة من الركود. ثمَّ سارعت الحكومات إلى محاولة الحد من الضرر. كانت استجابتها الاقتصادية الأولية ماهرة، لكن بلا جدوى على المستوى السياسي: فقد اتهمت بإنقاذ المصرفيين الجشعين الذين فشلت الحكومات في الإشراف عليهم في السابق.

ثمَّ توالت الأخطاء الجسيمة. في أوروبا، بدأت الأخطاء باستجابة افتقرت إلى الكفاءة بشكل ملحوظ لتوقف تدفقات رأس المال المفاجئ إلى اليونان وأيرلندا والبرتغال، لتتحوَّل مشكلات صغيرة إلى شبه كارثة في منطقة اليورو. ثَّم جاء ضبط الأوضاع المالية السابق للأوان، الذي أخرج التعافي عن مساره. نتيجة لهذا، عانت أوروبا من ركود مزدوج، وارتفعت البطالة إلى عنان السماء، وتضاءل الدعم المقدم للحكومات. لقد ضُـبِـطَت هذه الحكومات وقد نامت على عجلة القيادة، راضية عن ذاتها، وجاهلة بما يجري من حولها.

كانت النتيجة أن شرعية النخب الاقتصادية والسياسية عانت بشكل كبير خلال الفترة من ربيع 2008 إلى خريف 2013. وانحدرت الثقة بالاتحاد الأوروبي بنحو 20 نقطة مئوية. وسجل تأييد الأحزاب الهامشية صعودًا سريعًا، في حين اكـتُـسِـحَـت بعض الأحزاب الرئيسية.

لنعد الآن إلى عام 2021. سنجد التباين مذهلًا. على الرغم من الأحداث الأولية المؤسفة المرتبطة بأقنعة الوجه واختبارات كوفيد-19، لم تفقد الحكومات ثقة الجماهير بمجمل الأمر. فقد نسب الناخبون عموما الفضل إليها في الاستجابة السريعة للأزمة الصحية، بل وأكثر من ذلك على الجبهة الاقتصادية. الواقع أنَّ عمليات الإغلاق المنقذة للحياة، وخطط الإجازات التي حافظت على الدخل، والتنسيق الضمني الذي لم تشبه شائبه بين الحكومات والبنوك المركزية، وحملات التطعيم المقتدرة، نالت قدرًا كبيرًا من الدعم العام.

على الرغم من المخاوف المتجددة، وفجوات التفاوت، فإنَّ أغلبية من الناس على مستوى العالم الآن راضون عن الاستجابة للجائحة. وقد عادت الثقة بالاتحاد الأوروبي إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية. هذه النتائج مطمئنة، لأنها تشير إلى أنَّ الحكومات تنال العقاب على السياسات الرديئة والمكافأة على السياسات الجيدة. وعلى الرغم من كل الضجيج والغضب المصاحب للمناقشة السياسية، يبدو أنَّ ما يسمّيه علماء السياسة "شرعية الناتج" ما زال على قيد الحياة وبصحة طيبة.

لكن الأمر لا يخلو من محاذير. الأول أنَّ المواطنين في جميع الاقتصادات المتقدمة الثلاثة عشر التي شملها استطلاع مركز بيو في عامي 2020 و2021 ــ بما في ذلك ما لا يقل عن 83% من الهولنديين ونحو 77% من الألمان المستجيبين للاستطلاع ــ يقولون إنَّ الجائحة جعلت مجتمعهم أكثر انقسامًا.

الحقُّ أنَّ الاستقطاب بين المعسكر المؤيد للقاحات والمعسكر المناهض لها مؤلم، لأنه يجعل الناس يشعرون وكأنهم غرباء عن بعضهم بعضًا في وقت حيث يجب أن تسود روح التضامن. ومن المزعج للغاية حقيقة أنَّ هذه الخطوط الفاصلة تقترن بالهوية السياسية الحزبية وتلازمها، كما هي الحال في الولايات المتحدة، وإلى حدٍّ ما في ألمانيا، لأنَّ هذا يشير إلى العجز عن الاتفاق على أدلة علمية ثابتة. وتذكرنا الاشتباكات العنيفة الأخيرة في هولندا بأنَّ مثل هذه الانقسامات من الممكن أن تصبح بغيضة بسرعة. ولا يقل عن ذلك إثارة للقلق والانزعاج أنَّ الثقة بالعلماء تراجعت بشكل ملحوظ في فرنسا.

