كوفيد 19 في زمن انعدام الاستقرار

الحسن بن طلال

لقد شهدت البشرية كثيراً من الجوائح خلال تاريخ العالم وقد حافظت على بقائها. وقبل قرون مضت قامت ممالك ودول أوروبا الوسطى والغربية بإلغاء مؤسسة الرق بعد أن أضحى من الواضح  أن حكم القرون الوسطى سوف تهتز أركانه بعد انتشار وباء مدمر في حال عدم إنهاء التبعية والرق اللذين ميزا "العصور المظلمة" آنذاك. وأثناء انتشار الأنفلونزا الإسبانية، دفع الضعف الذي عانت منه أمم بأكملها والتهديد بالانهيار التام في ظل غياب توافر الرعاية الصحية للجميع، دفع الحكومات نحو بناء أنظمة الرعاية الصحية العامة التي جعلت من الممكن تحقيق التقدم والتنمية التي شهدناها في المائة عام الماضية. وإذا كان الماضي مقدمة للمستقبل، فإنَّ الاستمرارية والبقاء يتطلبان منّا التغيير.

لقد تضامن العالم سوياً لمرات عديدة في مواجهة أنواع شتى من التهديدات. في الواقع، إنَّ فايروس كوفيد-19 بات يهدد بشكل كبير هياكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وقد يلقي المرض والكساد والخوف بظلاله الداكنة وبوتيرة سريعة على الدول والمجتمعات. وكل يوم آتٍ يحمل في طياته تحديات متنامية ينبغي مواجهتها مثل رعاية المسنين، الحد من تأثيرات الإغلاقات في حياة الناس وسبل رزقهم، تأمين تدفق المياه الكافية، وكذلك الغذاء والطاقة، إضافة إلى الإسراع في الجهود الرامية إلى إيجاد العلاج. إنَّ النجاح- كما هي الحال في صراع غير متوازن- يعتمد على المثابرة. ولاحتواء تداعيات الأزمة الاجتماعية-السياسية والاجتماعية- الاقتصادية يجب أن تتركز جهود ومساعي صانعي السياسة والقرار على الرفاه والكرامة الإنسانية كنقطة ارتكاز وأساس للأمن الوطني والدولي.

إنَّ أعضاء المجتمع الأكثر تعرُّضاً في بعض أجزاء عالمنا هم أولئك الذين يتقدمون الصفوف في الأزمة: الأطباء، الممرضات والممرضون، مقدمو الرعاية، الصيدلانيون، المزارعون، بائعو محلات البقالة وسائقو الشاحنات من الذين سنعتمد على شجاعتهم وتضحياتهم وإخلاصهم خلال الإغلاقات المتوقعة في غضون الأشهر الـ12 إلى 18 القادمة. وفي غياب مساندة الدول، ماذا سيحدث لمئات الآلاف من الناس الذين تمَّ تسريحهم من عملهم، في حين أنَّ ملايين آخرين يواجهون العسر المرتقب على خلفية الأعداد المتنامية من العاملين الذين سيتمُّ تسريحهم من عملهم. سوف يستمر البعض في تجاهل الضعفاء والمهمشين، أولئك الذين لديهم مساعدات إنسانية في حدها الأدنى، في حين سيستمر آخرون في استغلالهم. إن الدعوات للتباعد الاجتماعي قد تنامى صوتها وتكرارها خلال اليومين المنصرمين، وخلال الشروع في التباعد بعضنا عن بعض يجب علينا أن لا ننسى واجبنا الإنساني تجاه بعضنا البعض.

إنَّ الأمن، ليس في الواقع مسألة فردية البتة، ولكنه جماعي وعالمي؛ وتستدعي الأزمة الراهنة تفكيراً سامياً من قِبَل جميع السياسيين من مختلف الأطياف. إن المساحات الرمادية في السياسة حيث ينتشر منطق الدمار المتبادل المؤكد لن تحافظ أوتعزز الكرامة الانسانية والرفاه. ويجب الآن على المحافظين والإصلاحيين أن يتجاوزوا عن التنافس ولوي الأذرع في مضمار السياسة. إن منطق البقاء المتبادل المؤكد لا يمكن أن يتقبل هذه المساحات الرمادية. وإذا كان حل الصراع يسمو على المعتقدات السياسية، القومية، العرق، الجندر والدين، فإن الكرامة الانسانية والرفاه هما المقياس المثالي للالتزام الإنساني تجاه الحياة.

