لا وجود لأوروبا في غياب حكم القانون

هارولد جيمس

برينستون ــ أظهر اجتماع المجلس الأوروبي الذي دام خمسة أيام لمناقشة ميزانية 2021-2027 وحزمة إنفاق الطوارئ لمكافحة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) كل سِـمات القمم الأوروبية: المناقشات الليلية الطويلة؛ والتهديدات من جانب بعض القادة بمغادرة الاجتماع دون التوصُّل إلى اتفاق؛ والضغط الفرنسي الألماني للتوصل إلى اتفاق. وبطبيعة الحال، انتهى كل شيء إلى تسوية غير مُـرضية.

على وجه التحديد، وافق القادة الأوروبيون على تخصيص 390 مليار يورو (457 مليار دولار أميركي) من أصل حزمة الطوارئ بقيمة 750 مليار يورو في هيئة مِـنَـح، والمبلغ المتبقي، 360 مليار يورو، في هيئة قروض، لأنَّ الدول "الأربعة المقتصدة" (النمسا، والدنمارك، وهولندا، والسويد) أصرت على أنَّ الرقم يجب أن يبدأ بثلاثة. تُـرى هل يُـعَـدُّ هذا الترتيب أفضل من التسوية الأخيرة غير الـمُـرضية في مسيرة أوروبا البطيئة نحو تكامل أعمق؟

على مدار سبعين عاماً، كان شعار أوروبا يتلخص في أنها تنمو في الاستجابة للأزمات. كان الزخم الأولي للتكامل في خمسينيات القرن العشرين مدفوعاً بالحرب الباردة. وجاء التكامل النقدي في أوائل التسعينيات وسط الخط الجيوسياسي الفاصل الناجم عن نهاية ذلك الصراع الطويل. وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، علق كثيرون الآمال على تسبب الارتباكات المجتمعة المتمثلة في الهجرة، وتغير المناخ، والتحريفية الروسية، وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والخروج البريطاني، في توليد زخم جديد للمشروع الأوروبي الذي بدا وكأن وقوده نَـفَـد.

ويبدو أنَّ الأمر تطلب أزمة اقتصادية ناجمة عن جائحة لإيجاد هذا الزخم. ولكن في عموم الأمر، لم تكن الأزمات الاقتصادية رحيمة بالتكامل الأوروبي. فهي تميل إلى تقسيم الأوروبيين، بسبب الانقسامات حول سبب المشكلة وما يجب القيام به حيالها. في الفترة بين عامي 2010 و2012، مع تصاعد التوترات بين الشمال والجنوب، ثمَّ بين الشرق والغرب، انهار اليورو تقريباً، مما هدَّد بإسقاط الاتحاد الأوروبي بالكامل.

خلافاً لتلك الأزمة، ليس من الواضح أنَّ الجائحة كانت راجعة إلى أي خطأ سياسي بعينه (على الأقل ليس من جانب الأوروبيين). ولأنَّ بعض العوامل مثل قوة الفيروس ومدى انتشاره وتأثيراته الاقتصادية تكون عشوائية إلى حدٍّ ما، فربما يمكننا أن نسوق حجة مقنعة لصالح التضامن كوسيلة للتأمين الاجتماعي. وعلى هذا فإنَّ التوصل إلى شكل جديد لتبادلية الديون يأتي في صميم هذه الصفقة. ولأول مرة على الإطلاق، سيصدر الاتحاد الأوروبي ذاته الديون، والتي ستكون مدعومة من جانب حكومات البلدان الأعضاء وسوف تخدمها آلية مالية مشتركة تحت رعاية المفوضية الأوروبية.

بالتالي، تخلق الأزمة سابقة، ومن المرجح أن تجعل أصول اليورو أكثر جاذبية في نظر المستثمرين الذين يبحثون عن ملاذ آمن غير الدولار الأميركي. ويبدو أنَّ أوروبا وصلت إلى نقطة أشبه بـ"لحظة هاملتون". في عام 1790، ساق أول وزير خزانة أميركي، ألكسندر هاملتون، حجة مقنعة لصالح إلزام حكومة الولايات المتحدة الفيدرالية بتحمُّل المسؤولية عن الديون التي تراكمت على الولايات أثناء حرب الاستقلال، على أن تتولى خدمة هذه الديون من إيرادات تعريفات الاستيراد.

