الـفـقـر ظُـلـم

إدموند س. فيلبس

نيويورك ــ في قسم كبير من العالم، يتجلّى بوضوح شعور بالقلق إزاء الأجور الشديدة التدني التي يتلقاها من هم أقل حظاً وضحايا التمييز العنصري والجنسي الكثيرون. ورغم أنَّ الإعفاءات الضريبية للأمهات المنفردات من ذوات الدخل المنخفض توفّر لهنَّ الدعم وتسهم في تنمية أطفالهن، فلا تزال هناك علامات تدلل على انتشار الفقر بين العاملين: سوء التغذية، واعتلال الصحة، وتعاطي المواد المخدرة.

المسألة التي تحظى بقدر أقل من التقدير هي أنَّ العديد من العمال من ذوي الأجور المنخفضة يضطرون غالباً إلى رفض العمل الحقيقي؛ لأنه أقل أجراً. وبدون "وظيفة جيدة"، لا يستطيع هؤلاء العمال الحصول على "الحياة الكريمة". وتشكِّل مثل هذه النتائج، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة، علامات كئيبة تدلل على أن شيئاً ما لا يسير على الوجه الصحيح: فالمشكلة ليست في "التفاوت" بين الناس، بل في درجة عالية من الظلم.

الواقع أنَّ قطاعات عريضة من المجتمع تشعر بإحباط عميق إزاء الاتجاه الهابط في مكافآت العمل والمشاريع. منذ سبعينيات القرن العشرين، بدأ تراجع عام في الرضا الوظيفي فضلاً عن توقف نمو الأجور الحقيقية فعلياً في الولايات المتحدة، ولاحقاً في المملكة المتحدة، وفرنسا، وربما أجزاء من ألمانيا وبعض البلدان الأخرى. علاوة على ذلك، انخفضت أسعار الفائدة الحقيقية إلى نقطة التلاشي تقريباً. كان هذا راجعاً إلى تراجع الإبداع. ومن الواضح أن عيباً ما في آلية الرضا البشري لم يُـعالَـج على النحو الوافي.

بينما تعمل المجتمعات الغربية على ضمان العدالة الاقتصادية، من الضروري أن تستعيد تجربة الحياة الكريمة الواسعة النطاق وتصونها. وهذا يعني توفير العمل الحقيقي كما هي الحال في رأسمالية المؤسسات، حيث يخصص المشاركون ثرواتهم المتراكمة وقدراتهم المتطورة لإنشاء صناعات عديدة والاستثمار في مشاريع مختلفة. للقيام بذلك، قامت الدول بتربية وتثقيف أشخاص يمكنهم ممارسة إبداعهم من خلال تصور أساليب ومنتجات جديدة ــ وكذا أشخاص يتمتعون بالحكمة والقدر الكافي من الشجاعة لخوض المجازفة في دعم الإبداع والابتكار.

في الوقت ذاته، بدأت تدور مناقشة حول العدالة الاقتصادية. وبفضل أصوات في الحزب الديمقراطي، بما في ذلك المرشّح الرئاسي جو بايدن، ارتفعت التوقعات بأنهم، في حال انتخابهم، سيعالجون المظالم التي صرخ بها الناخبون في مؤتمرهم الأخير. في المقابل، زعم الجمهوريون ــ منذ عهد رونالد ريجان، ومن حين إلى آخر في عهد ترامب ــ أنَّ التدابير التي تستهدف تضييق فجوة التفاوت تأتي على حساب النمو الاقتصادي.

وهم يقصدون البرامج الأميركية الواسعة النطاق لزيادة الدخول بين الفقراء العاملين على مدار العقود العديدة الماضية، بدءاً ببرنامج "المجتمع العظيم" الذي أطلقته إدارة ليندون جونسون في ستينيات القرن العشرين، والإعفاء الضريبي على الدخل المكتسب في السبعينيات. وأيضاً، كما لوحظ أخيراً، شَـرَّعَ الديمقراطيون برنامج "ميديكير، وطوابع الطعام، وبرنامج هيد ستارت، ومجموعة من البرامج الأخرى التي ساعدت ذوي البشرة البيضاء والأقليات على حدٍّ سواء". هل تسبب كل هذا في إبطاء النمو؟

يبدو أنَّ نمو الإنتاجية ــ أو على نحو أكثر دقة، إنتاجية العامل الكلي، وفي نهاية المطاف إنتاجية العامل ــ تباطأ بعد استنان هذا التشريع مباشرة، وباستثناء سنوات الذروة خلال ثورة الإنترنت ظلَّ منخفضاً. ومع ذلك، كما تؤكد المقولة القديمة، فإنَّ "علاقة الارتباط ليست علاقة سببية".

