التغلب على ارتباك خدمات الصحة الأساسية بسبب الجائحة

أناتول مانزي

كيجالي ــ تعطل تقديم الرعاية الصحية في كل البلدان تقريباً بسبب افتراض أولي خاطئ من جانب صناع السياسات مفاده أن الأنظمة الصحية ستتمكن من تحقيق فوز سريع في المعركة ضد جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). مع تزايد عدد حالات الإصابة بالعدوى والوفيات في هذه الجائحة يومياً، يتسبب هذا في إيقاف أو عكس اتجاه التقدم الذي أحرز بشق الأنفس في ما يتصل بالحد من تأثير أمراض أخرى، من السكري إلى الملاريا.

في بداية الجائحة، اعتبر العديد من صناع السياسات والقادة الصحيين أن تعطل خدمات الصحة الأساسية لمدة قصيرة نسبياً أمر مقبول، ولكن بات من الواضح الآن أن أزمة كوفيد-19 ستستمر لفترة أطول كثيراً مما كان متوقعاً. لم يعد بوسع البلدان تأجيل تسليم الخدمات الصحية المهمة. وفي غياب التحرك الفوري لضمان استمرارها، ستكون حصيلة الوفيات في المستقبل بسبب الأمراض المعدية وغير المعدية مرتفعة إلى حد غير مقبول.

في تقدير أخير مخيف للتكاليف العالمية المترتبة على أزمة كوفيد-19، ذكرت مؤسسة بِـل وميليندا جيتس أن الجائحة، في غضون 25 أسبوعاً، أعادت العالم إلى الوراء بنحو 25 عاماً في ما يتصل بتغطية اللقاحات ــ وهو دليل جيد على كيفية أداء الأنظمة الصحية لوظيفتها في الإجمال. ومن الواضح أن الوقت حان الآن للتأكد من عدم تراجع خدمات الصحة الأساسية.

يتطلب هذا تخصيص التمويل، وتبني أساليب مبتكرة، وإضفاء طابع غير مركزي على الخدمات حتى يتسنى لها الوصول إلى المجتمعات الأكثر مرضاً وفقراً في العالم. وينبغي لصناع السياسات أن يعكفوا على إعادة تخصيص الأموال في الميزانيات الوطنية وتكوين الشراكات مع المستثمرين من القطاع الخاص لحشد الموارد اللازمة. من الأهمية بمكان أيضاً إنشاء صناديق تضامن محلية وعالمية، على غرار الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا؛ فإنشاء مثل هذه الصناديق المخصصة من الممكن أن يساعد البلدان والمؤسسات المتعددة الأطراف في الحفاظ على استمرارية خدمات الصحة الأساسية، وبالتالي تعزيز أنظمة الرعاية الصحية والاقتصادات الوطنية في الأمد البعيد.

حتى قبل الجائحة، كانت التقديرات تشير إلى أن نصف سكان العالم البالغ عددهم 7.8 مليارات نسمة يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى خدمات الصحة الأساسية. على مستوى العالم، يموت ستة ملايين طفل ومراهق، فضلاً عن 2.8 مليون امرأة حبلى وطفل حديث الولادة، سنوياً، بسبب أمراض يمكن الوقاية منها أو علاجها. كما تسببت جائحة كوفيد-19 في زيادة هذه الأرقام وتآكل القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية.

كان خبراء الصحة العالمية لفترة طويلة على دراية بالارتباكات التي قد تحدثها حالة طوارئ طويلة الأمد في الخدمات الصحية. في عام 2018، حددت منظمة الصحة العالمية حزمة أساسية من الخدمات التي يجب أن تكون متاحة بدون رسوم أثناء الأزمات الممتدة. وتشمل هذه الأزمات الرعاية الصحية للأمهات وحديثي الولادة فضلاً عن علاج الأمراض المعدية وغير المعدية، والصحة النفسية، وأمراض المناطق المدارية الـمُـهـمَـلة.

وهنا يبرز العديد من التحديات التي تحول دون تمكين تسليم هذه الحزمة. فأولاً، تراجعت الخدمات المقدمة للأمراض غير المعدية بشكل ملحوظ؛ فبين 155 دولة شملتها دراسة استقصائية أجرتها منظمة الصحة العالمية، تحدث 53% عن تعطل جزئي أو كلي لخدمات علاج ارتفاع ضغط الدم، ونحو 49% عن تعطل خدمات علاج مرض السكري، ونحو 42% عن تعطل خدمات علاج السرطان، ونحو 31% عن طوارئ أمراض القلب والأوعية الدموية.