يتمثّل التخوف الثاني في أَّن المجادلات السياسية الاقتصادية عادت إلى الظهور. في البداية كان الإجماع قويًّا حول ما يجب القيام به. في أوروبا، تمَّ التوصُّل إلى اتفاق لتعليق القواعد المالية والقواعد التي تحكم مساعدات الدولة دون قدر كبير من المناقشات، في حين كان قرار البنك المركزي الأوروبي بإطلاق برنامج مخصّص لشراء الأصول سريعًا ودقيقًا.

علاوة على ذلك، في مايو/أيار 2020، اتفقت فرنسا وألمانيا على اقتراح مبادرة مالية غير مسبوقة يصدر الاتحاد الأوروبي بموجبها سندات لتمويل التحويلات إلى البلدان الأعضاء الأشد تضررًا، والأكثر ضعفًا، والأقل ثراءً. الواقع أنَّ العملية التي كانت لتستغرق عادة عدة أشهر وتنتهي إلى الفشل، اكتملت في غضون بضعة أسابيع وأسفرت عن التوصل إلى اتفاق.

لكن هذا الانسجام بدأ ينفد. فقد أصبح التضخم في دائرة الضوء. وتشعر أسر الطبقة المتوسطة في شمال أوروبا بقلق متزايد إزاء احتمال تعرض مدخراتها للخطر من قِـبِـل البنك المركزي الأوروبي، حيث أطلقت صحيفة التابلويد الألمانية الشهيرة "بيلد" على رئيسة البنك الفرنسية كريستين لاجارد وصف "السيدة تضخم".

لا يزال البنك المركزي الأوروبي على ثقة من أنَّ الضغوط التضخمية ستنحسر خلال عام 2022. هناك حجج قوية لصالح هذا الرأي، لكن كثيرين في ألمانيا يشعرون بالقلق ــ والذعر أحيانًا ــ إزاء معدل التضخم السنوي الحالي في بلادهم والذي بلغ 4.5%. وأخيرًا، حَـذَّرَ رئيس البنك المركزي الألماني ينس ويدمان من أنَّ "معدلات التضخم قد لا تنخفض إلى ما دون هدف البنك المركزي الأوروبي (2%) في الأمد المتوسط".

إذا تبين أنَّ الانفجار التضخمي الحالي مؤقت، فإنه سيعوض عن النقص السابق في التضخم نسبة إلى هدف البنك المركزي الأوروبي ويساعد على تصحيح اختلالات التوازن التنافسي المتبقية بين شمال وجنوب أوروبا، حيث ترتفع الأسعار بشكل أبطأ. ولكن إذا استمر تجاوز هدف التضخم، فسوف ينهار الإجماع على سياسة الجائحة ويعود الغضب تجاه اليورو إلى الظهور في الشمال.

على الجبهة المالية أيضًا، يتآكل الإجماع بشأن الجائحة وسط الاختلافات المتزايدة بين أولئك الذي يحذرون من خفض العجز والديون قبل الأوان وأولئك الذين يساورهم القلق إزاء ارتفاع الدين العام. وهي مناقشة مشروعة تمامًا. ولكن مرة أخرى، السؤال هو ما إذا كانت المناقشات السياسية لتنتهي إلى تأجيج المنازعات المسببة للاستقطاب، في وقت حيث تحتاج أوروبا إلى التوصُّل إلى اتفاق بشأن إصلاح ميثاقها المالي.

إنَّ تركة الصدمة المشتركة، والخوف المستمر، والانقسامات الحادة داخل المجتمعات الأوروبية تجعل المرحلة الحالية حساسة اقتصاديًّا وسياسيًّا بدرجة خطيرة. وإذا أسيئت إدارة هذه المرحلة فقد يؤدي هذا إلى إعادة فتح جراح قديمة وتحطيم الشرعية التي اكتسبها حديثًا صنّاع السياسات.

في الأزمات، كما في النزاعات العسكرية، لا يجوز إعلان النصر قبل الأوان أبدًا. ذلك أنَّ الفوز في معارك لا يعني إلا القليل إذا انتهت بك الحال إلى الجانب الخاسر في الحرب.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

جان بيساني فيري كبير زملاء مركز الأبحاث بروجل ومقره بروكسل، وكبير زملاء غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، ويشغل كرسي توماسو بادوا شيوبا في معهد الجامعة الأوروبية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org