إنَّ الوسطاء الذين يُعتمد عليهم في إدارة هذه الأزمة وأزمات أخرى موجودون، ومنهم على سبيل المثال الصليب الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود. وتتطلب مسؤولية الشركات الاجتماعية، في الواقع، تطوير منصة عامة للحقائق الصحية والواقع الصحي حيث يكون بالإمكان تعزيز محادثات واستشارات بين الناس من خلال المجتمع المدني والإعلام والمؤسَّسات التعليمية وغيرها. ولا يمكننا الحديث عن الطاقة وتغير المناخ بمعزل عن الصحة أو التعليم والكرامة الانسانية. كما ينبغي للمهاجرين واللاجئين أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من الاستجابة الوطنية لوقف تفشي فايروس الكورونا المستجد. وحسب لجنة الأمم المتحجة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) فإن 55 مليون من الناس في إقليم غرب آسيا يحتاجون إلى نوع ما من المساعدة الإنسانية، وإن ضعف النساء والبنات المهجرين جلي ويتزايد في ظل مثل هذه الجائحة. إنَّ عدم الاستقرار في مرحلة ما بعد الصراع- لئن كان ذلك في بلدان شهدت دماراً من جراء الحرب أو في المدن والأرياف في اقتصادات متقدمة اجتاحها المرض- يمكن معالجته فقط من خلال دراسات مسحية جادة بغية تمكين الوصول إلى المساعدة الإنسانية. إنَّ بلداناً مثل اليمن وسوريا وغزة وليبيا يمكن أن تكون ضعيفة إلى حد كبير إزاء هجوم الأوبئة. وعندما تنتهي الحروب ما هو الشيء الذي سيكشف السلام النقاب عنه؟ 

يتعزز عدم الاستقرار الإقليمي في غياب التعاون، إلا أن النظام متعدد الأطراف والتكامل سيسهم في مواجهة أزمة وجودية. لقد تضرر التضامن الأوروبي بشكل ملحوظ من جراء تفشّي المرض بينما أثبتت الصين فاعلية الإجراءات السريعة والفعّالة كما تجلى في مساعدتها لإيطاليا. إنَّ التعاون ونظام تعدُّد الأطراف اليوم يمكن إعادة تفعيله من جديد من خلال التركيز على الأولويات في ظل حقول معرفية شتى المتصلة بالقرن الواحد والعشرين والتي تتضمن تأكيد الحاجة لقانون سلام. نحن نقدم تنازلات إنسانية من قانون الحرب في أوقات السلام، ولكننا لا نلجأ إلى الأدوات القانونية التي من شأنها تأمين الكرامة والرفاه للجميع في أوقات الحرب.

إنَّ الأزمة الراهنة تمثل أزمة صحية عالمية بالقدر نفسه التي هي أزمة في العولمة التي أصبحت تقوض أسس المجتمع الحديث الذي يشوبه تنامي في عدم المساواة والظلم، وأصبح ذلك يهدد بقائنا كجنس بشري وبخاصة في ظل التغيرات المناخية.  كوكب الأرض الذي نتشارك فيه مع مخلوقات أخرى هش ومعرض للأزمات. إن حلَّ معضلتنا يقتضي منا أن نوسِّع نطاق أخلاقيات التضامن البشري إلى مدى يتجاوز ردنا المباشر والراهن لتفشي كوفيد-19. النجاح الحقيقي لا يكمن في التعامل مع أعراض وأسباب المرض أو في إعادة اكتشاف قيم الرأفة والرحمة والاحترام والكرم فقط، ولكن في مأسسة هذه القيم في القادم من الأيام والأسابيع والشهور.

رئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية، عمل بمعية أخيه جلالة المغفور الملك الحسين خلال مفاوضات السلام.

Copyright: Project Syndicate, 2020.
www.project-syndicate.org