كما تأثر اختبار وعلاج مرض فيروس نقص المناعة البشرية والسل. كانت جنوب إفريقيا بين البلدان الأكثر تضرراً بهذه الأمراض. وأثناء فترة الإغلاق، أدى تضاؤل اختبارات السل إلى تراجع التشخيص بنسبة 33%. كما انخفض عدد مرضى السل ونقص المناعة البشرية الذين يطلبون أدويتهم في الموعد المحدد. ومن المؤكد أن ضعف الالتزام على هذا النحو من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة حدة مقاومة الأدوية، والفشل العلاجي، وارتفاع تكاليف العلاج.

غير أن بعض البلدان الأخرى، بما في ذلك رواندا، ونيوزيلندا، وتايوان، أظهرت نجاحاً لافتاً للنظر في ضمان استمرارية خدمات الصحة الأساسية. في تايوان، على سبيل المثال، استمرت تغطية الرعاية الصحية الشاملة المنخفضة التكلفة طوال فترة الجائحة، وواصلت رواندا تشغيل مركز جديد للعلاج الإشعاعي لعلاج السرطان.

في سيراليون، حيث تتعرض واحدة من كل 17 من الأمهات لخطر الوفاة المرتبط بالولادة مدى الحياة، يعمل مستشفى كويدو الحكومي في منطقة كونو مع منظمة "شركاء في الصحة" العالمية غير الربحية، في إدارة حملة اتصالات جماعية لتذكير النساء الحوامل باستخدام خدمات الأمومة. وبعد انخفاض حاد في زيارات ما قبل الولادة، عادت النساء مرة أخرى إلى استخدام هذه الخدمات.

كما تبتكر العيادات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا لمواصلة مراقبة علاج 19 مليون مريض بالسكري في المنطقة أثناء الجائحة. على سبيل المثال، عملت جمعية الغدد الصماء والتمثيل الغذائي في الكاميرون على تطوير عشر "قواعد ذهبية" في إدارة التصدي لجائحة كوفيد-19 ومرض السكري، بما في ذلك المعلومات حول التمرينات أثناء الولادة. كما قدمت عيادات مرض السكري برنامج للاستشارات عن بُـعـد للحد من الحاجة إلى زيارة العيادات الخارجية.

علاوة على ذلك، تبحث بعض البلدان عن طرق مبتكرة لضمان تقديم الرعاية. على سبيل المثال، تستخدم رواندا طائرات بدون طيار لتوزيع الأدوية على مرضى السرطان وروبوتات لمراقبة العلامات الحيوية لمرضى كوفيد-19 ومنع العدوى الملتقطة في المستشفيات.

لتحقيق نتائج مماثلة، تحتاج بلدان عديدة بشكل عاجل إلى إصلاح أنظمة تخصيص وتسليم الرعاية الصحية. وحيثما أمكن، يجب إدماج جهود تقديم خدمات الصحة الأساسية، بما في ذلك فحص حالات مثل الحمل العالي الخطورة والأمراض المزمنة، في مراكز اختبار وعلاج كوفيد-19.

علاوة على ذلك، من الممكن أن يؤدي إضفاء طابع لا مركزي على الخدمات الصحية إلى تعزيز الاستعداد الجهازي والحد من الارتباك. ويتطلب هذا تدريب فريق موسع من العاملين في مجال الصحة المجتمعية، بما في ذلك أرباب الأسر، والمعلمين، والقادة الدينيين، والمعالجين التقليديين. في ليبيريا، على سبيل المثال، يضطلع المساعدون في مجال الصحة المجتمعية بدور مركزي في الاستجابة لكوفيد-19، في حين يواصلون تسليم الخدمات الأساسية.

من الواضح أن ارتباكات أنظمة الرعاية الصحية نتيجة لأزمة كوفيد-19 يمكن التغلب عليها. من الأهمية بمكان أن تعيد البلدان تقييم استراتيجياتها في تسليم الخدمات وأن تعكف على تنفيذ استثمارات موجهة في خدمات الصحة الأساسية؛ فالقيام بهذا من شأنه أن يعزز قدرتها على الصمود في مواجهة أزمات صحية مماثلة في المستقبل.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

أناتول مانزي نائب الرئيس الطبي المسؤول عن الجودة السريرية وتقوية الأنظمة الصحية في منظمة "شركاء في الصحة"، وهو أستاذ مساعد في جامعة عدالة الصحة العالمية في رواندا، وزميل أصوات أسبن الجديدة لعام 2020.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org