تتلخص أطروحتي المضادة، التي نوقشت مطولاً وتخضع الآن للاختبار على نطاق واسع، في أنَّ تباطؤ الإنتاجية الكبير كان راجعاً في حقيقة الأمر إلى خسارة كبرى في عدد الأشخاص الذين ما زالوا حريصين على ابتكار منتجات وأساليب تجارية جديدة، وليس المجتمع العظيم. من غير المعقول بكل تأكيد أن يقع اللوم على أولئك الذين ساعدهم المجتمع العظيم. على أية حال، لا يبدو أنَّ هناك أيَّ دراسات اقتصادية قياسية تُـظـهِـر أنَّ البلدان الأكثر تقديماً للمساعدات للبلدان المحرومة كانت أقل نمواً.

هناك أيضاً القلق بشأن سجل آخر: والذي يمكن وصفه على أنه "عبء القدرة المالية". يخشى بعض الاقتصاديين وقادة الأعمال أن تفشلَ زيادة معدلات الضرائب المرتفعة بالفعل على أمل جمع الأموال اللازمة للحد من الفقر بشكل كبير في جمع كم إضافي كبير من الإيرادات. بل إنَّ الإيرادات ربما تُـفـقَـد مع قيام دافعي الضرائب بخفض معروضهم من العمالة وفقدان الشركات الاهتمام بزيادة كفاءتها. ومع ذلك، لن نجد أيَّ دليل أكاديمي يشير إلى أنَّ الاقتصادات الغربية ــ وبالتأكيد ليس الاقتصاد الأميركي المنخفض الضرائب ــ بلغت حدود قدرتها المالية.

على هذا فإنَّ الولايات المتحدة (وغيرها من الحكومات الغربية بدرجات متفاوتة) لديها الحيز الكافي لمهاجمة الظلم الاقتصادي. ولرفع دخل العمال من ذوي الأجر المنخفض إلى مستوى معقول، يتعيَّن على الدولة أن تنشئ جدولًا لإعانات الدعم من أجل رفع معدلات أجور من هم عند القاع بأكبر قدر من القوة. ثمَّ يحدد الجدول بعد ذلك إعانات دعم أقل على نحو متدرج لكل شريحة أجور تصاعدية.

الواقع أنَّ قدراً كبيراً من الاهتمام الموجه الآن للظلم الاقتصادي مستمد من نظرية العدالة، العمل التاريخي الذي قدمه الفيلسوف جون راولز قبل ما يقرب من 50 عاماً. من اللافت للنظر أنَّ راولز زعم أنَّ العدالة تتطلب رفع دخول أصحاب الأجور الأدنى إلى الحد الأقصى ــ وهو ما يستتبع فرض الحد الأقصى من الزيادات الضريبية. (بعد ذلك بفترة وجيزة قمت ببناء نموذج ضريبي على طريقة راولز في بحث نُـشِـر عام 1973). بطبيعة الحال، تُـسـتَـخـلَـص أي نظرية من قدر كبير من النتائج، وقد ركز راولز على الفقر من جميع المصادر. ومنتهى أملي اليوم هو أن أعمل من أجل اقتصاد شامل وعادل.

في حين أنه من المهم معرفة طريق الخروج من الفقر، فمن المهم بذات القدر أن نعرف الطرق التي ينبغي لنا أن نتجنب سلوكها. فيجب أن نعارض الدخل الأساسي الشامل ــ الاستخدام المؤسف للإيرادات العامة التي يمكن توجيهها بطريقة أفضل نحو زيادة دخل العمال ذوي الأجور المنخفضة إلى مستوى يمكنهم من إعالة أنفسهم، وهو ما يشكِّل ضرورة أساسية لتقدير الذات. لكن الدخل الأساسي الشامل من شأنه أيضا أن يجتذب (أو يُـبقي) الناس وأبناءهم بعيداً عن العمل، والذي يشكل بالنسبة لكثيرين السبيل الوحيد المتاح لتحقيق الذات وتلبية هدف المشاركة في العالم.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

إدموند س. فيلبس حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد لعام 2006، وهو مدير مركز الرأسمالية والمجتمع في جامعة كولومبيا، ومؤلف كتاب "الرخاء الجماعي"، والمشارك في تـأليف كتاب "دينامية".

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org