غير أنَّ صفقة التسوية التي توصل إليها الاتحاد الأوروبي تجاهلت الكثير من العناصر المرغوبة من منظور أولئك الذين طالبوا بأن تكون مِـنَـح وقروض الاتحاد الأوروبي مصحوبة بالمزيد من الشروط التقييدية والالتزامات. وعلى الفور، استدعت هذه المقترحات ذكريات مؤلمة من أزمة اليورو، عندما بحثت الحكومات الوطنية المنكوبة بالأزمة عن طرف ثالث خارجي يمكنها أن تفرغ عليه المسؤولية. وأدى هذا إلى إضعاف مصداقيتها على نحو مزدوج: فقد بدت الحكومات الوطنية عاجزة وهلوعة، وأصبح الطرف الثالث ــ سواء كان ألمانيا أو "أوروبا" ــ تجسيدا للقسوة والانتقام.

حتى قبل القمة الأخيرة، كان من المسلم به على نطاق واسع أنَّ شكل المشروطية القديمة (أزمة اليورو) لن يكون مناسباً. وقد امتدح نائب رئيس الوزراء الإسباني بابلو اجليسياس من حزب بوديموس اليساري الاتفاق لأنه لم يشمل أي "رجال يرتدون الأسود" (عملاء حكوميين) لإدارة عملية فرض التقشف أو غير ذلك من الشروط. أما آلية الاستقرار الأوروبية، بعد إنشائها بتكلفة سياسية كبيرة في عام 2012، فلم تظهر في المناقشات الأخيرة.

لكن المقترحات بشأن المشروطية كانت هذه المرة أقل ارتباطاً بالاقتصاد من السياسة. وكانت الفكرة تتلخص في ضرورة مطالبة أولئك الذين يتلقون أموال الاتحاد الأوروبي باحترام سيادة القانون، والاستقلال القضائي، وحرية الصحافة، والحرية الأكاديمية. وكما أشار في العام الفائت رئيس المجلس الأوروبي آنذاك دونالد تاسك، "فلا وجود لأوروبا في غياب سيادة القانون". ولكن في النهاية، حصلت حكومات غير ليبرالية كتلك في بولندا والمجر على مبالغ ضخمة دون أي ضمان لالتزامها بالامتناع عن المزيد من تقويض المؤسسات الديمقراطية في بلدانها.

تاريخياً، نادراً ما كان فرض حكم القانون في إطار هياكل فيدرالية بالأمر السهل. لنتأمل هنا الولايات المتحدة، حيث كانت خطوة هاملتون المالية الجريئة مجرد بداية. خلال حقبة إعادة البناء بعد الحرب الأهلية، فرض جيش الاتحاد بقيادة الرئيس يوليسيس جرانت حقوق التصويت وغير ذلك من الحقوق المدنية للعبيد السابقين في الكونفدرالية السابقة. وفي عام 1957، فرض الحرس الوطني إلغاء الفصل العنصري في المدارس في ولاية أركنساس. وفي عام 1963، أرسل الرئيس جون ف. كينيدي الحرس الوطني إلى جامعة ألاباما.

على نحو أكثر إثارة للجدال، تنشر إدارة ترامب الآن عملاء فيدراليين مسلحين ضد المحتجين في تحدٍّ لرغبات حكومات الولايات والحكومات المحلية. فقد ظهر جنود يرتدون زياً أخضرَ لا يحمل علامات في شوارع بورتلاند وسياتل، وأشار وزير الدفاع الأميركي إلى الشوارع الأميركية بوصفها "ساحة معركة". الواقع أنَّ الاضطرابات الحالية في أميركا هي على وجه التحديد ما يجب على الأوروبيين أن يسعوا إلى تجنبه.

في كل الأحوال، من غير الممكن أن نتصور سيناريو الحرس الوطني في أوروبا الحديثة. فلن نرى قوات أوروبية تتحرَّك لدعم الحرية الأكاديمية أو حقوق المثليين في أي من البلدان الأعضاء. ولا أحد يدعو إلى فرض لحظة هاملتون على طريقة جرانتيان، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الرجال الذين يرتدون الزي الأخضر يشكلون تهديداً أعظم من ذلك الذي يفرضه الرجال الذين يتردون الأسود.

يقوم الحكم الأوروبي المعاصر على الإقناع والخطاب العقلاني. ومع ذلك، فإن الطريقة الوحيدة لإنجاح أوروبا المتحضرة تتخلص في تطبيق المشروطية السياسية. ويتطلب الدفاع عن القيم الأوروبية معاقبة الانتهاكات الجهازية، سواء بتعليق حقوق التصويت للمجرمين الأوغاد في عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي أو وقف مدفوعات الاتحاد الأوروبي.

الآن، سوف تُـبـنى أوروبا من خلال التحويلات المالية والالتزامات التي تنشأ عنها. ولكن في نهاية المطاف، كان تاسك على حق: فمن غير الوارد أن يكون للاتحاد الأوروبي وجود ما لم يلتزم جميع أعضائه بذات المعايير.

ترجمة: ماسية كامل          Translated by: Maysa Kamel

هارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون وكبير زملاء مركز إبداع الحوكمة الدولية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org